أي السبل سنتخذ في اقتصادنا؟ هل نقنع باقتصاد السوق اللبرالي، أم نتجه إلى رأسمالية الدولة ونحيل الاقتصاد إلى حظيرة الحيوانات ونرجع للنظام الاشتراكي، أو لنتركهما ونزاوج بينهما بلا شهود عدول ونتوه؟ * لدينا سؤال ملح اقتصادياً: هل نقنع بالتجربة الصينية، وليس لنا نظام دكتاتوري، أم نسير في الطريق الرأسمالي وفخ العولمة ومصائبها؟ نحن في حاجة لمختصين يسابقون رياح التغيير، يتنبؤون قبل أن تحل علينا الأمطار والغبار. نحن في مرحلة أقرب لهاوية سحيقة.
(1) ليس الاقتصاد خادماً يقدم لنا قهوة الصباح ونحن نتصفح الصحف اليومية، بل نحن نقف في حافة الهاوية الاقتصادية، بين أهوائها المتغيرة وعواصفها التي تقتلع الثوابت. لدينا عولمة شرسة، ففي عام 2008 القريب، هبت عاصفة الكساد الكبير، واجتاحت أسواق العالم، صغيرها وكبيرها والمتوسط ، البعيدة والقريبة. في ظل غياب الدولة السودانية اقتصادياً وهي منعزلة في مستشفى للأمراض المتوطنة و في عالم مجنون، وهي طريحة الغيبوبة منذ أيام المخلوع. * لقد كان من قادة مؤتمر الخريجين عام 1938 مهندسان، أحدهما مؤسس المؤتمر في مدني ( إبراهيم أحمد) والآخر( محمد أحمد محجوب )، والثاني درس الهندسة في كلية غردون، ثم تركها ودرس القانون، وأثلج صدور العامة بكثرة ضجيج خطبه في البرلمان السوداني. البقية محامون وأدباء، وفيهم مدرس رياضيات في كلية غردون، ترك التدريس واتجه للسياسة ، وأعادته مدرساً إذاعة أم درمان، إذ أعلنت وفاته في أغسطس 1969، بعد خوف انقلابيو 25 مايو 1969 من جماهير التشييع وهم يحملون جثمان الزعيم الأزهري إلى مقابر أحمد شرفي. * لم يصنع لنا آباء الاستقلال اقتصاداً يتعتد به، بل قشروا جلودهم ، وبانت بداوتهم. لا يفهمون الزراعة الحديثة ولا الصناعة الحديثة، لينقلوا السودان خطوة اقتصادية كما فعلت ماليزيا أو كوريا الجنوبية، بل انتظروا حتى قدم تتار(الترابي) لتهدم عروش الاقتصاد، كما نثر التتار الأصل الكتب والأسفار في نهر دجلة لتعبر جنودهم وتهزم دولة الخلافة التي يتغنى بها الإخوان المسلمين في كل حين.
(2) ما كان يزعمه الماركسيون قبل مائة عام من مزاعم كانت مشكوك في صحتها كلية آنذاك، أضحت الآن حقيقة. فالرأسماليون يزدادون ثراء والطبقة العاملة تزداد فقراً. وإن المنافسة المعولمة تطحن الناس طحناً وتدمر التماسك الاجتماعي. خيارات الاستمرار في التنافس بلا رحمة أو هوادة على زيادة الجدارة و الكفاءة على العمل الأرخص كلفة. لم يعد المنتجون الحقيقيون ( أي العمال ) سوى عنصر يتسبب في تصاعد التكاليف أو هبوطها، إنهم أدوات دونما حقوق، أدوات بالإمكان دفعها نحو الهاوية في كل وقت لاحق. لاريب في أن للمعجزة الأسيوية أيضاً جوانب سلبية: إذ اقترن الازدهار الاقتصادي بالرشا والاضطهاد السياسي والتدمير العظيم للبيئة والاستغلال غير المحدود للموارد، في أغلب الأحيان استغلال للعاملين المحرومين من الحقوق وللنساء منهم على وجه الخصوص.
(3) لقد قدمت المدرسة اللبرالية المحدثة في العلوم الاقتصادية بحوثاً ودراسات بلغت من الكثرة بحيث صارت تكوّن مكتبات كاملة. وتحاول هذه البحوث والدراسات إثبات أن سبب الأزمة السائدة في سوق العمل يكمن فقط فيما تحقق من تقدم في التكنولوجيا وفي أساليب إدارة المشروعات، وليس بسبب التشابكات والمنافسة العابرة للحدود. ففي العالم الحقيقي تكون كلتا الظاهرتين مترابطتين ترابطاً وثيقاً، لأن التشابك العالمي هو الذي يمنح التقدم التكنولوجي تلك القوة الفعالة التي تهمش ملايين العاملين. ستبقى الرسوم الجمركية حمائية لتقييد التجارة سلاحاً غير فعال، ما دامت مقتصرة على مواجهة البلدان الزهيدة الأجور. ستنجح فقط في حالة إغلاق حدودها، في وجه المنافسة القادمة من البلدان المتطورة الأخرى. ذلك لأن المنافسين سيردون بالمثل. إنها استراتيجية فوضوية بكل تأكيد. إضافة ستدفع هذه الدول ثمن حمايتها للأساليب التكنولوجية المختلفة، سيمثل خسارة في مستوى الرفاهية. وسوف يتعين على دول الرفاه الاقتصادي أن يقبلوا ضيق في العيش في المستقبل بسبب أن العاملين بأجور زهيدة يغرقون الأسواق.
(4) لن نلتفت إلا بغضب إلى الخلف، فلا شيء يمكننا أن نعتبره أساساً يمكن البنيان عليه، فقد انهارت البنيات الاقتصادية كلها، وصارت هباء وسط دوامة العاصفة. يتعين أن تبدأ زراعة بأسس جديدة، وننسى الزراعة ذات الري الانسيابي التي بدأت عام 1913. وننسى التصنيع الذي بدأ بمصنع كوستي لتعليب اللحوم، التي كانت غذاء جنود حرب العلمين أثناء الحرب العامية الثانية. * ننسى كل ذلك، ونبدأ من حيث انتهى غيرنا، وتمليك أمورنا التقنية للمتعلمين أصحاب الخبرات، وفق خطط اقتصادية واضحة، ودراسات جدوى حقيقية وإحصاء. فقد شبعنا من ( سليقة الشوارع ) التي ظلّلت بقذاراتها الطرقات من فعل الإسلاميين المدجنين بالتمكين، لا تمرّ أمطار الموسم إلا وتأخذها أخذ (مليك مقتدر)!. * سقط ميزان المدفوعات عام 1975، وبدأنا نصدّر أقل مما نستورد، يتعين أن يتصحح ذلك. تسيب عام أدى لتصدير: إناث الحيوانات، وشجر الهشاب، والكركدى مع بذرته، وشاع التهريب كأنه فلاح ما بعده فلاح، يجب أن يتصحح ذلك. لا حديث عن اليد القصيرة وسط أماني تنتظر. ما أسهل عودة قوانين عام 1974 للجنايات إلى العمل، ويكفي صراخ الإخوان المسلمين.