في ذكرى الشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى
للشعر دروب لا يجد لها المرء طريقاً لها فيسلك. للشعراء نبض لا يشبه نبضنا، ولا دمائهم تشبه دمائنا. مشاعرهم لا يعرف المرء كيف تصير هي، وكيف تتلوّن وتطير. دوماً الشعراء محلّقين عن الأرض، حديثهم لا يشبه حديثنا، كلماتهم لا تجدها الثعالب ولا المفترسات، لكن تتلقفها الجوارح من الطيور، ولا تستطيع هضمها، فتقذفها في رحابة الكون الفسيح. ( أبو ذكرى) مثل غيره من الشعراء العظام، ينقر في اللغة كحفار الخشب، مسكنه مع الملائك في الأرائك، وفي فُرش الجنان وأيضاً يستظلون بسحب الجحيم الذي يشعرون به. يأتون عالمنا كزوار، لا يلبثون غير برهة التاريخ، ثم يذهبون في رحلة الأبدية.
(1)
عبد الرحيم أبو ذكرى(1943 - نوفمبر 1989):
عبد الرحيم أحمد عبد الرحيم( أبو ذكرى) كاتب وشاعر سوداني. تخرّج من الجامعة الروسية لصداقة الشعوب عام 1969. درس قبلها بثانوية(خور طقت). ابتُعث للدراسة بالاتحاد السوفيتي السابق. وحصل على درجة الماجستير في اللغة الروسية وآدابها، بالإضافة إلى ودبلوم الترجمة بين العربية كلغة واللغة الروسية عام 1971. نال درجة الدكتوراه في فقه اللغة عام 1987 من الأكاديمية الروسية للعلوم. اشتغل سكرتيرا للتحرير ومشرفاً على مجلة الثقافة السودانية 1976- 1978. عمل أستاذا غير متفرغ بكلية الآداب بجامعة الخرطوم. تميز الراحل في الترجمة ووصفه أستاذه البروفيسور" شاغال" بالذكاء النادر والموهبة الرفيعة، مما جعل " دار التقدم " في موسكو أن تختاره لترجمة معجم المصطلحات الأدبية من الروسية للعربية. انتمى للحزب الشيوعي السوداني، ولم يمض سوى فترة قصيرة، حتى استقال بهدوء، وإن ظلت له مواقف مساندة لقضايا اليسار العام.
تملكته حالة اكتئاب في 5 نوفمبر 1989، فقفز من نافذة شرفته في الطابق الثالث عشر من مبنى( الأكاديمية الروسية للعلوم)، ليرتطم جسده برصيف شارع ( أوستر افيتانوفا ) ويضيع منا إلى الأبد. وقبل رحيله أحرق بعض أعماله.
(2)
قصيدته (أمير المؤمنين) التي صدرت في صحيفة سودانية في 15 أكتوبر 1965، واكبت ظروف اللوثة الاجتماعية الدينية التي تفجرت من ندوة معهد المعلمين العالي الشهيرة، التي انتشرت كحريق لم يبق ولم يزر، وسط المجتمع. قصيدته هي رأي استباقي لمن يسمون أنفسهم بخلفاء مجددين لعودة الخلافة الإسلامية عن طريق السلطة بشكل جديد:
**
هذا أمير المؤمنين
حذاؤه في يده تأدباً في حضرة المهنئين
و ذقنه كبيرة سوداء كي تخيف المشركين
ومسبحته تحميه من مساخر المنافقين
وحوله الشورى و أهل السرّ من عباد الله الصالحين
الوزراء فوق وجوههم زبيبة الصلاة
يحاربون كل معتد أثيم بالذقون
ويحمل الوزير" طاره" إلى الوزارة
ويدخل المبخّرون صالة الخليفة الميمون
يهمهمون أو يسلّمون أو يحوقلون
يحدّث الساسة أن الكون كفار ومسلمون
وقانتون يتبعون ظله.. أو منافقون
الدين ..تن.. الدين .. تن .. الدين ..تون ..
الخانعون الخرعون والإخوان المسلمين
في جنة الله وتحت عرشه مخلدون
وقرب أنهار الفراديس منزلون
والنار والزقوم والغسلين
والموت والجحيم واليحموم للمناضلين
والاشتراكيون لهم أسفل سافلين
يا حاجبي يا حاجب الخليفة الهمام
ادخل ذوي الحاجات للحكام
عشرون يوماً وأنا يا حاجب السوء بالأحكام
أريد أن اضرب بالسيف رؤوس الكفرة واللئام
وانثر الغض للقوم على شريعة الإسلام
آه " تذكرت" فأنت قد قتلتهم يا أيها الضرغام
لأنهم يستخرجون الماء من بحيرة الغرام
ويأكلون طيب الطعام
ويختلون بالبنات .. في الأحلام
وإنهم تندّروا عن ذقن الخليفة الإسلام
وأنت- لو أذكر- ناديت الجنود في الظلام
فاعملوا فيهم أشباه الصارم الصمصام
هذا جزاء ما يقترفون من آثام
ضد خليفة الإسلام
إلا لصوص؟. لا زناة؟ لا أحكام؟
أذن فناد لي النديم والحجام
لأنني أود أن أفاجئ القيان في الحمام
*
عبد الرحيم أبو ذكرى
15 أكتوبر 1965
(3)
كان دكتور "بشرى الفاضل" صديقاً للشاعر" عبد الرحيم أبو ذكرى ". قضيا جزءاً من سنوات حياتهما معاً في الاتحاد السوفيتي السابق. وعندما رحل " عبد الرحيم أبو ذكرى " هناك، كتب قصيدته " سال الشِعر في الطرقات " يرثيه:
**
سال الشعر في الطرقات
إلى روح الشاعر الصديق عبدالرحيم أبو ذكرى
*
وهل صفصافة تُنبيك
عن أخبار نافذةٍ
بشاهقةٍ
تألقْ نيزكٌ فيها
وخرّ على التوسلِ
والمهانة والجليد؟
تأوه
طار منه الدمُ
غاص الجسم في صدأ الحديد
وذاب القلبُ
سال الشِّعر في الأسفلت والطرقات
*
تمرُ فجيعة أخرى
فيرحل عن قوافينا أبو ذكرى
ترى من رمدِ الأشياء في عينيه
من … من رجِّ احباطاتنا الكبرى
وقد سكنتْ بقارورات مهجته
فكدّرها ؟
أمِن حزن على وطنٍ تباعد عن مخيّلته
فكان الموت،
أم صمت النشيد؟
*
وبات الليلُ مسكوناً بفكرته
وطورها من الأنقاض للهرمِ
وأخرجها من الظلمات والعدمِ
ودحرّجها وسطّرها وحبّرها
وظل بقربها شبحاً
فصارت سلماً لرحيله الليلي
مأوىً يستريح به
إذ الأوطان في مستنقع الظلمة
وظلت في سريرته
رخاماً قُدَّ من إرما
وجنات من الحطمة
وظن بأنها تحميه بين الأرض والسقف
من الألمِ
ولم يسنده في أيامه السوداء
أهل الصبر والقلم
تمر فجيعة أخرى
فيرحل ليس عن سقمٍ
عبد الرحيم أبو ذكرى
**
(4)
لنمُد طريق التوسل للقائمين على أمر الثقافة في بلادنا، لنتتبع أثر النجوم الشعرية الآفلة، في وطن، يظن البعض أن المثقفين لا يستحقون كثير اهتمام، فالفقراء وحدهم هم الذين يتخذهم البعض وسيلة تكسب ووسيلة دعاية لأحزابهم السياسية. فلا أحد يقتنع بجدوى مأساة المثقفين والشعراء، يعتبرونها مأساة مفتعلة، لا يستحقون التعاطف معهم، فقد فقدنا منهم منْ مات فقيراً في شتاء القاهرة، أو يصابون بالجنون أو يموتون من داء الصدر، مثل كثيرين من مُبدعينا الذين نلوك إبداعاتهم كل يوم ونطرب.
عبدالله الشقليني
22 أكتوبر 2019
alshiglini@gmail.com