الاسترقاق.. خطايا الماضي ودلالات الحاضر (3 من 3)
shurkiano@yahoo.co.uk
إذاً، كيف قاوم الأفارقة هذا الشطط المبثوث من الرَّجل الأبيض والذي تميَّز بالاستعلاء عليهم، والاستهزاء بهم؟ لقد تجاوب الأفارقة مع هذه الإيماءات العنصرية والاضطهاد المستعظم بسبب لون بشرتهم بطرق أربع. فالطريقة الأولى كانت بالعمل الاعتنافي المسلَّح والتمرُّدات التي شهدتها معاقل الاستعباد والاسترقاق، وقد استبسل الرِّجال والنِّساء في هذه المقاومة بشيء من الاستبسال عظيم.
أما السبيل الثاني فهو ما عبَّر عنه المفكِّرون والأدباء الأفارقة والتي تمظهرت في مدرسة الزنوجة. وكان من رواد هذه المدرسة الشاعر والرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سينغور (1906-2001م)، وقادة آخرون من رموز السِّياسة في إفريقيا والشتات منذ العام 1787م. ولعل الدكتور أبكر آدم إسماعيل قد أزجي للنَّاس ترجمة ضافية لتأريخ البان أفريكانزم للكاتبين حكيم آدي وميريكا شيروود. وهذه الطريقة الثانية، التي ظهرت في حركة عموم إفريقيا، كانت حركة ثوريَّة فكريَّة، وكان من أبرز قادتها الرئيس الغاني الأسبق كوامي نيكروما (1909-1972م). وقد عقب هذه المرحلة النِّضال في سبيل الاستقلال من ربقة الاستعمار الأوروبي ولتطوي إفريقيا الظلام، وتودِّع الحقب العجاف، حيث استطاعت الدول الإفريقيَّة نيل استقلالها، وأخذت تدعو إلى الوحدة الإفريقيَّة. إذ انبثقت فكرة الوحدة هذه في مؤتمر عموم إفريقيا الذي عُقد العام 1945م بمدينة مانشيستر ببريطانيا، وكان الهدف الأساس منه هو تأسيس "الولايات المتَّحدة الإفريقيَّة". وحين لم يتحقَّق النجاح في تأسيس هذه الوحدة بالطريقة التي دعا إليها آباؤها المؤسِّسون، حينها اقتصر الأمر على إنشاء منظَّمة الوحدة الإفريقيَّة، التي تحوَّرت إلى الاتحاد الإفريقي الآن.
وفي السبيل الثالث من سبل مقاومة عسف وظلم الرَّجل الأبيض نجد المسار الأقصى الذي تبنَّته جماعة أمَّة الإسلام في الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة. إذ هي حركة نشأت كمنظومة مضادة، وهيئة معادية لأحفاد وذراري ملاك العبيد البيض المسيحيين، وبدلاً من اتخاذ منهج إيجابي، وقع أصحابها في أحضان الإسلام كترياق مضاد للمسيحيَّة، ثمَّ باتوا يتخبطون خبطة عشواء في نظرتهم الدِّينيَّة. ولعلَّ في انغماس جماعة أمَّة الإسلام في نظريات المؤامرة لشيئاً عجباً، فهم يؤمنون بأنَّ عالماً أسود مخبولاً ومعتوهاً يُدعى يعقوب هو الذي خلق الإنسان الأبيض قبل 6.600 عام، ومنذئذٍ فجَّر هذا الشيطان شرَّه في العالم. ومن ثمَّ أخذ أصحاب أمَّة الإسلام يقفون مع دول إسلاميَّة تضطهد السُّودان وتُمارس فيه القتل والاغتصاب مثلما فعله الاستعمار الأبيض أو أكثر من ذلك، كما أخذ أحد قادتهم – لويس فرخان – يدافع عن حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان، وبخاصة في زيارته للنِّظام في الخرطوم يومذاك. وهو الذي كان قد اعتبر كل ما تتحدَّث عنه المعارضة السُّودانيَّة والحكومات الغربيَّة – بما فيها حكومته في الولايات المتَّحدة – من سجل حقوق الإنسان المشين في الخرطوم فريَّة غربيَّة، ومحاولات لتركيع النِّظام الإسلاموي في الخرطوم لخدمة الحكومات الأجنبيَّة.
أما في المرحلة الرابعة من مراحل الانعتاق من مثالب الاستعمار، فتركَّزت جهود الأفارقة في إعادة الكنوز المنهوبة من القارة، حتى ولو كانت جزءً منها. إذ أخذ هذا الوعي بعداً عمليَّاً بعد الاعتراف الذي أقرَّ به الرئيس الفرنسي عمانويل ماكرون في الأثناء التي كان فيها يخاطب طلاب جامعة أوغادوقو في قاعة دراسيَّة مكتظة بالطلاب في بوركينا فاسو في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017م. فماذا قال الرئيس الفرنسي ماكرون؟ صرَّح ماكرون "بأنَّه ينتمي إلى جيل من الشعب الفرنسي الذي لا ينكر جرائم الاستعمار الأوروبي، التي صنعت جزءً من تأريخنا." ثمَّ استطرد ماكرون قائلاً: "لا أقبل أن يظل جزء كبير من الإرث الثقافي من عدَّة دول إفريقيَّة في فرنسا (...). إنِّي لأرغب في الخمس سنوات القادمة في تهيئة الظروف للإعادة المؤقَّتة أو الدائمة للتراث الإفريقي إلى إفريقيا." وعلى الفور أعلن قصر الإليزيه "بأنَّه ينبغي أن لا يمسي الإرث الإفريقي سجيناً في المتاحف الأوروبيَّة."
وبعد إعادة رفات الأفارقة، التي تمَّ نقلها أو أجزاء منها إلى أوروبا، إلى مساقط رؤوسهم في إفريقيا، بدأت المطالبة بإعادة الأعمال الفنيَّة المسلوبة في القرن التاسع عشر الميلادي المنقضي. وقد شرعت الأمم المتَّحدة في الولوج في هذا الجدال العارم العام 2007م في المادة 11 من إعلان حقوق الشعوب الأصيلة، التي تحث الدول على إعادة "الممتلكات الثقافيَّة والفكريَّة والدِّينيَّة والروحيَّة، والتي تمَّ أخذها من الشعوب الأصيلة دون موافقة حرَّة وسابقة ومعلومة، أو في تجاوز لقوانينهم وتقاليدهم وعاداتهم." ومن ثمَّ تكوَّنت منظمات ومؤسَّسات عقدت العزم على بذل الجهود لحث القائمين بأمور المتاحف الأوروبيَّة في التحادث مع ممثِّلي الدول الإفريقيَّة التي نُهِبت آثارها التأريخيَّة وأعمالها الفنيَّة، فضلاً عن النداءات المتكرِّرة التي تطالب الأمم الغربيَّة بالاعتذار عن جرائم الإمبراطوريَّة العديدة – على سبيل المثال لا حصريَّاً – ابتداءً من مجازر الألمان لأهل ناميبيا، إلى الهولنديين في إندونيسيا، إلى البريطانيين في كينيا والهند، والفرنسيين في شمال إفريقيا. ومن هذه المنظَّمات والهيئات "جماعة بنين للحوار"، و"مؤسَّسة بروسيا للإرث الثقافي".
وما هي إلا لحظات بعد إعلان الرئيس ماكرون الذي أشعل شعلة التغيير، حتى تمَّ تكوين لجنة ثلاثيَّة من المؤرِّخ الفني بينيديك سافوي واقتصادي سنغالي والكاتب فيلوين سار لكتابة تقرير حول كيفيَّة تطبيق رؤية ماكرون. إذ أوصت الدراسة، التي نُشرت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018م – فيما أوصت – على أن تكون الإعادة "لأيَّة أشياء أُخِذت بالقوَّة، أو يُعتقد بأنَّها أُخِذت من خلال ظروف غير عادلة بواسطة الجيش، أو الرحَّالة في سبيل الأبحاث العلميَّة، أو الإداريين أثناء الفترة الاستعماريَّة الفرنسيَّة في إفريقيا، والتي استمرَّت من القرن التاسع عشر الميلادي حتى العام 1960م."
مهما يكن من شيء، فقد ظهرت شعارات مثل شعار "حرَّر هذا المكان"، وأصحاب هذا الشعار هم مجموعة عمل قاعدتها في نيويورك، وهي التي كانت قد تأسَّست إثر تعيين باحث أبيض مديراً لمتحف بروكلين في نيسان (أبريل) 2018م كراعي للمقتنيات الإفريقيَّة في المتحف. وقد أشعل هذا التعيين جدالاً لازباً وسط المجموعة إيَّاها، وطالبت بإعادة النَّظر في كل المتاحف في المدينة، ثمَّ طالبت المتحف كذلك بإنشاء مفوضيَّة التحرير (Decolonisation Commission) ليقدِّم تفسيراً لدور البيض في تواريخ الاستعمار وسيادة الرجل الأبيض. وكذلك دعت المجموعة إلى تعدُّديَّة الموظفين، وحصر المقتنيات التي يعود عهدها إلى الاستعمار، وذلك من أجل الإيفاء بالمزاعم التي طال أمد المطالبة بالتعويضات والاسترجاع. ثمَّ هناك ثمة شعار آخر ألا وهو "ينبغي أن يسقط روديس"، وحملة هذا الشعار الذين يطالبون بإزالة تمثال سيسيل روديس هم طلاب جامعة أوكسفورد البريطانيَّة، وذلك لما كان لهذا الرجل من دور استعماري مقيت حين وطأت قدماه أرض جنوب إفريقيا، ومن بعد توغَّل إلى زيمبابوي وزامبيا، اللتان سُمِّيتا باسمه (روديسيا الجنوبيَّة والشماليَّة، على التوالي)، وفعل بالسكان الأصلاء أبشع الجرائم الإنسانيَّة.
بيد أنَّ من الآثار الثمينة التي شرع الإثيوبيُّون يطالبون بإعادتها من بريطانيا هو تاج مقدالا، وهو عمل مهني إفريقي صُمِّم في أعظم ما يكون التصميم الفني، وهو التصميم الذي تكفَّلت به الإمبراطورة الإثيوبيَّة مينيواب في الأربعينيَّات من القرن الثامن عشر الميلادي المنصرم، واستقرَّ في متحف فيكتوريا وألبيرت في لندن. ولقد استقرَّ به المقام في هذا المتحف في منطقة كينسيغنتون في أعقاب هزيمة الإمبراطور الإثيوبي ثيودور الثاني في القرن التاسع عشر الميلادي بواسطة القوَّات البريطانيَّة، وبذلك حطَّمت بريطانيا طموحات الرَّجل في بناء دولة حديثة في شرق إفريقيا. كان الإمبراطور المسيحي العظيم يرغب في أشدَّ ما تكون الرغبة في أن يصد نفوذ المصريين، وإزاء ذلك طلب المساعدة من الملكة فيكتوريا والدولة البريطانيَّة لتحقيق مشروعه وحلمه. وما أن كشفت حكومة اللورد بالميرستون بأنَّها ليست لديها النيَّة في دعم طموحاته – ليس بسبب أنَّ الإقدام على مثل ذلك العمل قد يتطلَّب استعداء مصر فحسب، بل كانت مصر تمثِّل مصدراً لتمويل بريطانيا بالقطن. وفي وجه هذا الرَّفض البريطاني أخذ الإمبراطور ثيودور المبعوث البريطاني وبعض الأوربيين كرهائن في إثيوبيا.
إزاء ذلك حشد السير روبرت نابيير تجريدة قوامها 13.000 رجلاً وأغارت على قلعة مقدالا بعد أن قطعت الآلاف من الأميال بحراً وبراً وعلى ظهور الأفيال جاءوا إلى إثيوبيا، وحرَّرت القوَّات الغازية الرهائن، وأخذت تنتهب. وفي لحظة من لحظات المعركة انتحر الإمبراطور ثيودور. وبرعاية ريتشارد هولمز الذي اصطحب القوات البريطانيَّة تمَّ وضع التاج والكأس الملكي والممتلكات الملكيَّة الأخرى في الخزينة البريطانيَّة، وتمَّ بيعها في مزادٍ علني لصالح الجيش، ومن ثمَّ تمَّ توزيعها في المتاحف المختلفة بما فيها متحف فيكتوريا وألبيرت. وفي خلال القرن العشرين الميلادي تمَّ استرجاع عدد من الآثار الإثيوبيَّة، التي كانت بحوزة الحكومة البريطانيَّة، إلى إثيوبيا، بما فيها خصلتان من خصلات شعر الإمبراطور ثيودور، اللتان تمَّ اقتطاعهما من رأسه العام 1868م، حيث شرعت السلطات الإثيوبيَّة في ترتيب المراسيم لتتم مواراتهما مع رفاته في أرض بلاده.
مهما يكن من شيء، ففي الأعمال الأدبيَّة إيَّاها رأينا كيف فعلت التقاليد الأوروبيَّة في حماية أشكال السلطات الاستعماريَّة المختلفة، وتهميش شعوب القارة الإفريقيَّة بتبايناتها الإثنيَّة والدِّينيَّة. بيد أنَّنا لم نكن نودُّ أن ننحو منحى الناقد الأميريكي الراحل هارولد بُلُوم (1930-2019م) الذي كان يرى أنَّه ينبغي النظر إلى الأعمال الأدبيَّة وتقييمها في إطارها الإبداعي والجمالي فحسب – أي " الذاتيَّة الجماليَّة" (The autonomy of aesthetic) – وذلك بالابتعاد عن التقييم الاجتماعي والسِّياسي والمحتوى التأريخي. ولئن كنا قد نحونا منهجه، فذلك يصبُّ في قالب التحكيم الخالي من الفهم. وإذا كان الأمر لذلك كذلك فكيف تكون حال الروايات التأريخيَّة! أليست هي مرتبطة بأزمان تأريخيَّة، ومواقف سياسيَّة، وقضايا اجتماعيَّة لا ينبغي تجاهلها أو تناسيها! والحال كذلك مع الروايات والأشعار والقصص الاجتماعيَّة التي تخاطب مشكلات اجتماعيَّة يصطرع حولها النَّاس ويقتتلون. وكذلك الرسوم والنحوت والتماثيل والمجسَّمات كلها تعبِّر عن رجال شاركوا في قضايا سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة، ومن ثمَّ أحدثوا تغييراً جذريَّاً أو جزئيَّاً في حيوات أناس غيرهم. إزاء ذلك لا يمكن النظر إلى هذه الابداعات الملهمة والابتكارات الخلاقة من الوجهة الفنيَّة البحتة دون الولوج في الفهم العميق للأسباب السِّياسيَّة والاجتماعيَّة الكامنة وراء إنشاء هذه الأعمال، وتبصُّر الهُويَّة التي تماهى بها كتَّابها ومبدعوها في ذلكم الحين من التأريخ.
أجل، كانت هذه الرؤية الدفاعيَّة عن الكتَّاب الغربيين هي التي أعماهم عن تقدير واستيعاب ثقافات الأغيار، ثمَّ كان تقوقع الغرب في هُويَّة الرجل الأبيض، والاعتبارات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة هي التي ساهمت في الحكم وتهميش الأعمال الفنيَّة عند كثرٍ من الشعراء والأدباء من أمثال الشاعر الهندي روبندرونات طاغور (1861-1941م)، والكاتب والشاعر والناقد الأدبي الصيني لو شون (1881-1936م)، والكاتبة وعالمة الأنثروبولوجيا والمخرجة السينمائيَّة الأميريكيَّة زورا نيل هيرستون (1891-1960م) وآخرين. ولعلَّ هذا هو ما دفع الكاتب الأميريكي الأسود جيميس بولدوين (1924-1987م) أن يقرَّ بأنَّه قضى كثراً من السنوات وهو يستفرغ الأدران التي تعلَّمها عن نفسه، وذلك قبل أن يفلح في المشي على الأرض وكأنَّه يملك الحق أن يكون هنا. وفي هذا كله لأنَّ التأريخ يعتمد دوماً على من يحمل القلم، ويدوِّن التأريخ ذاته، أو كما جرى قولاً في المثل الشعبي السُّوداني "اللي في يده قلم ما بكتب نفسه شقي!" ثمَّ كان هذا ما دفع حامل لواء الحقوق المدنيَّة الراحل مارتن لوثر كنج (1929-1968م) أن يقول: "نحن لم نكن من صنَّاع التأريخ، بل نحن من إفرازات التأريخ!" (We are not makers of histoy. We are made by history).
بقي لنا أن نذكر هنا في هذا السرد أنَّ مئات الآلاف من الفرسان الأفارقة الذين ضحَّوا بحيواتهم في سبيل الإمبراطوريَّة البريطانيَّة في الحرب العظمى (أي قبل إعادة تسميتها بالحرب العالميَّة الأولى بعد نشوب الحرب العالميَّة الثانية) قد تمَّت إزالتهم من التأريخ. إذ لم تنطلق الطلقة الأولى والأخيرة في الجبهة الغربيَّة في أوروبا، بل في إفريقيا حين حاربت الإمبراطوريَّتان البريطانيَّة والألمانيَّة في سبيل السيطرة على الأراضي الاستعماريَّة في القارة. علاوة على العسكر، فقد جنَّدت بريطانيا كثراً من الحملة الأفارقة لنقل أمتعة الجنود البريطانيين الخاصة والذخيرة والإمداد الحربي إلى الخطوط الأماميَّة، وهم الذين عُرِفوا في كينيا وتنزانيا ب"فيلق الحملة". ففي الحين الذي فيه تمَّ دفن الجنود البريطانيين في حظيرة موقَّرة وكُتِبت أسماء العرفاء والنقباء على بلاطات الأضرحة في جنوب كينيا بالقرب من سلسلة الجبال المؤدِّية إلى تنزانيا، تمَّت مواراة جثامين الأفارقة في الغابة المجاورة، حيث ينام عليها – في بعض الأحايين – السكان المحلِّيون الذين لا مآوي لهم، وتتبوَّل عليها الكلاب. وقد تمَّ ذلكم الدفن بلا أسماء وبلا معالم ثمَّ بلا كرامة. والجدير بالذكر أنَّ الإحصاءات الرسميَّة أمست تعلن بأنَّ تعداد الأفارقة الذين خدموا في حملة شرق إفريقيا بلغ 100.000 شخصاً، غير أنَّ المؤرِّخين يقدِّرون تعدادهم بثلاثة أضعاف ذلك الإحصاء.
ففي خطاب صادر في العشرينيَّات من القرن الميلادي الفائت بواسطة وزير المستعمرات إلى حكام المحميات البريطانيَّة أوضح فيه السِّياسة التي تحكم مواراة جثامين السكان الأصلاء الذين خدموا بريطانيا. إذ جاء في الخطاب – فيما جاء – "بأنَّه لا ينبغي على مفوضية الكمونويلث لمقابر الحرب وضع بلاطات مقابر فرديَّة لهم كحال الذين ماتوا في أوروبا أو البيض، ولكن تتم مواراتهم في موقع مناسب تحدِّده الإدارة البريطانيَّة المستعمرِة (بكسر الرَّاء) التي يخصُّها الأمر." وكان كاتب الخطاب إيَّاه يعي هذه السِّياسة تماماً، ثمَّ كان هو وزير خارجيَّة سابق ورئيس مفوضية الإمبراطوريَّة لمقابر الحرب. ومن ثمَّ اختتم خطابه قائلاً: "لي الشرف في أن أكون السير، وخادمكم الأكثر طاعة وتواضعاً وينستون أس تشرشل."
وفي وثائق مفوضيَّة الكمونويلث لمقابر الحرب أخذ يُنعت الجنود وحملة الأمتعة الأفارقة ب"شبه المتوحشين"، ثمَّ افترى أحد البيض في القول إنَّهم ليسوا في حال من الحضارة بحيث يستحقون نصباً تذكاريَّاً. لذلك اقتصر تشييد النُّصب التذكاري لبعض الأفارقة في ثلاث مدن هي نيروبي ومومبسا ودار السَّلام، وقد جاء ذلكم الاستثناء لأنَّهم كانوا مسيحيين، وكُتِب على واحد منها بيت شعر يعود إلى شاعر الإمبراطوريَّة روديارد كبلينغ (1865-1936م) القائل: "حتى إذا متَّ، فإنَّ أبناءك لسوف يتذكَّرون اسمك." أما في دار السَّلام – حاضرة تنزانيا – فهناك مقابر غير معلَّمة لأكثر من 10.000 من الحملة الأفارقة الذين أفنوا حيواتهم في خدمة بريطانيا.
أما بعد، فكثراً ما تساءل النَّاس استنكاراً: أولم يكن من الأجدر بنا ترك الماضي ومفاعيله! ويضيفون في التسآل استهجاناً أنَّ البريطانيين البيض كانوا رقيقاً في أيدي الرومان، فهل يحق لهم دوماً مضايقة الإيطاليين طلباً للعدالة والجزاء! وهل يظلُّ الشعب البريطاني مغضاباً ضد تجاوزات الفايكنج! إلام ينتهي هذا التأسِّي والتحزُّن على الماضي؟ حسناً، لسوف ينتهي هذا الأمر حين تتوقف هذه الأشياء عن إثارة الألم. فلعلَّ الذين يأتون من خلفيَّة أرستقراطيَّة من السهل لهم أن يقولوا ذلك، ولكن هناك ثمة كثراً من الأدلة في إرث العنصريَّة التي روت اليوجينا (علم تحسين النَّسل)، والذي بدوره غذَّى التمييز العنصري، وجعل غالبيَّة الشعوب المتحدِّرة من إفريقيا من الطبقة العاملة. إذاً، هناك ثمة علاقة وثقى بين الماضي الأليم والحاضر الماثل. ونحن إذ نتذكَّر الماضي حتى لا نعيد تكراره، أو نساعد في إيجاد المناخ الذي تسبَّب في افتعاله، ومن ثمَّ نحترس من مخاطر المستقبل المجهول.