الاسترقاق.. خطايا الماضي ودلالات الحاضر (1 من 3)
shurkiano@yahoo.co.uk
مقدِّمة
لقد دأبنا دوماً في كتابة مثل هذه المقالات، أو تدوين هذه المدوِّنات، بالشروع في العام قبل الخاص. وإذ إنَّما الذي يدفعنا إلى الاتِّجاه إيَّاه هو عموم القضيَّة التي نودُّ البحث فيها، والتعبير عنها. فالعام يشرح الإطار الكبير في شيء من الشموليَّة شديد، أما الخاص فيختص بحيز مضياق في أصغر ما يكون الضيق. ومن هذا المنطلق طفقنا نكتب عن الماضي المنقضي. وقد يقول قائل، أو يتساءل سائل، لم نهتم بهذا التأريخ القديم الموغل في القدم، ونولي له اهتماماً، ونفرز له في كتاباتنا حيزاً، ونعكف عليه سرداً، ثمَّ نشدِّد على الإلمام به ولو إلماماً قليلاً. أجل، إنَّ معرفة التأريخ التليد تبصرنا بالحاضر الطريف، وتنير لنا طريق المستقبل؛ أليس بهذه المعرفة نستطيع أن نستلهم الدروس والعبر. فقد آن الآوان للنَّظر كرَّة أخرى إلى بعض من مشاهير العالم عامة والسُّودان خاصة، وإعادة تقييم مآثرهم ومساهماتهم في التأريخ الإنساني والسِّياسي. إذ لا يمكن تجاهل تدافع وتصانع بعض هؤلاء القدماء، لأنَّ آثار حيواتهم وقراراتهم على الحياة العامة تركتا عدة مآثر لا يمكن لأي إنسان ذي بصيرة أن ينكرها أو يتجاهلها. أجل، فإنَّ المقاربات التأريخيَّة لقويَّة وهامة، وتفي بالغرض الذي نحن بصدد بلوغ مراميه وتأطير جوانبه. ثمَّ إنَّ المقاربات التأريخيَّة لتجعلنا نفهم الأحداث المعاصرة، فضلاً عن استخدامها كقوالب رسميَّة نابعة من العلوم الاجتماعيَّة. وكما قال وزير الدِّفاع الأميريكي الأسبق آش كارتر في مؤتمر التأريخ التطبيقي بجامعة هارفارد إنَّه لفي دهاليز السُّلطة يتحدَّث النَّاس الحقيقيُّون عن التأريخ، وليس الاقتصاد أو العلوم السِّياسيَّة أو العلاقات الخارجيَّة. ثمَّ إنَّ أوَّل الأسئلة التي يطرحونها هو ماذا يعني هذا؟ ومن ثمَّ يتبعون ذلك التسآل بسؤال المؤرِّخ التطبيقي ألا وهو ما هي الفروق بين الحاضر والماضي، وذلك في سبيل الاسترشاد إلى المستقبل المجهول.
ولعلَّنا يمكن تصنيف الكتَّاب الأجانب الذين عكفوا على تدوين تأريخ إفريقيا إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى هي تلكم القلَّة القليلة التي رأت الإنسانويَّة في صورتها الأخلاقيَّة والطبيعيَّة، وسعوا إليها سعياً حثيثاً، ودعوا إليها دعوة خالصة لا تشوبها شائبة. أما الفئة الثانية فهي الطائفة، أو أصحاب الغلو والافتراء على الحق بالباطل. ثمَّ هناك ثمة فئة ثالثة وهي الفئة التي تقبع بين المنزلتين، وهي التي تعطيك من طرف اللسان حلاوة وتروغ عنك كما يروغ الثعلب؛ أو هي بمثابة أولئك الأغاريق الذين تحدَّث عنهم هوميروس، حين قال إنَّهم ليتكلَّمون بحلاوة، ولكن قلوبهم مغلقة. فلعلَّ الوضع يتطلَّب شاعراً آخر لكي يذهب إليهم، ويضع حصاراً حول هذه الأفئدة. ترى من يكون ذلكم الشَّاعر!
إفريقيا والاستعمار.. الزمن الغضوب الأعسر
إنَّ إفريقيا التي وهبت العالم الجنس البشري، ثمَّ كانت الرَّائدة في كثرٍ من الطلائع التنمويَّة في ازدهار الحضارة العالميَّة، باتت قارة خاضعة للسيطرة الأوروبيَّة، وأرضاً لصيد الرَّقيق ونقلهم كالأنعام إلى الشرق الأوسط والأقصي، ثمَّ كذلك إلى ما أسمَّوه العالم الجديد. على أيٍّ، دعنا نضرب مثلاً بسيراليون في غرب إفريقيا. لقد ظهرت هذه الدولة في الوجود في آواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك حين أعادت إنكلترا الأرقَّاء العتقاء إلى هذه الديار، حيث يشي اسم حاضرتها – أي فريتاون من الكلمة الإنكليزيَّة "المدينة الحرَّة" (Freetown) – بتأريخ مأسوي عن العهد الغابر. فلعلَّك شاهدٌ إرثها التليد الذي يومئ إلى عصور تجارة الرِّق في إفريقيا. وحين اعتزم البريطانيُّون على التخلُّص من الأرقاء العتقاء في بريطانيا والعاهرات في مدينة لندن شحنتهم كلهم أجمعين أكتعين في الفلك، وقذفت بهم في اليم لتبحر السفينة عُباب البحر، وتشق طريقها في البحر سرباً تلقاء سيراليون. والمدهش في الأمر أنَّه حين أخذت الأوبئة تفتك بالعبدان الطلقاء والعاهرات البيضاوات على حدٍّ سواء في الفلك المشحون إيَّاه، شرع رجال الإنكليز في مجلس العموم البريطاني يشتكون ويتباكون على المومسات البريطانيات الموتى، ولم ترمش لهم عين، أو يُسمع عنهم صوت حزين في سبيل هلاك العبيد السود.
بيد أنَّ الأثر الحاد لتجارة الرَّق ما زالت تتبدَّى أكثر فأكثر في جزيرة بونس التي تقع على بعد 40 ميلاً بزورق آلي من العاصمة فريتاون. والجدير بالذكر أنَّه في الفترة ما بين (1668-1807م) تمَّ حبس حوالي 50.000 رجلاً وامرأة وطفلاً في قلعة بونس ريثما يتمُّ نقلهم قسراً إلى الولايات الجنوبيَّة في الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة. فبرغم مما أصاب المكان من إهمال لعدَّة قرون خلت، وذلك بتكاثر العنب المخنوق، وتعاظم التين الخانق، إلا أنَّه تمَّ ترميم الخراب أخيراً، وأمست البقعة منطقة أثريَّة سياحيَّة. وإنَّ الزَّائر السائح لهذه الجزيرة لواجدٌ المدافع وهي ما زالت موجَّهة صوب البحر، وإذا هو شاهدٌ كذلك مقابر ملاك العبيد وهي محتفظة ببلاطات أضرحة أسيادها؛ وإذا المكان ما زال يحتفظ بالزنازين التي كان الأفارقة الأبرياء يباعون فيها، وفيها يتم فصدهم كالماشية أو الماعز؛ ثمَّ إذا الجزيرة تفوح بوحشيَّة غير إنسانيَّة، وكآبة مسكونة بالأرواح. كان هؤلاء النخاسون يضربون في مفاوز الأرض ومجاهلها لاصطياد ضحاياهم في جنح ليلة من ليالي الظلام الداجية المكفهرَّة التي تلمع بروقها، وتهطل غيومها، وتدمدم رعودها، وتعصف رياحها، فتبكي الأم الملتاثة المكلومة بكاء الواله في إثر قومٍ ظاعنين حتى تتلف نفسها، أو تكاد من إشفاق وتأميل عسى أن يهبها الله عوضاً. ولا شك في أنَّها لسوف تبيت عاتبة على نفسها أشدَّ العتب في تلك العجاجة السوداء من الحزن، ولم تكن هي الوحيدة في تلكم الحال، بل هي واحدة من مجموعة كبيرة من نساء مرعوبات مفزعات.
مهما يكن من شأن، فلا مراء في أنَّ آثار الإذلال المدمِّرة لحيوات البشر لا يمكن تجاوزها. إذ أنَّ الأمراض التأريخيَّة لتجارة الرِّق والاستعمار، علاوة على الإساءات العنصريَّة، قد أحدثت جُرحاً غائرة في الجسم الاجتماعي. فلعلَّ السيطرة على إفريقيا واضطهادها على مدار عدة قرون قد خلقت وخلفت إرثاً سالباً ضد شعوب القارة، والتي ما تزال تكافح في سبيل محوها والخروج منها؛ إذ لم يشمل هذا الإرث المأسوي تحطيم المؤسَّسات القديمة والفرص الماضويَّة من أجل بناء أخرى جديدة فحسب، بل إنَّه أيضاً قد ساهم في تدمير الثقة الاجتماعيَّة، التي كان يعتمد عليها كثرٌ من النَّاس في بناء علائقهم الاجتماعيَّة، وتسيير شؤونهم الحياتيَّة.
وفي هذا الصدد كتب البروفيسور الهندي الذائع الصيت أمارتيا سين قائلاً: "إنَّ الآفاق المحدودة للعقل المستعمَر (بفتح الميم) والتمعُّن في الغرب – إما استياءً أو إعجاباً – ينبغي أن تتغيَّر. إذ لا يُعقل أن ترى أحداً يقول دوماً إنَّه لهو ذلكم الشَّخص الذي – أو الذي كان أجداده – قد تعرَّض إلى معاملة سيئة، أو أُسِيء تمثيله، بواسطة المستعمِرين (بكسر الميم) مهما كان هذا التعريف. ولعلَّ هناك ثمة مناسبات حيث يكون هذا الشَّخص مناسباً، وبخاصة مع استمرار عدم التماثلات الاستعماريَّة بأشكال متعدِّدة، وهو ما بدا يظهر في تعابير مثل "الاستعمار الجديد" (Neo-colonialism)، و"إغراء القوى الجديدة" من قبل القوى الاستعماريَّة في أن ترى بعض الفوائد العظيمة في بعض الإجراءات الاستعماريَّة الماضية. فماذا على سبيل المثال في الخصوصيَّة السُّودانيَّة؟
لا سبيل إلى الشك في إنَّها لتلكم العنصريَّة التي تسبَّبت في الاسترقاق، وما أن مضى عهد الرِّق حتى أخذت هذه العنصريَّة تتمظهر في الهمز واللَّمز والتفكُّهات – وبئس ما تفكَّهوا به – والإيماءات وكانوا خائني الأعين. مثلهم كمثل الأوروبيين الذي ادَّخروا مخزون مستودعاتهم وتصاويرهم العنصريَّة للأفارقة في سبيل الدِّفاع عن تجارة الرِّق، ومن ثمَّ منح الاستعمار العالم تقاليداً في الأدب العنصري الذي ساد عصرئذٍ، ونهجاً خاصاً للنَّظر – أو عدم النَّظر – إلى إفريقيا والأفارقة، والذي استمرَّ إلى يومنا هذا بصور مختلفة. ومن أمثلة هؤلاء الطائفة من كتَّاب الميثولوجيا الاستعماريَّة أو ميثولوجيا السيطرة التي منها استنبطوا كلماتهم، وأخذوا أفكارهم، نجد جوزيف كونراد، والذي لم نكد نفتأ في تذكاره بين الحين والآخر، وبخاصة في روايته "قلب الظلام" (1899م)، حيث صنَّف الأرواح إلى ثلاث مراتب، ووضع الأفارقة في قاعدة هذه التراتيبيَّة الاجتماعيَّة، وأطلق عليهم اسم الأرواح البدائيَّة، وأعلاهم الأوروبيُّون من ذوي العاهات، أو الذين أصابهم هوس العاج، وباتوا شرسين وتافهين ومارقين أخلاقيَّاً؛ وأطلق على هؤلاء نعت الأرواح الملوَّثة أو الصغيرة؛ ثمَّ وضع على قمة هذه التراتيبيَّة الاجتماعيَّة الأوربيين العاديين، وبدا جليَّاً أنَّ أرواحهم لم تكن في حاجة إلى صفة لنعتهم بها. ومع ذلك، كان معيار هذا القياس هو شخصيَّة كورتز اللعينة في الرِّواية إيَّاها. أفلم يقل كونراد على لسان كورتز إيَّاه بأنَّ له القوَّة في أن يسحر أو يخيف الأرواح البدائيَّة إلى رقصة السحرة المقيتة في شرفه، وإنَّه باستطاعته أن يملأ أرواح الحجاج الصغيرة بالشكوك المرَّة، وله صديق مخلص – على أقلَّ تقدير – والذي ليس بصاحب الرُّوح البدائيَّة ولا الملوَّثة، التي يبحث صاحبها عن الذات.
وكذلك دوَّن هذا البولندي بالميلاد – أي جوزيف كونراد – والذي كان يتحدَّث الفرنسيَّة، ثمَّ كان قبطاناً في سفينة إنكليزيَّة وروائيَّاً، دوَّن تجربته الأولى حين رأى الرَّجل الأسود منذ الوهلة الأولى في هذه الكلمات الشواذ في عبارة الزِّنجي – بمقصده العنصري المقيت – وفي جلد الغزال الضخم، الذي شاهده في هاييتي، وقد دعم مفهومه الأعمى الغاضب دون تعقُّل، كما يتبدَّى في مملكة الحيوان حتى نهاية حياته. ومنذئذٍ بات يحلم بهذا الزِّنجي لعدَّة سنوات.
وهل أخبركم بحديث الإفريقيَّة التي كانت تُعرض في حدائق الحيوانات "البشريَّة" في أوروبا في القرن التاسع عشر؟ ففي ذلكم القرن من الزمان كان علماء الأحياء الأوروبيُّون يجمعون بعضاً من الأفارقة في حظائر أو الحدائق العامة، ويقذفون النقود على أجساد هؤلاء الأفارقة العراة، كما حدث مع السيِّدة الناميبيَّة سعارتجي بعارتمان، والتي أسمَّوها زهرة الهوتينتوت، والهوتينتوت هو إثنيتها في ناميبيا؛ أما لقبها بزهرة فما هو إلا الذم الذي يشبه المدح. ثمَّ كانت هذه السيِّدة – حسب رؤيتهم – مدعاة للإعجاب والانجذاب معاً، وذلك بالمعنى السلبي للتعبيرين إيَّاهما، حتى جعلوها أيقونة الحركة النسويَّة، واتَّخذوا منها سلوكاً مقولباً لنعت إفريقيا. مهما يكن من شأن، فقد كان الأوروبيُّون ينظرون إليها بفضول، ويسخرون منها، ويحقرون بها؛ وبعد وفاتها العام 1815م تمَّ تقديم دماغها وأعضائها التناسليَّة إلى أكاديميَّة العلوم الفرنسيَّة. أما الفيلسوف الألماني عمانويل كانت (1724-1804م) فقد وصف أحد النجَّارين الحاذقين من ذوي حاضر البديهة بأنَّه أسود قاتم من الرأس حتى أخمص قدميه. ولعلَّ عمانويل كان يعني بما تلفَّظ به أنَّ النجَّار قد تفوَّه بشيء تكتنفه الغباوة.
وللحديث بقيَّة،،،