++ مصطلح " ثوره" ضروري تعبويا ولكنه تعريفا يرتبط بالتحقيق الفعلي للتغيير الجذري علي المدي الابعد . ++ ثورة/ انتفاضة 2019 مهددة بمصير انتفاضتي 64 و85 لان استراتيجية المعارضة الحزبية وغير الحزبية للدكتاتوريات فصلت بين إسقاط النظام وتنمية الوعي الديموقراطي، مما أضاف بعدا جديدا لازمة الديموقراطية في واقعنا غير الاوروبي . ++ كتاب د. منصور خالد " النخبة السودانية وإدمان الفشل " نموذج لعدم سلامة التشخيص الذي يقود لتحميل قيادات الاحزاب المسئولية كاملة،ولفعاليته بسبب وزن مؤلفه الاستثنائي. ++تجمع المهنيين مرشح للعب الدور الرئيسي في إنجاح الانتفاضة الثالثة بتـأسيس ديموقراطية مستدامة شريطة التقييم الموضوعي لدور القطاع الشبابي.
المصطلح السائد لوصف الحراك الشعبي الديسمبري ب"ثوره " ضروري تعبوياً ولكنه معّرض للتحفظ وفق التعريف المجمع عليه لهذا المصطلح وهو " التغيير الجذري "، والذي يحيل الى الحصيله النهائية أكثر من الطريق اليها. لهذا السبب، ولأن هذه المساهمة تنطلق من مقارنة بين تجربتي اكتوبر64 و ابريل 85 المشابهتين في جوانب أساسية، فأنها ستستخدم مصطلح "الانتفاضه"، بداية بالسؤال التالي :هل يُقّدر لمسيرة انتفاضة ديسمبر أن تخالف القاعدة التي أرستها التجربتان السابقتان لأنهما شكلتا ،في واقع الامر، جسر انتقال من شمولية الى اخري اكثر توفراً علي خصائصها؟ ليس من معني آخر لتكرار التجربة في 85 سوي أن الفكر السياسي السوداني فشل في استخلاص الدرس الصحيح من تجربة اكتوبر 64 ، ومن هنا السؤال : هل توفر هذا الشرط الان بما يمنع تكراراً ثالثا للتجربه؟. إذا نظرنا الى حال حركة المعارضة عشية انفجار الوضع في وجه النظام،فأن إجابة هذه المساهمة تميل الى النفي. بالرغم من الايجابية المزدوجة الظاهرة لانتفاضة ديسمبر بالمقارنة لسابقتيها والمتمثلة في دور القطاع الشبابي/تي ( الشاباباتي من الان فصاعداً ) و"تجمع المهنيين"، فأن تقييما لها في الجزء الثاني من المساهمة يقدم افتراحات معينة لرفع مستوي إيجابيتها بما يمكن ان يعّدل الاجابة. ظروف ولادة مكوني المعارضة السياسية الرئيسيين "قوي الاجماع الوطني" و"نداء السودان" هو الدالة الكبري علي الضعف النوعي لحركة المعارضة ضد نظام الانقاذ وماقبله، لانه كان نتيجة انشقاق ظل الطرفان يتراشاقان بعده اتهامات متمحورة حول تهمة الهبوط الناعم لم تتوقف إلا بعد بداية الانتفاضة. وفي الظهور التدريجي للخلاف، رغم تعاظم الحاجة لوحدة قوي الانتفاضه تأميناً لمستقبلها في وجه قوي الانتفاضة المضاده، تأكيد لاتخطئه العين لذلك، علما بأن الوحدات الحزبية التي يتشكل منها كل طرف منقسمة بدورها داخليا مما يعني إنها واقعة ضمن ظاهرة التفتت المَرَضي التي تشهدها الساحة السياسية منذ فتره وليست انقسامات تطويرية .وهو ماينطبق ايضاً علي أطراف العمل السياسي المسلح التي يبدو انها، الى جانب ذلك، استقرت علي وجهة ابتعاد عن ماتسميه معارضة الوسط النيلي،مما يشير الى مدي عمق واتساع تلك الظاهره . وبطبيعة الحال فأن هذه الهشاشه في متن كتل المعارضه أثرت علي تماسك كتلة " قوي الحرية والتغيير "، كما يبدو من التعثر المتزايد لأدائها بينما يشير الاعتراف العلني لأحد مكوناتها علي لسان القيادي في الحزب الاتحادي الديموقراطي محمد عصمت في مؤتمر صحفي، الى أحد اهم نماذج التفتت وهو انقسام الحزب الى 6 فصائل فضلا عن أن عضوية الكتلة نفسها تتجاوز المائة من المنظمات السياسية وغير السياسيه . في تقدير هذه المساهمة إن مصدر تصدعات المعارضه ضد الانظمة الشمولية الثلاثة علي هذا النحو لاعلاقة رئيسية له بمستوي الأداء المعارض للقيادات الذي يستجر رد فعل رائج يشطب عليها جميعا بجرة قلم بما يشوش علي مصدرها الحقيقي، وإنما هو ناتج خلل بنيوي في تكوينها مرده ان استراتيجية المعارضة لم تستهدف حقيقة إستعادة الديموقراطية بقدر مااستهدفت إسقاط الدكتاتوريات الثلاثة ، مما يؤول الى عدم استهداف أسباب قيام الانظمة الانقلابية المتجذر في ازمة الديموقراطية في السياق السوداني. يعني ذلك إن الاختلافات في صفوف المعارضه، و بين عموم المعارضين حزبيين وغير حزبيين، تدور حول المحور الخطأ، في الملعب الخطأ، لذلك فهو خلاف عقيم لايساعد علي تطوير فعالية المعارضه ويظل قائماً يراوح في مكانه بلا نهايه. الخلل البنيوي يعود الى أسباب موضوعية ليست من صنع قيادات المعارضه بحيث تنحصر مسئولياتها في عدم إدراك كنهه ومن ثم صياغة استراتجيتها بما ينقذ جهدها المسنود بتضحيات كبيرة علي مستوي القواعد والقيادات من التشبيه بصخرة سيزيف في الاسطورة اليونانيه التي تعود للانحدار كلما قطعت شوطا الى أعلي الجبل، أو ب" ساقية جحا" التي نعرفها . ضعف قوي الدفع الديموقراطي سودانياً موروث من التطور التاريخي للحركة السياسية السودانيه. "هذه خلاصة تدلنا عليها مناقشة هذه المسألة انطلاقا من المقولة الصحيحة بأن الديموقراطية( المستدامة ) كنظام سياسي يقوم علي الحرية التي تنظم نفسها بوسائل من طبيعتها ( الانتخابات الحره، فصل السلطات الخ ..الخ)، هي في الاساس مسألة ثقافه متغلغلة في مجتمع تضعف فيه سطوة الانتماءات الاولية علي اختيارات الافراد. يُضحي للفرد استقلال نسبي عن جماعة الميلاد مما يحرر صوته الانتخابي، وكافة خياراته في الحياة العامة والخاصة، من إملاءاتها المباشرة وغير المباشرة. المعروف إن هذا الشرط الجوهري تحقق اوروبياً من خلال حراك " عصر التنوير" وتمخضت عنه القوي الاجتماعية والافكار والفلسفات الضرورية لذلك . في السودان حيث لاطبقة وسطي ولاإصلاح ديني ولا تراث فلسفي- فكري تنويري، استهداف تأسيس المشروع الديموقراطي كتوجه لابديل له كان ضروريا لتحقيقه بما يتطلبه ذلك من اكتساب المعرفة بكيفية شق طريق سوداني نحو التنوير نظراً لعدم توفر مقومات الشرط الجوهري اللازم لذلك عبر الطريق الاوروبي . علي أن الاستهداف بهذا المعني كان غائباً لدي حركة الاستقلال الوطني سواء في مرحلتها التمهيدية خلال العشرينات والثلاثينيات، أو الحزبية الاستقلالية ( مع بريطانيا ) والاتحادية ( مع مصر)، بينما ساهمت الاختيارات الايديولوجية لنوايات اليسار واليمين الناشئ وقتها في تأكيد هذا الغياب. وفق تصورات لصاحب هذا المقال تحت مصطلح " الديموستناره، الديموقراطية-الاستناره " سبق نشر تفاصيلها ، السياق العام لصعوبات إنجاز المشروع الديموقراطي في السودان يمكن تلخيصها علي الوجه الاتي : احتياجات تسيير آلة الهيمنة السياسية والنهب الاقتصادي الاستعمارية البريطانية ، لاسيما النظام التعليمي الحديث، أنتجت فئات اجتماعية بورجوازية صغيرة سودانية تتوفر علي المؤهلات الاولية اللازمة لطرح بناء الديموقراطية كهدف ولكنها كانت محدودة كما وكيفا بحكم محدودية الدافع الاستعماري وطبيعته الاستغلالية، والثقل الباهظ لواقع التخلف التاريخي للبيئة السودانيه. فهي قوي حديثة بمعني انبثاقها عن عملية التحديث البريطانية بالاهم من جوانبها وهو : تجاوز تحديث البني التحتية الى تغيير/ حدثنة العقلية ، لكونها قاطرة استدامة التغيير والديموقراطية، بالتعليم العصري المحفز علي تنمية التفكير المستقل والخلاق. غير أن هذه القوي، وقد توقفت عند إنجاز الاستقلال السياسي مستعينة بالاطراف ذات الثقل الطائفي، ساهمت في تعقيد مشكلة التصاعد نحو المرحلة الاعلي بدلا من تفكيكها لان تجلياتها السياسية الحزبية قُدر لها ان تكون عاملا إضافياً بهذا الخصوص ، فهي قوي تغيير، بمعني استنادها الى شرائح متعلمة ومدينية ( من مدينه ) ومختلفه بذلك عن القوي التقليديه ويفترض إنها البديل المستقبلي لها، ولكن في طريق مسدود : اليسار بالتأويل اللينيني للماركسية الذي يعتبر الديموقراطية مجرد مرحلة نحو الاشتراكية، واليمين بمفهوم إسلامي لايعيرها أي اهتمام أصلا في فكره ومواقفه، والوسط بينهما متراوحاً بين شد وجذب حسب قوة أحد القطبين في فترات صعوده.. ومن باب أولي لم تكن الاحزاب الموصوفة بالتقليدية، علي تفاوت انطباق هذه الصفة عليها بين الامه والاتحادي، مؤهلة لاستهداف الديموقراطيه." ( 1 ) إستطال عمر نظام الانقاذ ثلاثة عقود إذ ظل قادراً علي الامساك بالسلطة حتي بعد ان استنفد قدرته علي التعبئة التضليلية بالدين والايهام بالاخطار الخارجية والداخلية، وقوته الذاتية بعد انقطاع صلته بالحركة الاسلامية، الموتور الذي هيأ الاجواء والادوات التنظيمية العسكرية-المدنية للانقلاب. في هذا دليل قوي علي أن الجهد المعارض بمجموعه ،أي المنظم وغير المنظم السلمي والعسكري، وقد سما في بعض اللحظات الى مستوي من التضحية منعدم النظير، بقي فاقداً للفعاليه نتيجة عدم صياغة استراتيجية المعارضة بما يجمع بين مواجهة الانظمة الدكتاتورية وتنمية قوي التغيير الديموقراطي. هذا الانفصام أبقي الجهد المعارض شعبوياً في أساليبه ومحتواه وحصيلته لعجزه عن اجتذاب وتنمية مجموعات نخبويه قادرة علي استيعاب جذر المعضلة ومن ثم تولي مهمة ترقية الرفض الشعبي لسياسات النظام من مستوي ردود الفعل والانفجارت المؤقتة، بما يقصر من عمره ويؤمن التقدم نحو تأسيس قوي الاركان للديموقراطيه. من هنا تأخرَ( سقوط ) نظام الانفاذ، والقوسان للقول بأنه عندما حدث بقي محدودا بمعنيين : بقاء مكونه العسكري حياً وجزء من تركيبة المرحلة الانتقاليه وإبطاء عملية الانتقال الى بناء النظام الجديد بوجهها الاخر في إنعاش وتصليب تماسك قوي الانتفاضة المضاده . إذا صح هذا التحليل القائم علي تحسس جذر المعضله وانعكاساتها السلبية علي الأداء المعارض، فأن الانتفاضة الثالثة مهددة بمصير سابقاتها إذا لم تتخذ الاحتياطات اللازمة لتفاديها لاسيما وان الامر لايقتصر علي عدم تشخيص جذر المعضله وانما سيادة تشخيص ممعن في الخطأ بدلا عنه يفرط في إدانة للقيادات، ليس أدل علي ضخامة حجمه من إنه يصدر عن مثقف قيادي بكل المقاييس مثل د.منصور خالد. كتابه " النخبة السودانية وإدمان الفشل " لايكتفي بعدم تقديم تفسير موضوعي للفشل وإنما يذهب ، في تقصير إضافي ، الى تعميم يضع جميع أطراف السياسة السودانية وقياداتها في مستوي واحد من التقصير، ممعنا في نفس الاتجاه باستثناء الحركة الشعبية لتحرير السودان من هذا الحكم. في هذا الاستثناء ، حتي إذا تغاضينا عن ثبوت خطأ مسوغاته إذ تشرذمت الحركة بمجرد غياب زعيمها، ماينم عن ترويج غير مباشر لاطروحة حكم الحزب الواحد اللاديموقراطيه التي تصب في خانة تعقيد إضعاف الوعي الديموقراطي أكثر مما هو عليه. علما بأن دكتور منصور خالد يعود في مذكراته الضافية" شذرات من، وهوامش علي، سيرة ذاتية" ( 1800 صفحه من المعلومات الغزيرة والثقافة الاغزر والتحليلات الصائبة عموما) الى تكرار التقييمات، فأنه ليس غريبا ان يصبح كتاب " النخبة السودانية وإدمان الفشل " بمثابة المرجع لأقوي تيار في الحياة السياسية والفكرية السودانيه، الذي يدمغ الاحزاب السياسية كلها بالفشل محملا المسئولية الكاملة لقياداتها بحيث تَشكل الرأي العام ، الشاباباتي خاصة، علي مثالها .." حزب مثل "المؤتمر السوداني " الذي شكل ظهوره الخارج عن الطواقم الحزبية المعروفة حماية له من هذا الحكم العدمي، يفقد هذه الحماية تدريجيا. هل تفلح الايجابيات الملموسة في انتفاضة ديسمبر 2018 ( تجمع المهنيين ودور القطاع الشاباباتي) في إنقاذها من مصير سابقتيها بتجاوز العقبات المترتبة علي قصورات استراتيجية المعارضة للدكتاتوريات، المتفاقمة بخطل تفسير إخفاقات قياداتها السياسيه؟ هناك مايشير الى ان دور " تجمع المهنيين" أكثر فعالية في تحسين فرص تطورالانتفاضة بالمقارنة للتجمعات المماثلة في اكتوبر 64 وابريل 85 : في الاولي النقابات العمالية والمهنيه( جبهة الهيئات )، نتاج ريادية لاتنكر لليسار بقيادة الحزب الشيوعي تطلبت جهداً سخياً وتضحيات جمه، علي أن ذلك خلع عليها قدراً من الحزبنه يمكن فهمها في سياق تلك المرحله ولكنها حدت من استقلاليتها وتاليا فعاليتها في تطوير الانتفاضه. في الثانية تحقق شرط الاستقلالية واللاحزبنه لدي مجموعة المهنيين ( النقابات العماليه بقيت بعيدة بعض الشئ ) التي تولت التحضير لتفجيرالانتفاضة في مرحلتها الاخيره ولكن محدودية وزنها حدت من دورها في المرحلة اللاحقة . في نموذج انتفاضة ديسمبر، استقلالية تجمع المهنيين ، بمعني عدم الحزبنه وليس عدم الاشتغال بالشأن العام من موقع مستقل عن الاحزاب ،واضحة وكذلك تجاوز قيادية دوره للانتفاضة لنظائره في النموذجين السابقين كماً ونوعاً. لاتتوفر معلومات دقيقة عن وزن العناصر المنتمية حزبياً في تجمع المهنيين ولكن المؤكد ان للعناصر غير المنتمية حزبياً، او ذات الولاء الحزبي الاضعف من ولائها للتجمع، وزناً كبيراً . بسبب الفراغ الفعلي الذي تركه ضعف العمل السياسي الحزبي وغير الحزبي، وذلك المتوهم نتيجة سيادة الادراك الخاطئ لمدي مسئولية قياداته، بروز قيادية التجمع المهني أمر إيجابي لانه سد هذا الفراغ مما حرك قطاعات نخبوية وشعبية بدرجة من القوة والاستمرارية والتنظيم أطلقت الدفعة الاقوي والحاسمة في (إسقاط) النظام واجتذبت عناصر عسكرية للانحياز للانتفاضه واخري في قيادة الجيش للتخلي عن مساندتها لرئيسه. كون فعالية دور تجمع المهنيين عائدة لسبب سلبي، بمعني إنه ناجم لدرجة أو أخري عن عدم ثقة الجمهور العام في الاحزاب وليس نتيجة قدراته الذاتية فقط، يقلل من هذه الإيجابية لأن الثقة يمكن ان تتبدد بمثل ما حدث للاحزاب نظراً لأن المعيار المستخدم لمنحها او حجبها غير سليم بينما ضخامة التحديات القادمة ستعرض التجمع لامتحانات أقسي كثيرا من السابق.علي إن الإيجابيات النسبية الاكبر ل" تجمع المهنيين " بالمقارنة لنظائره السابقة، تجعله صالحا كنقطة إنطلاق لدور رئيسي في حماية الانتفاضة من الانتكاس، ولكن بناء علي تقدير موضوعي لطبيعة عموده الفقري الشاباباتي وإمكانية تطبيق برنامج تأهيل معين ،كما سيوضح لاحقا. يبدو لهذه المساهمة إن خليط التوق العارم للتخلص من الانقاذ ، إضافة للصمود المثابر في وجه القمع الدموي والابداعات في دقة التنظيم ،واشكال التعبير الفنية المعبرة عنها، بقمتها في ساحة الاعتصام، القت علي عاتق القطاع الشاباباتي مسئوليات وتوقعات تتجاوز قدراته الحقيقية إذا نظرنا اليها علي ضوء عدد من الاعتبارات . اولا هناك الدور الكبير الذي لعبه الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في هذا المجال. علي أن الانترنت وسيلة محايدة في حد ذاتها يتوقف تأثيرها سلبا أو إيجابا إزاء قضية معينة علي من يستخدمها. وبسبب تعقيدات الطور البنائي القادم للانتفاضة والفجوة الكبيرة بين توقعات القطاع الشاباباتي بالذات فيما يتعلق بتحسين أحواله ومحدودية إمكانية الاستجابة الناجزة لها، بما في ذلك التوقعات الاخري مجسدة في شعار " الدم قصاد الدم مابنقبل الديه"، يمكن لدور الانترنت أن ينقلب الى النقيض أو يخفت كثيرا إذا انفلتت بعض أجزاء القطاع في اتجاه بعيد عن تجمع المهنيين او حتي نقيض له بسبب الصدمه . الاهم من ذلك إن عدم صحة الانطباع الشائع الان عن انصرافية اهتمامات القطاع الشاباباتي نتيجة لدوره في الانتفاضة ينبغي رؤيته في إطار الصورة الاكبر وهي إن هذا القطاع بالذات كان الاكثر تعرضاً لعملية تشويه الوعي والشخصيه نتيجة انحطاط نوعية التعليم والتقويض الكامل لآماله العريضة استثناء في هذه المرحلة العمرية، تحت الضغط الباهظ لسياسات النظام الاقتصاديه الافقارية. في غمرة الاحتفاء المستحق بدور القطاع الشاباباتي غاب عن الاذهان إن هذا القطاع في مجموعه ظل، تحت ضغط اليأس والاحباط الاستثنائي ، مصدراً للظاهرة الهروبية الواسعة من الضغوطات الجبالية الواقعة عليه أكثر من غيره، بالغرق في المخدرات والسلوكيات الهايفه، والى نقيضها السلفية الدينية التي لايمكن تصور إن عمق تأثيرها الذي دفع الاف الشباب الى محرقة الموت الاختياري في حرب الانقاذ الاهليه قد انتهي. وبالمناسبه التصور الشائع بأن أخطر مخلفات النظام السابق هو الدولة العميقة يعاني من قصور مفاده إن التمكين الحقيقي هو ماتم في العقول والافهام بفعل موجة التدين التقليدي الكاسحة من خلال النظام التعليمي والماكينة الاعلامية القوية .ظاهرة "استقالة العقل" التي تفسر تخلف العرب والمسلمين منذ قرون تعود الى هيمنة هذا النوع من التدين فما بالك ببلادنا التي لم تعرف من ازدهارات الحضارةالعربية- الاسلامية إلا قشورها. هل يمكن، علي ضوء هذين الاعتبارين، الاستنتاج بأن الشريحة الشاباباتيه التي برزت في الانتفاضة لاتمثل الثقل الاكبر من الشباب إذا استعدنا للاذهان ان الوزن العددي للسودانيين تحت سن الثلاثين عاما يتجاوز نصف مجموع السكان علي الاقل،أي أكثر من 20 مليوناً.؟ هذا من ناحيه الكم ، ومن ناحية النوع ليس هناك تطابق ضروري بين ريادية الدور الشاباباتي بمختلف جوانبه المشار اليها،وصلاحية" تجمع المهنيين " لتعويض فشل العمل السياسي المباشر في تحقيق هدف الديموقراطية المستدامة. الحلقات الشاباباتية في المستويات القيادية الاعلي والوسيطة ل" تجمع المهنيين" ، دوافعها لتفجير الانتفاضة أعمق من دوافع المجموعات القاعدية للتجمع ، بمعني انها غير منحصرة في الجانب المتعلق بتأثير سياسات النظام علي حياته، ذاهبة الى الاجتماعي منها خاصة قانون النظام العام،ما يفسر بروز دور المرأه . من بين منتسبي هذه الحلقات نسبة عالية من منتجي الفنون والاداب ومستهلكيها، كما يُستشف ايضا من الميسم الادبي الواضح في بيانات التجمع شعرا ونثرا.. الثقافه الفنية والادبية، التي كانت متاحه اكثر من غيرها إبان حقبة الانقاذ لانها لم تكن تصادم النظام مباشرة مثل الثقافة السياسية، أستقطبت قطاعاً من الشباب والشابات كانت تجمعات ساحة " مفروش" الدليل المادي لمدي اتساعه، شكل البيئة المولدة لمقاومة النظام عقلياً ومن ثم سياسياً بمحتوي استناري ديموقراطي، لاسيما وأن الذين يشغلونها هم علي الاغلب الناشطون في ميادين المجتمع المدني مثل" حركة تعليم بلا حدود " ، وشارع الحوادث" وغيرها، أو الاقرب مزاجيا اليهم ومن تستهويهم موسيقي " عقد الجلاد وتمردات محمود عبد العزيز. هذه الثقافة شكلت حصانة ضد القولبة الدينية والممارسات الهروبية لهذه الشريحة من القطاع الشاباباتي ، ولكن المجموع الاكبر في الحراك ينتمي الى الاغلبية الساحقة من الشباب والشابات ، الضحايا الاكبر من غيرهم لعقود من الشمولية .. هؤلاء يعانون أثرها القاسي علي حياتهم اليومية بمختلف جوانبها ولكن لاوسيلة لديهم لأدراك مصدرها الجوهري المتمثل في التدمير الفكري والذهني، قبل المادي واليومي، بسبب انحطاط نوعية التعليم أساسا، رغم انخراطهم الكلي في الحراك الانتفاضي بقيادة الحلقات القيادية في" تجمع المهنييين "، ناهيك عن بقية القطاع الاكبر حجماً التي ظلت بعيدة عن الانتفاضة جزئيا أو كليا. من هنا دوافع هذه المجموعات للانتفاض محدودة بالمباشر والمحسوس من الاثر التدميري لسياسات النظام ، بدون تأهيل يجعل منهم عماد المرحلة الثانية والاهم للانتفاضة بتأسيس نظام ديموقراطي مستدام، بينما يمكن الاعتماد علي منتسبي الحلقات القياديه، خاصة العاملين في لجان المقاومه ( 2 ) ، كرافعة رئيسية لتأهيل القطاع الشاباباتي بمجمله الى مستواها عبر إصلاح النظام التعليمي وتنشيط المجتمع المدني. بغير ذلك ستتقلص إيجابيات "تجمع المهنيين" تدريجيا ذاهبا مع الريح. تستحيل المبالغة في أهمية إعادة هيكلة النظام التعليمي جذوراً وفروعاً، لاستحالة المبالغة في أهمية الوصول بالحراك الانتفاضي الى قمته.. كل التضحيات وجهود التخطيط والتنظيم التي بذلت لإطلاق وإدامة الحراك الانتفاضي، معرضة للضياع إذا لم تتواصل عملية التغيير نحو إنجاز الهدف الذي فشلنا في تحقيقه بعد انتفاضتى 64 و85، في وقت ثبت فيه نهائيا ان الديموقراطية( التي لابد ان نضيف لها كلمة مستدامه عندنا لتمييزها عن مجرد سقوط النظام ) هي السبيل الوحيد لتحقيق النهضة الشاملة بدء من سد الطريق نهائيا أمام عودة الدكتاتوريات. كما ورد سابقا في ظروف تاريخية مختلفة تماما عن تاريخنا زماناً ومكاناً، أسست اوروبا الغربية النظام الديموقراطي عبر مخاض عصر التنوير بتحرير الانسان من وطأة الموروثات الثقافية والاجتماعية الناجمة عن ارتباطاته الاوليه في بيئة الميلاد. بذلك أضحي الفرد، بحريته في الاختيار، الركيزة الاقوي للنظام الديموقراطي ومؤهلاً لمقاومة ثقافة المستبد العادل والحلول السريعة، الثغرة التي تنفذ منها الانقلابات سواء كانت مغامرات عسكرية أو مدفوعة بأيديولوجيات شمولية . هناك أقطار عالمثالثيه تتقاسم مع السودان كونها لم تخض عصر تنوير ولكنها تمكنت من تأسيس أنظمة ديموقراطية مستدامة لتوفر شروط معدومة لدينا. أهم هذه الشروط ، باختلاف درجة انطباقها من تجربة لأخري، ان تاريخها الحديث اتسم بالتفاعل مع النموذج الغربي. نماذج تونس واندونيسيا وكوريا الجنوبية ودول إفريقية مثل سيراليون وليبيريا وساحل العاج ، فضلا عن دول امريكا اللاتينية عموما، تشير الى التأثير الايجابي بهذا الصدد للتحالف بين الانظمة الدكتاتورية فيها مع الغرب، الى جانب جسر وحدة الديانة المسيحية وثقافتها في بعضها . هذه العلاقة رغم سلبياتها المعروفة خاصة المتعلقة بانتهاك حقوق الانسان، أبقت بعض مسارب تطوير عقلية الافراد مفتوحة عبر الانفتاح النسبي للنظام التعليمي، بالمقارنة لأنظمة الدكتاتوريات المنغلقة تماما تجاه الغرب،مثل إمكانية تعلم اللغه الانجليزيه او الفرنسيه وتكنولوجيا الاتصالات وعبر نوافذ اخري مثل توفر فرص أكبر للاحتكاك بالتجربة الثقافية والسياسية الغربية مباشرة اوغير مباشرة، والظروف الافضل لنمو طبقة وسطي. من هنا أتيح لحركات المعارضة عند تحقيق انتصارها بزوال هذا النوع من الانظمة، قدر معين من الشروط اللازمة للمضي بتأسيس الديموقراطية المستدامة والمفقودة كليا لدي الدكتاتوريات الاخري خاصة ذات المشروعية الدينية . في واقعنا المختلف جذرياً عن الواقع الاوروبي وانعدمت فيه، الى ذلك، الظروف المساعدة الخاصة ببعض اقطارالعام الثالث، ليس من سبيل لتحقيق الدرجة المطلوبة من تحرر الفرد واستقلالية تفكيره، ومن ثم تأسيس الديموقراطية المستدامة، إلا عبر نظام تعليمي يعيد هيكلة عقلية التلاميذ والطلبة باتجاه الانفتاح وتنمية ملكة التفكير النقدي. بما أن الحياة العامة في بلادنا تعرضت لعملية تجريف وتصحير طويلة المدي وعميقة الاثر بتتالي الشموليات، وخاصة الانقاذية نظرا للفعالية الاستثنائية لتوظيف العقيدة الاسلامية في هذا المجال ، فأن الحياة الحزبية عندنا اضحت عاجزة عن أداء مهمة تطوير الوعي العام كما يتمظهر في تصدعها المتزايد أحزاباً وتكتلات معارضة بحيث تعّين علي "تجمع المهنيين " التصدي لدورقيادي في عملية التغيير . فتح مجالات حرية التعبير والتنظيم بعد التغيير لن يؤدي لتطور ملموس في وضعية الاحزاب علي المدي القريب لان التجريف يعني إن المادة الخام اللازمة لحقن شرايينها بالحيوية غير متوفره،وهو ماينطبق حتي علي حزب واعد حالياً مثل "المؤتمر السوداني" ، لذلك فان الركيزة الثانية لتأسيس الديموقراطية المستدامة هي المجتمع المدني. بحكم الطبيعة التطوعية للانتماء الى هيئاته علي اختلاف اغراضها، واسلوب عمله الآيل لتنمية الوعي الديموقراطي من خلال الممارسة بما تفرضه لوائحه من الاختيار الحر للقيادات ومحاسبتها وتداول مراكزها الخ ..الخ..، المجتمع المدني مدرسة لتدريب الفرد علي السلوك الديموقراطي ومن ثم تحصينه ضد ثقافة الاستبداد والتصرفات المنبثقة عنها، رغم كون هيئاته، نقابية كانت أو غير نقابية، ليست سياسيه- حزبيه وإن كانت ذات تأثير سياسي إيجابي غير مباشر. الاستفادة الحقيقية من دروس تجربتي اكتوبر 64 وابريل 85، وفق إدعاء هذه المساهمة، تستدعي اعتبار هذين المرتكزين الاولوية الحاكمة لاستراتيجية الفترة الانتقالية ومابعدها . علي المدي القصير والمتوسط يعني ذلك ، بالنسبة للمجتمع المدني، تعديل قانون العمل التطوعي لعام 2006 بما يمّكن هيئاته من حرية الحركة علي مختلف المستويات بما في ذلك استجلاب العون المالي والفني قانونيا، مع الحرص البالغ علي تطبيق نصوصه الخاصة بالتزام كافة الهيئات المعنية بلوائح ونظم القانون وأيضا تشجيع قيام تلك التي يتصل نشاطها بحقل التعليم. بالنسبة لأصلاح النظام التعليمي عضوية العلاقة بين إعادة هيكلته جذريا واستدامة النظام الديموقراطي، تعني إنه لامفر من إيلائه الاولوية القصوي من قبل السلطة الجديدة تمويلا وتخطيطا وتنفيذا مما يتطلب الشروع في هذه العملية فور قيام السلطة الجديدة لان أي تأخير يزيد احتمالات انهيار التجربة الديموقراطيه مرة اخري.. علما بأن هناك سببا إضافيا لذلك وهو أن التأثير الايجابي المنشود لاعادة الهيكلة يستغرق وقتا طويلا لأن تغيير عقلية التلاميذ والطلبه عملية تدريجية بالضرورة ،نظرا للتشويه العميق الذي لحق بها بفعل سياسات الانقاذ. في خضم الاولويات العديدة والضاغطة بسبب حالة التداعي والانهيار الشامل الموروثة عن النظام السابق، يستدعي الامر تنظيم حملة تثقيفية وإعلامية مدروسة وكثيفة لكسب الرأي العام الى جانب الخصوصية الاستثنائية لهدف إصلاح النظام التعليمي بما يقتضي أولويته ( أوللته ) علي بقية الاولويات مهما بلغ شأنها، لتحسين فرص فرضه كأولوية في برنامج الفترة الانتقالية وحكومات مابعد الانتخابات. سبتمبر 2019 ************* 1 أ ( أ ) مقتطف من دراسة بعنوان " المعارضة وقد وصلنا معها الى الخيار المر " أعدت لكتاب كان مقررا صدوره في الذكري الثلاثين لانقلاب الجبهة القومية الاسلاميه. 1 ( ب ) في ورقة بعنوان " نحو مجتمع مثقفين " وزعت علي مجموعة من المثقفين السودانيين عام 2016 ،لفت صاحب هذه المساهمه الانتباه الى العلاقة بين الانعدام شبه الكامل لفرص التفاعل والاشتباك الحواري بين المثقفين السودانيين وبينهم وبين الخارج الفكري- الفلسفي تحت وطأة الشموليات طوال فترة مابعد الاستقلال تقريبا، ونضوج مقدراتهم. مدي تأثيرهم علي تطوير الحياة العامة، بما في ذلك الفكر والممارسة السياسية،يجدر تقييمه علي ضوء ذلك. 2 شرع تجمع المهنيين، في بيان بتاريخ اول مايو 2019 ،بتطوير لجان المقاومه لتولي مهمات تتجاوز مهماتها في مرحلة الانتفاضه طالبا تعليقات علي مسودة اعدت لهذا الغرض تتضمن إطلاق إسم " لجان المقاومة والتغيير " عليها، ولكنه فيما يبدو توقف عند هذا الحد.