يا بن البادية ،، ﻋﺸنا ﻣﻌﺎﻙ أغاني ﺟﻤﻴﻠﺔ
أعلام باهرة
عندما اعتلى صلاح الجيلي محمد ولأول مرة خشبة المسرح القومي بأم درمان لتقديم عدداً من الأغنيات، كانت الساحة الغنائية وقتها تحتشد بعدد من أبرز وأشهر المطربين السودانيين الذين سبقوه وسبقوا أبناء جيله أمثال محمد وردي الذي استشار وقتها المطرب إبراهيم عوض المشهور بالفنان الذري، حول أفضل السبل لكي يصير الموهوب فناناً مشهوراً مثله، فرد الفنان الذري قائلاً لوردي" يا إبني دا طريق طوووويل جداً"!.
و هكذا، منذ تلك الوصلة الغنائية التي قدمها صالح الجيلي بعدد من الأغنيات "كالأوصفوك" و "الليلة سار يا عشايا" أشهر أغنيات سنوات نهاية الخمسينيات، كانت الجماهير قد عمدته مطرباً يمتلك "صوتاً كالجرس" وهو الصوت الطروب الذي ظل مطربنا الراحل بن البادية يحتفظ به منذ بواكير صباه الغنائي في العام 1959 وحتى لحظة رحيله الفاجع بدولة الأردن.
رغم أن أضابير مذكراته المبعثرة وسردياته عنها والتي لا تشير تحديداً لمن انتبه لموهبته وأشار إليه بإمكانية استغلال صوته الجميل كمطرب، إلا أن آدائه للانشاد الديني في حلقات المديح والترتيل الصوفي الذي اشتهرت بها قريته وهو صبي يافع، هي قطعاً من درب صوته وقومه على قامات وسلالم الآداء الموسيقي الذي أجاد فيه درجة أن خلق له جمهوراً مستمعاً لآدائه في تلك الحلقات الصوفية قبل أن يتسع جمهوره ومعجبيه لاحقاً عندما تطور بصوته ليصير مطرباً موسيقياً يشار له بالبنان.
كان العام 1937 قد شهد مولد كثير من أفذاذ المجتمع السوداني في شتى المجالات سواء السياسية أو الفنية أو الرياضية، وكذا كان نصيب قرية أبو قرون التي تقع بمنطقة أم دوم شرق العاصمة القومية، أن ولد فيها المطرب صلاح بن البادية وترعرع في ربوعها ونشأ متشبعاً بالتدين والورع الديني الذي تشربه من بيت والده المتصوف، فأكمل الخلوة والمرحلة الأساسية في التعليم ليشتغل ومنذ صباه بالتجارة مع أهله وأبناء عمومته.
ومن خلال حلقات الذكر كما جرت الاشارة فإذا بإبن البادية يتدرج بصوته ليصل إلى إذاعة أم درمان، والتي يُعد الوقوف أمام ميكرفوناتها بدارها التي تقع بمباني مدرسة بيت الأمانة الابتدائية لاحقاً جنوب حوش وبيت الخليفة العتيق، تعميداً وفتحاً مبيناً لمن يحظى بذلك. تلك الدار التي صارت أثراً بعد عين بعدما آلت ملكيتها لآخرين كالكثير من آثار البلاد دون حماية وعناية ومحاذير، وهي الدار التي شهدت مولد إذاعة وميكرفاونات ومطربين ومقدمي برامج على الهواء تم تعميدهم داخلها كرواد للبث على موجات الأثير، بما فيهم كل من الشيخين عوض عمر وصديق أحمد حمدون كأشهر مرتلين للقرآن الكريم ورافعين لآذان الصلاة وقتها !.
وهكذا وبعد أن بدأ صوت الصبي القادم من منطقة شرق النيل ينداح رويداً رويداً، إنتبه وتخوف خلالها الفتى من إمكانية أن يطرق مسامع والده صوت ابنه القادم من الاذاعة، وهو الشيخ المحافظ في تربيته ونشأة أبناءه، سيما وأن وصف "الصياع" وقتها كان ما يزال هو الذي يوصف به الفنان في ذلك الزمن! الذي لم يكن للمطرب وضعاً ومقاماً وتبجيل، والذي ما يزال رزاز "الصايع" يصيب بعضهم، فقد وقف الناس على تلك الواقعة الجارحة في طرب الأمة، عندما أشار أحد الأئمة ـ وهو يحض المصلين خلفه على الاصطفاف الجيد ـ لأحد المطربين يقف في الصف الأول، فما كان منه إلا أن يزجره طالباً منه العودة للصوف الخلفية، كانه أجرب أو غير مكتمل الايمان، دون أن يجرؤ لا الفنان أو أحد الموحدين بالله أن يعترض على مثل هذا التصرف "الأخرق"! ،، ما علينا.
نقول آثر الفنان صلاح وفوراً وهو في بداية مشواره الفني الابتعاد عن مشاكل الأسرة بتغيير اسمه ليُكنى باسم فني اختار له "ابن البادية"، وهكذا انطلق بن البادية بصوته المموسق وآدائه البديع الذي سحر قلوب المستمعين.
ساهم بن البادية بصوته وتجربته التي صقلتها المدائح والانشاد الديني وقدراته في التطريب، في التدرج بالأغنية السودانية وذوق المستمع السوداني، ليرفد مكتبة الغناء السوداني بعشرات الأعمال الموسيقية الكبيرة والتي تعد اليوم ضمن أضخم منجزات الغناء في السودان.
غنى صلاح بالدارجي وغنى بالفصيح، وغنى بتموجات صوته اليانع البديع، فتلقف معجبيه ومستمعي الموسيقى السودانية العديد من الأعمال الباهرة المموسقة، فأطربهم آدائه في أغنيات شهيرة من كلمات عدد من أبرز شعراء الأغنية السودانية كمحمد يوسف موسى والعمرابي والصادق الياس وعبد الله النجيب وابو شورة و محجوب سراج وأبو آمنة حامد والشاعر السوري محمد القاضي، فقدم عليه الرحمة حسنك أمر، كلمة، أسير الغرام، سال من شعرها الدهب، أول حب، طبع الزمن، عايز أكون، مي، ليلة السبت وعشرات الأغنيات الأخرى التي تصل لأكثر من مائة أغنية، حداً جعل تلك الأغنيات القاسم المشترك لأي أعمال موسيقية كان يقدمها برنامج "ما يطلبه المستمعون" كبرنامج سوداني كانت تقاس به الأعمال التي تفرض نفسها في باقات الدرجة الأولى لدى المستمع لها، وهو برنامج قطعاً ظهر قبل البرامج الأوروبية والعربية الشهيرة والشبيهة التي تقدم اليوم!.
كما كانت له ميول ووله بالسينما، درجة اشتراكه وانتاجه لبعض الأعمال السينمائية، حيث شارك كل من الممثل المصري محمود المليجي والممثلة المصرية سمية الألفي في فيلم "رحلة عيون" من إخراج المخرج السوداني أنور هاشم، وكذا مشاركته في الفيلم التسجيلي باسم "مصر" من انتاج التلفزيون المصري الذي أخرجه أحمد عاطف عام 1965 وفيما بعد إشتغل ببطولة "تاجوج" كفيلم سينمائي من إخراج السوداني الفذ الراحل جاد الله جبارة.
وكانت للراحل خاصية حميدة وهي تمجيده وتخليده لأعمال الراحلين من زملائه المطربين عندما يقدم أعمالهم الغنائية بصوته الجميل.
لقد استقبلت الساحة الفنية هذا الرحيل الفجائي بدهشة كون أن الراحل كان ولآخر لحظات حياته يتمتع بصحة جيدة.
له الرحمة بن البادية كونه ختم حياته بمشاركته شعبه فرحته بإرساء حجر الأساس للدولة المدنية متينة البناء، عندما غنى وصلته الموسيقية التي قدم فيها أغنيته "اليتيمة" للوطن باسم "حب الأديم"، حداً جعل كثير من المراقبين والمهتمين يتسائلون عن السر في اختيار الراحل ـ وقد عُرف كمنشد ديني أكثر منه منشداً للوطن والشعب ـ دوناً عن كل أولئك الذين انفعلوا بالشارع السوداني وثواراته وانتفاضاته فقدموا العديد من الأعمال والأناشيد الوطنية في تمجيده، فهل يا ترى أن من إختاره تحديداً من بين جميع هؤلاء قصد تذكير الجماهير بمساهمة الراحل الوطنية اليتيمة في تلك المناسبة؟.
hassanelgizuli@yahoo.com
/////////////////