ليس وحده "مدفع رمضان" الذي يطلق الصوت فقط ، هنالك مدافع سياسية تُطلق أصوات ولا تطلق قنابل. هنالك فرق بين الحق والحقيقة. نحن في حاجة لمعرفة ما يدور في السودان من وراء القرون، ثم نفتح ذاكرتنا لفهم الضباب الذي يحيط بالمساومة التاريخية التي تمت، ليس فهماً للمساومة التاريخية التي بدأ يكتبها دكتور" الشفيع" بين الإسلامين والعلمانيين. ولكننا لفهم التحالف.
يكتب دكتور" الشفيع خضر":
{ وتحديدا قلنا إن إشكالية علاقة الدين بالدولة، لا يمكن أن تحل وفق قاعدة الأغلبية والأقلية، وإنما عبر مساومة تاريخية تلبي طموحات أصحاب الخيار الإسلامي، وطموحات دعاة العلمانية والدولة المدنية، وقلنا أن هذه المساومة ممكنة، ولا تحوّج أي طرف إلى إقصاء الطرف الآخر أو إزالته من الوجود.}
إنه حلم ليلة سبت دكتور "الشفيع".
*
من بعد أن يسكن الغبار عن المعارك بين المدنيين من طرف، وضباط عسكريين وأمنيين ومليشيات عسكرية من طرف آخر، فإن الفترة الانتقالية كانت جزء من مساومة لا بد منها.
(2)
كتب صديقنا الذي نختلف معه في الرأي:
{يا زول، لو افترضنا بأن الكيزان غشونا، أها، بدل نقوم نقول ليهم يا خداعين يا محتالين إنتوا ما أهل للثقة و دا طرفنا من اتفاقاتكم، نجي نقعد معاهم من جديد و نتفاوض حول شكل الحكومة و نقول ليهم أنحنا عاوزين كفاءات وطنية و تكنوقراط مؤهلين!}
*
قبل أن نذكر هذا المقتطف من حديث صديقنا، يتعين أن نعرف أن نتقن فن التفاوض، ونراجع ما نمتلك من قوة الجماهير السلمية التي لم تزل تضحي بالأرواح، وكلما دنا اتفاق، أو كاد، نرى رصاص قناصة النظام من فوق البنايات، والذين لا يملك ( المجلس العسكري ) أن يتناولهم بالضبط لأن القناصة ومعاونيهم هم وسيلة القوات التي تعمل 30 عاماً لصناعة البدائل . لم يكن النظام قد استأمن ( اللجنة الأمنية ) على تسيير النظام. فبدائل النظام المستتر والذي انفق 75% من ميزانية الدولة لأمنه، لم يكن ليأمن أحد، فكتائب أمنية مقاتلة تتبع لكل زعيم من زعماء الإخوان المسلمين. ولا أعتقد بأنهم استسلموا لدكتاتورية البشير ونفضوا يدهم، بل هم والغون في الترتيبات الأمنية، التي تخفى عن ( اللجنة الأمنية ). ويمكن لمن يشاء أن يراجع اجتماع البشير بالضباط الإسلاميين: ( 350 ) هم تقريبا ذلك الرقم، وكان ذلك قبل أشهُر من الثورة. وكان صريحاً معهم يطلب الدعم .
(3)
لو رجعنا لكتاب المحبوب عبد السلام عن عشرية الإنقاذ، فقد أبان أن التنظيم في حال فشل الانقلاب 1989، ستقوم كتائب يرأسها نافع بإحداث حالات اغتيالات لزعماء الأحزاب وفوضى، مما يمهد لتدخل الأخ المسلم ( سوار الدهب )...
*
إن صديقنا الذي يلتقي مع صديقنا الآخر في تصوره ( بمد الثورة حتى تحقق أهدافها) ، فيا صديقي، الثورة سلمية، ولا تمتلك عصا موسى، بل تمتلك الإضراب السياسي والمظاهرات ( التي راوغ فيها الصادق المهدي، رغم أنه عضو في تجمع الحرية والتغيير). ويمتلك الطرف الثاني ( قوات مليشيا الدعم السريع التي يخاف منها القيادات العسكرية ) وتلك لها: التنظيم بحرية + المال + السيارات ذات الدفع الرباعي + الوقود+ السلاح.
*
وهنالك قوى مسلحة و منظمة وهي كتائب الظل، لها أعضاءها المدربين والمنظمين وعرباتها ومجنزراتها ورصاصها ومصنع جياد ومصنع الأسلحة ومصنعي العملة وقوات الأمن والمخابرات. وقوات أمن دولة الجوار والدولتين الاقليميتين وإسرائيل والمخابرات الأمريكية ( اتفاقات حميدتي مع مندوب الموساد بـ 6 ملايين دولار).
(4)
لقد أسهمت تلك القوى في هزيمة موجة الثورة في سبتمبر2013، رغم اغتيال ما يتعدى 250 شخص. إن وقف التفاوض معناه أن تصبح الثورة موجة ، وتنقض عليها نسور الإنقاذ، ولا أحد يقف معها ، وقد صرح مندوب الاتحاد الإفريقي البروفيسور الموريتاني" محمد الحسن لبات":
{أعلن مبعوث الاتحاد الأفريقي إلى السودان "محمد الحسن لبات"، عن تشكيل مجموعة دولية، لمتابعة الأوضاع في السودان، ودعم ومساندة مبادرة الوساطة التي يقودها الاتحاد الأفريقي من أجل التوصل إلى حل سلمي في السودان، وقال إن هذه المجموعة الدولية تضم بالإضافة إلى الاتحاد الأفريقي، منظمات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى دول الترويكا الغربية، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا، والنرويج بالإضافة الى المانيا وفرنسا، وكندا}
إن ترك التفاوض يحول الثورة إلى موجة من سلسلة أمواج، مصيرها مصير ما حدث عام 2013.
(5)
من المهم أن نتذكر أن الهجوم على المعتصمين بمباني القيادة العامة، قد بدأ قبل 3 يونيو 2019. عندما بدأ الهجوم على المعتصمين عند وقوفهم في صلاة المغرب فهو يدلل بأن المهاجمين لم يكونوا مسلمين أو أتقياء، كما يدّعي الإخوان المسلمين، بل جسد أمني و مليشيات. لم يكن في القوات المسلحة جنود، بل ضباط يتم تخريجهم وانتقاءهم من الإسلاميين كل عام. فقد صارت القيادة العامة التي كانت تذبح 36 ثور لوجبات العسكريين بعد 1976، خاوية على عروشها من الجنود وضباط الصف. أصبحت مباني إدارية مدنية الهوى!.
*
لن يصدق أحد أن وحدة المدرعات في الشجرة بالخرطوم، لديها ما يتراوح على مائة فقط من الجنود وضباط الصف!. وكذلك كل الحاميات الموزّعة على أقاليم السودان. إذ أن عمر البشير قد أوقف تعيين الجنود وضباط الصف منذ سنوات. وتصدرت قوات المليشيا ساحة التفاوض، ولم تزل بعيداً عن سلطة القائد العام، رغم صدور الوثيقة الدستورية بخلاف ذلك.
(6)
عندما خرج الترابي من سجن الخدعة بعد انقلابه عام 1989، أشار بأنه يتعين القضاء على أسطول الاستعمار والعلمانية المبينة في أربع قلاع( جامعة الخرطوم، القضاء، الجيش، السكة حديد). وأضاف عليها ( الخدمة المدنية) وهي من أعظم المنجزات يفخر بها السودان. جاء الترابي ورهطه بسنة الهدم، وانتهوا إلى إفلاسهم من كل ميزة بناء، جاءوا بخدعة المشروع الحضاري، يرفعون أصبع السبابة في كل تميمة وعنصر من عناصر الهدم.
لقد كان "عمر البشير" ينفذ برنامج الإخوان المسلمين، في إلغاء الجيش واستبداله بالمليشيات، خوفاً من الانقلاب العسكري، وقد صرح دكتور نافع أن الحركة الإسلامية باقية إلى ( حلم حضور عيسى النبي قبل يوم النشور).
(7)
قلت لصديقي:
{أنت ترى أن الواقع الراهن جدير بالثوار أن يرفضوه جملة وتفصيلاً، في حين أرى أن الاتفاق مع قوى الإخوان المسلمين الممثلة في الجنرالات وقادة المليشيات، هو خطوة في مسيرة الثورة، رغم أنها لم تستطع تحقيق أهدافها بضربة واحدة، لأن أدوات الثورة التي بيدها لا تحقق كل مطالبها، في مواجهة أعدائها، وميزان القوى والتوازن بين القوتين المتضادتين. ولا يعقل أن نعتقد أن الإخوان المسلمين في السودان خلال ثلاثين عاماً، لم يفعلوا الكثير ليبقوا. ومن هنا جاء نهجنا أن المرحلة القادمة، بعد الاتفاق ستكون ثقيلة الخُطى والانجاز، وأنه يتعين أن يتقارب المثال مع الواقع. وهو اعتراف بجسامة الفترة السوداء، أو ما يصطلح عليه
( الدولة العميقة) فهي ناهضة إن لم نحذر. }
*
إن الطبقة الوسطى، قد تلاشت أو كادت أن تتلاشى، والطبقات الفقيرة صارت مسحوقة أكثر. وانتهت دولة الرعاية من صحة وتعليم ومواد تموينية وبترول. وظهرت طبقات فاحشة الثراء، من فعل تحكم السلطة في اقتصاديات الدولة من الضرائب والجبايات ومن تسهيلات المنسوبين للنظام من تمكين لأهل التنظيم أو من المتسلقين.
عبدالله الشقليني
28 نوفمبر 2019
alshiglini@gmail.com