روح تهيم في الأجساد، وتذهب إلى الأحلام. كانت الأحلام غائمة في البعيد، كأنها مضطربة ، تبحث عن سبيل إلى الخلاص. فالأجساد جاءت منفردة ، بلا عوائل. وانشقت النفوس من الظروف الحياتية الغريبة. لا يستطيعون الرجوع لأصولهم القبلية، فهنالك فروق في طرق المعيشة والثقافة وتدخل فيها العقيدة، فهم لا يستطيعون الاندماج في مجتمعات الشمال لأنهم لا يبيحون لهم الاندماج عن طريق الزواج، بسبب جذورهم المحررة من ربقة الرق، بينما يحتفظون بثقافة الشمال. ولا كانوا شماليين ولن يصيروا ضمن أعراقهم السابقة في قبائلهم الأصلية. وهي قضية ربما يلعب الزمن دوراً في نسيانها، وربما تخف غلواء المجتمعات تجاههم، وتسمح ماكينة المجتمع بالذوبان بعد وقت طويل.
* العُبُودِيَّة أو الرِّقّ مصطلح يُشير إلى حالة امتلاك إنسان لإنسان آخر، ويطلق على المالك مسمّى السَّيِّد وعلى المملوك مسمّى العَبْد أو الرقيق. وكان الرقيق يباعون في أسواق النخاسة أو يشترون في تجارة الرقيق بعد اختطافهم من مواطنهم أو بعد أسرهم في الحروب والغزوات أو بسبب إهدائهم من قبل أهاليهم أو مالكهم. * يتميز المنبتّون بأنهم يختلفون عن القبائل الأفريقية في الجنوب و النيل الأزرق وجبال النوبة ودارفور ، إذ أن هذه القبائل التي عانت من أن ثقافتها تختلف عن الثقافات الشمالية، وثقافتهم ووضعهم الطبقي في قدر أدنى من القبائل الشمالية، ولكنهم يتميزون عن المنبتّين ذوي المصير المجهول. * ربما وجدت شريحة( المنبتيّن) شغلها الشاغل في الغناء والموسيقى، خلال مكر المجتمع بأن هؤلاء المنبتين تجري الموسيقى والرقص والغناء في دمائهم. وكان المجتمع يعتبر أن وظيفة الغناء والموسيقى والرقص هي من إبداعات الطبقات الدنيا في مجتمع الرقيق، وأنه من عيوب المجتمع أن يعتقد بأن منْ يعمل فيهما يعتبر من سلالة العبيد المحررين. * أفردت الدكتورة "يوشيكو كوريتا" فصلا كاملاً عن ( المنبتّين) في كتابها عن "البطل علي عبد الطيف"، وتحدثت عن دورهم خلال فترة سابقة للمهدية في الأبيض عام 1864 من أثر تمرد الجهاديين و أيضاً في زمن المهدية عام 1888 في منطقة كسلا. وسردت عن دور ( الكتلة السوداء ) عندما تكونت عام 1948 وكانت أقرب لحزب الأمة لاشتراكها مع الحزب في لجنة الحاكم العام ،وانحلت من تلقاء نفسها أوائل خمسينات القرن العشرين. * لم يستطع الموسيقار " جمعة جابر" في كتابه ( في الموسيقى السودانية ) الذي صدر عام 1987أن يتحدث بصوت جهير عن الظاهرة الاجتماعية للمنبتين، التي صارت في أغلبها تمتهن العزف على الآلات الموسيقية، وقليل منهم احترفوا الغناء. ولكنه حكى لنا شفهياً عن دور هذه الشريحة في رفعة فن الغناء والموسيقى في السودان، ولكنها مهملة في الشهرة، خلال نهضته عبر موسيقى البوليس أو سلاح الموسيقى ضمن القوات المسلحة، ومن خلال التخت الموسيقي للإذاعة السودانية.
(2) ورد في الوثيقة (18) ص 363 من كتاب (علاقات الرق في المجتمع السوداني ) لمؤلفه " محمد إبراهيم نقد" أنه في 6 مارس 1925، تم رفع مذكرة لمدير المخابرات بتوقيع (علي الميرغني) و(يوسف الهندي) و( عبدالرحمن المهدي) وورد فيها: { ..ولا بد أن الحكومة وموظفيها، قد لاحظوا خلال السنوات القليلة الماضية، أن أغلبية الأرقاء الذين أُعتقوا، أصبحوا لا يصلحون لأي عمل، إذ جنح النساء منهم إلى الدعارة، وأدمن الرجال الخمر والكسل. لهذه الأسباب نحث الحكومة أن تنظر باهتمام في الحكمة من إصدار أوراق الحرية دون تمييز، لأشخاص يعتبرون أن هذه الأوراق تمنحهم حرية من أي مسئولية للعمل، والتخلي عن أداء الالتزامات التي تقيدهم..} وذلك يوضح رأي الطوائف وزعمائها الصريح في الدعوة ببقاء الرق وعدم منح أوراق حرية!. وتلك وصمة عار في تاريخهم، رغم وقف عمليات الرق قد تم بقانون المستعمر عام 1898، وفي العهد التركي قبل حضور" غردون" حاكماً للسودان، بعد معركة كرري، و أعلن الحكم الثنائي أن كل المولودين في ذلك التاريخ وبعده ولدوا أحراراً.
(3) كتب " محمد أحمد محجوب" في كتابه ( نحو الغد): { ولكن الأمر الذي لا شك فيه، هو أن الثقافة العربية هي الغالبة، أو على الأقل هي التي تستحوذ على لب القارئين وتتأثر بها عقليات الكاتبين، كما أن الدين الإسلامي الحنيف هو دين الأغلبية الساحقة في هذه البلاد، وهو الدين الذي قبلته وتقبله قبائل الجنوب الوثنية بسرعة مدهشة، ويتجاوب مع طبائعها ولا غرابة في ذلك فهو دين الفطرة " إن الدين عند الله الإسلام" . وليس ذلك بكثير على بلاد تعاقب عليها ما تعاقب من الحضارات، وانتشر بين ربوعها ما انتشر من الثقافات هي عصارة أمم مختلفة ، ونتيجة ثقافات متباينة، عرفت الوثنية والمسيحية والإسلام وغلبت عليها أخيراً الروح العربية وعمّ الدين الإسلامي الحنيف وتمتعت بقطر مختلف الأجواء والمظاهر}
(5) يقول دكتور "منصور خالد" في محاضرته في مدينة الشارقة الإماراتية صيف العام 2015، عندما انعقد مؤتمر الهوية السودانية: { من الجانب الآخر تناول "عشري" موضوع الهوية القومية، لا بهدف إلغاء قومية صغرى أو كبرى، بل من أجل تنضيد كل مقومات القومية السودانية في عقد واحد. وصف "عشري "وطنه كما يلي " فالوطن هو بيتنا القديم وهو مهد آبائنا وأجدادنا، وهو قبرهم الذي يضم عظامهم، صحبوه في أيام الرخاء وفي أيام البؤس ( آراء وخواطر ). كان "عشري" أيضاً داعية للتجديد، فالمجددون عنده هم " الذين يضعون أسس المدنية وينشئون صرح الحضارة وهم الذين يمهدون الوسائل والأسباب } { قال "عشري ": ولقد كانت بلادنا منذ ثلاثين سنة ميداناً واسعاً تدور فيه رحى حرب ضروس يُنهب فيها الآمن، ويشنق البريء، ويقتل الأطفال والنساء، ويشرد الرجال في القفار، وتُهدم الدور، ويبلغ الكساد درجة ما دونها درجة. ولاتزال ذكريات تلك الأيام عالقة بالأذهان، ولا تزال بقايا زرائب الرقيق تدل على العديد من أولئك الأبرياء الذين كانوا يساقون إلى الشقاء والموت } وهذا ما سماه دكتور" منصور خالد" الغوص في الموروث، إن أردنا انتقالاً للحداثة.
(6) وينتقد دكتور" منصور خالد "السيد "محمد أحمد محجوب": {تلك الدولة تنصرت في عام 543م وبقيت على دينها ذلك حتى عام 1504م. أليس من الغريب حقاً أن يذهب أي مفكر سياسي شمالي، في معرض تحليله للمقومات الثقافية السودانية إلى تغييب فترة هامة من تاريخ بلاده!} تحدث د." منصور" عن تاريخ "المحجوب" و"عشري": { مدرسة "الهاشماب" ضمت نخبة متميزة من المثقفين ( عرفات محمد عبدالله، عبد الحليم محمد، السيد الفيل، محمد أحمد محجوب، والإخوان محمد وعبدالله عشري الصدّيق، من بين آخرين ) ولكن يتبادر إلى الذهن من تلك النخبة شخصان: محمد أحمد محجوب ومحمد عشري الصديق. كلا الرجلين نبغ في المجال الدراسي: عشري " الهندسة " ومحجوب " الهندسة ثم القانون"؛ كلاهما صاحب قلم مبين. كان المحجوب من أشعر أبناء جيله، وكان عشري من أنثرهم وقد كتب دراسة حول تطوير التعليم عام 1931، كلاههما أيضاً نميا في حي واحد ( الموردة - الهاشماب )وإن كان نموهما في بيئتين مختلفتين، فحين كان المحجوب سليل أسرة شمالية ذات باع طويل في الدين، برز من وسطها قائد مهدوي مرموق، إلا أنه أيضاً كان نخاساً معروفاً ( الأمير عبد الحليم ود مساعد). كان عشري من سلالة الشلك. جاء بأهله الرق من أعالي النيل إلى الوسط النيلي. لا يعنينا في مجال حديثنا الراهن نثر هذا أو شعر ذاك، كما لا يعنينا الأصل العرقي لهذين المعلمين الهامين في تاريخ النخبة المثقفة في سودان الثلاثينات، إلا بالقدر الذي يبين وعي كل منهما بالمأزق الذي أوقع فيه الرق، من بين عوامل أخرى السودان. ورؤيتهما لطرائق الخروج من ذلك المأزق. وبما أن كلا الرجلين كانا ينتميان لمدرسة فكرية واحدة ( مدرسة الهاشماب) وحزب واحد من بعد ( حزب القوميين) فمن المفترض أن تكون نظرتهما للقومية واحدة} المرجع: ( الحركة الفكرية في السودان) – نشر في شكل كتيب عام 1941.
(7) نقطف مما كتب "محمد أحمد محجوب" في مقاله (الصداقة الفكرية) الذي نشر بمجلة الفجر- المجالد الثاني- العدد الرابع في أكتوبر 1935: { وقد تأصلت بينهما صداقة رغم أن ( جيتي) كان يكبر صديقه بسنوات عشر. والذي كتب الأدب من وراء هذه الصداقة إشعال نار الحماسة والنشاط في نفس ( شلر) الذي كان بائساً مريضاً فأنعشت صداقة ذلك الشاعر العظيم، ودفعه ذلك لأن يصدر خير تراثه الأدبي، وإن لم تتح صداقتهما سوى رواية ( وليم تيل ) وهي آخر رواية أتمها ( شلر) في حياته لكفى وهي من الأعمال الأدبية ذات القيم الرفيعة. وأذكر أن صديقي الأديب " محمد عشري الصديق" نقلها إلى العربية عن اللغة الإنكليزية في ترجمة دقيقة، ولكنها لا تزال سجينة في مكتبه كمعظم ما كتب، وذلك لضيق ذات اليد وفقدان الناشر.} * نقطف من كتاب ( تاريخ الحركة الوطنية في السودان ): { أعيد نشر مذكرة "محمد عشري الصديق " عن التعليم التي بُعث بها إلى لجنة اللورد ( دي لاوير) التي زارت السودان عام 1937 لكتابة تقرير عن التعليم، اعتبار إلى أن المذكرة مطابقة للآراء التي دعت لها مجلة الفجر. ودلّت مذكرة " محمد عشري الصديق"، كما دل تقرير لجنة العشرة في 1931 ومقال "محمد أحمد محجوب" على أهمية التعليم بالنسبة للطبقة المثقفة. ففي رأي "عشري" كان الرأي العام، مجمعاً على المطالبة بتعليم صحيح و معافى. واعترف "عشري" بأنه وزملائه على صلة حميمة وثيقة بالحضارة الغربية ومُثلها. إذ كانت هي المثل التي تمثلها المثقفون السودانيون. وهي تتحصل في تحقيق الشعور الذاتي والتعليم والحكم.} * تطرق دكتور " منصور خالد" في محاضرته تلك أن الكتابين الوحيدين السودانيين اللذين تطرقا لأزمة المنبتّين قبلياً هما الكاتب " محمد إبراهيم نقد " وبروفيسور " أحمد العوض سكرينجة".