مقدمة (جمال محمد أحمد) لكتاب (حوار مع الصفوة)

 


 

 

 

صدرت هذه الطبعة التي بين أيدينا من دار النشر( مدارك)- الخرطوم عام 2010.

*
بعض كبار المثقفين، منهم " دكتور منصور خالد " كاتب ( حوار مع الصفوة)، وكاتب المقدمة " الأستاذ جمال محمد أحمد"، نظرا بغضب إلى الخلف، لتاريخ الديمقراطية السودانية، وكال " منصور" وصاحبه للطائفية والقبلية بنوازع الفشل قبل انقلاب 25 مايو 1969. ورغم ذلك اشتركا في حكومات انقلاب مايو1969 المتقلبة من اليسار إلى أقصى اليمين، وختم الانقلاب حكمه بطمس العقيدة في بركة آسنة للسياسة. مرّق أنفها، ولم يستطع كثير من السياسيين تخليص العقيدة من أطماع الشخوص ورغبات الساسة الطائفيين الدفينة، مكابرة حينا وجهلا أحيانا أخرى. وغرق كاتب (حوار الصفوة) ومعه كاتب المقدمة، في بحر انقلاب القوميين العرب. فقد غلب لأصحاب الانقلاب انتماءاتهم للنظام الناصري، برغم أن نخره السوس في هزيمة يونيو 1967.
*
ربما حوى الكتاب ومقدمته التي صاغها " جمال محمد أحمد" خلال فترات زمنية متعددة، عبر بها الأحداث الجسام، ووجه إليها سهاما فكرية حول الأحداث، واستعرض قادة الأحزاب الواحدية السلطة في إفريقيا، ونهجها في طريق الحكم والإدارة السياسة والتنمية الشائك، مرّ كاتب المقدمة على نكروما ونيريري وعبد الناصر، مرور منْ لا مذهب أيديولوجي له، غريبا، يمكنه أن يتدثر بألف لباس، ويقول كلها قومية. ليس حرا لا منتمٍ كما أراد كولن ويلسون:

(يلوح اللامنتمي من النظرة الأولى مشكلة اجتماعية، إنه الرجل الغامض، فالرجال والنساء جميعا يملكون هذه الدوافع الخطرة اللامسماة، إلا أنهم يغطونها عن أنفسهم وعن الآخرين، وليست أديانهم وفلسفاتهم إلا محاولات لصقل وتمدين شيء حيواني عنيف غير منظم، غير متعقل، وهو لامنتم لأنه يريد أن يجد الحقيقة)
*
كلا الرجلين، كاتب المقدمة وكاتب الحوار، من جملة المثقفين، يقرئان ويكتبان، وينظران الواقع بعين عميقة ومثال، منْ لم يجرِّب. وحينما جرّبا الحكم والسياسة، عيّنهما مقلّد عبد الناصر، وهو صورة من الأصل، وجرّبا الوزارة، حين لم يتوفر لهما غير دكتاتور في الواقع السياسي تلك الأيام، صاغ "دكتور منصور" دستورا للحاكم على صورة جمهورية، وقدم له اتفاقية أديس على طبق ذهبي. ومضى العمر بكلا من كاتب المقدمة وكاتب الكتاب، وأعفاهما صاحب السلطة الفرد، تحت شعار ( الثورة تراجع ولا تتراجع)!.
*
فشلا كسياسييّن، وإن تألقا كمثقفيّن واسعا الاطلاع والثقافة والنظر، لهما نهم غير مسبوق بالمعرفة، خطا كل واحد منهما طريقا فكريا. لم يصمتا و لم يكتفيا بما خفي في الصدور مثل جيل غير قليل من السودانيين. نمرّ على سيرتهما بكل الرفق والتجلّة والتقدير، بما قدماه مكتوبا في أسفار فخيمة المحتوى والقيمة، توثق بصدق لفترة ماضية، علنا نقرأ ونأخذ تجربتهما بنظر منْ يرغبون التطوير، وعندما يقول " جمل محمد أحمد":
( كنا نرى بعيوننا حسنات الطائفية تغرق في مياه الطموح الأجوف للقيادة السياسية، وكنا نشهد طيبات في القبيلة تبتلعها تغيرات في حياة الناس في القاعدة والقمة)
أو
( يريدون أن يقولوا أن حاكما بعينه لم يعد كفاء لحاجتهم مثلا، فيلجئون لدبلوماسية فطرية وعبقرية تعرفها البادية الكتوم، تقول " فلان كويس بس طوّل", هذا هو الذي أعنيه بمشقة الحذق، وهو أعسر من الخصام، مشقة ما عرفها الفتية القادمون على المنظر السياسي. ...فالحزبية طائفية بلا أخلاقيات الطائفية، والحزبية قبلية بلا تكاتف أو تكافل القبلية)
*
يا لها من مقولات، تحبو ..لكنها تنطبق على الحال الراهن!
*
وأغرب ما استعصى عليّ تحقيقه، هو نصا كتبه " جمال محمد أحمد"، يصف الأحداث أيام ثورة أكتوبر 1964، يقصد به تنظيم الإخوان المسلمين أو الحزب الشيوعي، ولكني لم أستطع أن أحدد منْ يقصد، فقد كان تعبيرا غائما:

(وقفت الجموع عشرة أيام أمام سلطة أغوى فئة منها قدرة الرصاص على القتل، وأضل فئة أخرى مكر قلة من المدنيين كانت تمارس سلطة في الظلام، تهمس بينها، تدبر الأمور كلها، وشئون الناس في ماسونية، ما استطاع حتى الخيرون من شباب الجيش أن يعتلوا أسوار همسها، فقد كانت عتبة عالية مغلقة النوافذ و الأبواب.)
(2)
كتب صاحب الكتاب " دكتور منصور خالد" في صدر مقدمته:
{ صدر هذا الكتاب في العام 1974 م، أي قبل ستة وثلاثين حولا متضمنا مقالات نشرت على التوالي، في أعوام 1965م (عقب انتفاضة أكتوبر)، 1968( فترة الديمقراطية الثانية وحل الحزب الشيوعي)، و 1969 ( قبيل انقلاب مايو). تلك الإضمامة من المقالات، ما كانت لتنجلي على الناس في كتاب، لولا إلحاف صديقين للكاتب رحلا عن دنيانا: "جمال محمد أحمد" الذي قدم للكتاب، و"علي المك" الذي تولى الإشراف على إصداره، من بين منشورات دار التأليف والترجمة والنشر بجامعة الخرطوم، وكان يوم ذاك واليا على أمرها. ولعل من أسباب عزوف الكاتب عن أو بالأحرى في نشر الكتاب يومذاك، القسوة التي شابت نقده، لما نَقَده ومنْ نَقَده، تلك القسوة لم تكن وليدة غيظ حنيق، أو عداوة مضمرة، وكيف يكون غيظ أو حنق أو عداوة نحو أنظمة تربى الكاتب في كنفها، وقيادات فكرية وسياسية تعلم منها الكثير.}
(3)
مقدمة ( جمال محمد أحمد):
كتبت عام 1964واستمر بها صاحبها يضيف في 1968م، ثم ختمها 1973م:
{أياما قليلة بعد أكتوبر 1964..
تصدر هذه البحوث وأنين أوجاع ميلادنا الجديد حولنا من كل جانب، في الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي، انفجرت الزائدة، وكانت في بطون قومنا تقاوم سنوات، تقاوم منذ أن وليت مراتب الجيش العليا شئون البلاد حين عجزت الأحزاب عن كلمة بينها سواء، وراحت رجالات أحدها تدعو هذه أن تعالي، تسلمي الأمر قسمة بيننا وبينكم، وكان الذي كان مما يعرف الناس، استأثر الجيش بالأمر كله، وأحسن في السنوات الست تارة، وأساء عنها تارات، كان أكثر ما غاب عنها مكان الصفوة في السودان، أصابت بعض النجاح في الشطر الاقتصادي من حياة الناس، فغشى بصرها، نسيت أن الوفرة الاقتصادية في أي بلد شطر واحد من كل لا تنفصم أشطاره. فات عليها أن للسياسة بمعناها الأشمل مكانا لا تحجبه البطون المتخمة وما كانت في الحق كلها متخمة. من أجل هذا غضبت الصفوة التي يتحدث عنها الصديق الأثير " منصور". ثم غضبت معها الجموع الناعسة عن حقها في الكرامة، ويقظت الأحزاب السياسية، وكان بعضها قد خدر بالذي يناله من الصدر، سمى نفسه " كرام المواطنين"، وخدر بعضها بالذي قد يجرح ما تملك من آمال و نفوذ. كان واحد من الحزبين الكبيرين يأمل فيخدر، وكان الثاني يهم بالنقد ويمسكه حذر أن يفقد.
ثم أتت الساعة من تلك الساعات التي يحفظها قدر الشعوب في رحم الغيب، يطلقها حين يشاء، كان شباب الجامعة يدبر الرأي في أمر الجنوب، يقول إن الذي يحول دون الوئام، هو أن الشعب هنا وهناك، لا يملك كثيرا من أمر نفسه، وزها القائمون على الأمر بعض النجاح الذي أشرت إليه، ورصاص الجيش والشرطة، فانقضوا على شباب الجامعة، لا حول له غير منطقه، وقتلت رصاصة جامحة صبيا، يقولون أنه كان من أحب الشباب لخلصائه، رضي الخلق، منذر نفسه لعلمه، يعدها ليوم قابل. ثم وقعت الواقعة. وقفت الجموع عشرة أيام أمام سلطة أغوى فئة منها قدرة الرصاص على القتل، وأضل فئة أخرى مكر قلة من المدنيين كانت تمارس سلطة في الظلام، تهمس بينها، تدبر الأمور كلها، وشئون الناس في ماسونية، ما استطاع حتى الخيرون من شباب الجيش أن يعتلوا أسوار همسها، فقد كانت عتبة عالية مغلقة النوافذ و الأبواب.
ذهبت الجموع الغاضبة بفئة الهمس ورجولات الطبنجة، وما فتئت تبحث عن بديل يعمل في النهار، طيب القصد، شجاع الرأي كبير النفس. مضت خمس أعوام، وشعبنا يشد من أزر قادته الجدد والقدامى، يتطلع لإدارة قادرة في الداخل، تحفظ عليه كبرياءه، وتوفر له المستطاع من رخاء العيش، ولحكومة تعيد صورته المضيئة في الخارج، وقد جرحه أن يقول عنه الذين استعادوا استقلاله بعده، رجل أفريقيا المريض، في عبارة أخرى، يرقب الشعب قادته ليشيع الطمأنينة في الحياة الاقتصادية، وليضع العلائق الاجتماعية والاقتصادية بين قطاعات الشعب من عمال ومزراعين ورأسماليين في إطار جديد. اهتزت قواعد الحياة حين ولي الأمر قادة الجيش بمعزل عن شبابه ورجاله، وبعيدا بعيدا عن إحساس الناس، إلا تلك الفئة التي تدفعها مطامحها السياسية، كل وسيلة مقبولة، وإلا الذين ما عرفوا غير الصغار يمليه خوف أو أمل.
في هذه الأيام التي نبحث فيها عن قواعد للحكم والإدارة جديدة، نشر صديقي الأثير" منصور" هذه البحوث نجوما في الأيام، وألحفت إليه أن يجلس إليها ثانية يضيف لفصولها من تجاربه في ميلاد دولة الجزائر، وتجاربه في الشام والمغرب وغير هذه من البلاد التي طوف، وطمعت أرجوه أن يفصل بعض الذي كتب في إيجاز، ذلك لأني أعرف دائرة أصحابه في الشرق والغرب، وأعرف قدراته على العمل، واليسير الذي يجده في التعبير عن ذاته، لكن أعماله أعجلته، فاطر على نشرها كما هي، على أن يعود ثانية حين يجد الفراغ الذي تتطلبه أشباه هذه البحوث، وأنا إذ أحث القارئ العربي على قراءة هذه البحوث ، أفعل ذلك لأني واثق أنه سيلقى روحا جديدة تعاظل، تسري في السودان، والسودان بلد كثير المواهب والموارد، إن عوفي عوفيت أمة العرب وقارة أفريقيا، " منصور" واحد من هذه الفئة الجديدة التي تعد بالمئين عندنا الآن، وهو يرقب في اعتدال المزاج الذي عرف به السودان، يومه هو ولداته في القيادة الرشيدة، وهو يوم قريب لا أتردد في أن أؤكده تأكيدا، أقرأ هذا في التجربة التي نعيشها اليوم، سننتهي لجديد يقوم على التجربة والمعرفة والكدح، مهما طال بنا المطاف، ودعني أوضح أكثر:
واحدة من اثنتين: إن نجحت أحزاب ما قبل الاستقلال في إعادة تركيب نظمها ومنشآتها، لتسير وتبعات الاستقلال، فإن قيادتها الأولى ستحتاج لهذه العقول الذكية العارفة ترفد عقولها الدربة. إنها تحاول هذا جادة متعثرة اليوم، لنرع الغد حتى يجيء. إن أخفقت أحزاب ما قبل الاستقلال في الذي تجهد له اليوم، فاليقين الذي لا معدى عنه، هو أن تشق الفئة الجديدة طريقها على نمط لن يخرج عن الروح التي تراها في الفصول التي تقرأ بعد حين. جيلان يكتشفان الطريق لمستقبل رافه، أحدهما درب الوطنية في السنين التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وصارع للاستقلال كل على أسلوبه وثانيهما دخل على الحياة يرى بعينيه المتشوقتين تلكم الآفاق التي تفتحت على يد ناصر ونكروما ونيريري، وكل واحد من هؤلاء شاب في عمر هذا الجيل، مثال يرنو إليه.
أوفق ما يرجوه الأخيار هو أن يعمل الفريقان معا، هذا بدربته وذا بحيويته، لكن الأوفق أكثر الأحيان عصي المنال. لابد للحياة أن تمضي سبيلها. تجدد نفسها كل آن وعبرة هذه الفصول التي بين يديك، هي أنها بدء الطريق لميثاق تحتضنه الفئة الجديدة، تدعو له، تبشر به، لا يعنيها الآن أن تقوم هي على تنفيذه، مقدار ما يعنيها أن ينفذ، اليوم إن تيسر، وغدا قريبا إن حالت الحوائل. معا إن قبل السابقون، تجديدا لشبابهم، وعلى انفراد إن شق ذلك عليهم.
بعد أربعة أعوام
{ما تيسر للصديق " منصور" أن يبعث للمطبعة ببحوثه التي قدمتها بالكلمات التي قرأت قبل قليل، لأنه رجل كثير الأشاغيل، دائم التطواف، كثير النهم للمعرفة، حريص أشد الحرص على أن يحقق ذاته، كتبت هذه الكلمات قبل أربع سنوات، وأراني راغبا عن تغيير شيء فيها، فما وقع شيء في الجوهر يدعوني بأن أحس اليوم، بغير ما أحسست تلكم الأيام. حقيقة أو حقيقتان ، تستأهلان نظرة جديدة؛ عصفت قوى البغي المحافظ بنكروما، لكن آثار أقدامه على القارة باقية، ونيريري تعرض لأذى، وتعثر راغما فيما يقدّر العاطف مثلي، طائعا فيما يقدّر الذين يمقتون للأحلام حتى أن تكون. يكرهون المثل. بقي فوقي مناكب الأزمات جمال، ينوشه الأقربون والأبعدون، وهم كلهم لا يطيقون العيش معه، خشية وتقيّة، ولا يتصورون حياة دونه، وهو ماض يلتقط ببطء موطأ أقدامه بين الصخور والأشواك تهن حينا يده، وتقوى أحيانا أخر.
*
نعم، تغيرت الحال كثيراً منذ قدمت لبحوث " منصور" الأولى، ولكن في السودان حيث كنا، نبحث عن سبيل للحكم والإدارة، تتفق والطموح الذي نراه في كل عين، والإحساس العميق بالواجب لدي شعبنا الذي ما خذل يوما مثله، رأيت هذا بعيني يوم الخميس والجمعة وأنا أطوف العاصمة المثلثة، كانت جموع الناخبين صفوفا أمام صناديق الاقتراع، لا يصرفها عن لظى الظهيرة، تريد التماس حقها، قل تريد لتؤدي واجبها في اختيار من يلي أمرها، ولمثل هذا أزهقت الأرواح النفيسة ذاك الأربعاء التعيس في أكتوبر أمام القصر ( الذي شارك في إطلاق رصاصه أمام القصر أحد أعضاء انقلاب 1969- تعليق كاتب المقال). ما خذل الشعب يوما قادته، ويحب الواحد منا أن يدرك إخوتنا هؤلاء، أن السودان جدير بحكم قوي عاطف، وإدارة ذات خيال، تفعل. أحسبني أوجزت رسالة العزيز " منصور" في بحوثه الجديدة، وإن أتتك "مبرطمة" تحمل سوطا لا يرحم، بعض الأحايين أسمعه " البلد الذي قدم للعالم أولى حضاراته المستقرة على ضفاف النيل، لم يجد مثقفوه من موضع الإقعاء المستخذي، أمام أوروبا كما تفعل الكلاب الجرباء " غضبة متمردة ولكن أنى لك بتغيير إن لم تتمرد. أما كان محمدا متمردا، أما كان عيسى، أما كان الكليم، وتشرشل وديجول، تمردوا ولم يبلغوا مبلغ الرجال، أستدرك أبعاد هذه القضبة المتمردة حين تقرأ قطعته عن الثقافة، وهي من الأضواء الكبيرة في هذه البحوث، لكيما تكون أصيلة لابد لها من أن تكون وفية لمصادرها الفكرية، واعية بتراثها الحضاري ومخلصة لينابيعها الروحية، أحمد له أن يحجم النار، يوقدها، يوقظ الحذر عندنا والنعاس، رغم المواهب التي نملك، حمدا لله، ما كان" منصور" هنا شهور الانفلاق والصدع، إذن لهوى علينا وأقذع. كنا تلكم الشهور البئيسة، مثل قاطع كفه بكف أخرى فأصبح أجذما.

دعني أبن ما أريد..
منذ كتبت كلماتي التي قرأت عن أحزاب ما قبل الاستقلال، ودربتها ومنظمات ما بعد الاستقلال وحيويتها طرأ جديد، ووددنا لو لم يقع، ونأمل الآن وقد وقع أن ينجم عنه شيء ينفع الناس، ما في الدموع على الذي استحال جدوى. ذلك الطارئ ينقر أبوابنا بحدة. إنه شبح النفرة بين الأجيال لا تتصادم. كان أولى ببلادنا أن تضع مواهب كلها معا في خدمة شعب جدير، لا يستحق. كنا نحب لأهل الدربة والخبرة أن يخرجوا قليلا عن طوق الحذر والتردد ويرتدوا ثياب المثالية والجدة، ويتعلموا من فتية ما عرفوا مشقة العيش الحذق على أيام الإدارة البريطانية، يريدون أن يقولوا أن حاكما بعينه لم يعد كفاء لحاجتهم مثلا، فيلجئون لدبلوماسية فطرية وعبقرية تعرفها البادية الكتوم، تقول " فلان كويس بس طوّل", هذا هو الذي أعنيه بمشقة الحذق، وهو أعسر من الخصام، مشقة ما عرفها الفتية القادمون على المنظر السياسي.
وقعت الواقعة و" منصور" بعيد يرقب عجز الخيرين منا على دفع هذا الوافد على جسمنا السياسي، عجز الخيرون عن أن يحملوا الساسة على أن يدركوا أن تداخل الأجيال أولى، تصادمها أذى يجرح، غضب ثانية " منصور" كما غضب أكثر الذين اجتمعوا رجالا على عهده، فكتب هذه البحوث التي ستقرأ بعد حين، تجرّمه كما تجرم كل ذي نظر، يبين: شيوعي، ناصري، فوضوي، أناني، وأنا الذي صحبته سنين أعرف أنه قومي سوداني في البدء، وأكبر من كل بطاقة يسير بها الناس، يتصيدون المكان الأرفع لذاته، لا لما يتح لواحد يعمل، وعذاب المكان الأرفع لا يعرفه غير من افتقده. أثلجت غضباته صدور أكثر الشباب، لأنه واحد منهم، يتميز عنهم ببيان يقنع، يعبر عن ذاته، فهي تحس ما يحس، ولا تملك ما يملك هو، من معرفة بتجارب عالمنا العربي والأفريقي، يتصدى لدقائق الحكم والإدارة والتعليم والثقافة. يستلهم تجاربه الثرة، يخيف الواحد بنشاطه الجسدي و الذهني، تأتيك رسائله من أطراف الأرض يبث فيها مشاعره وأفكاره، ويحدثك عن الذي قرأ من سياسة وأدب. لا تدري، متى وجد الفراغ، وعن الذين لقي من أئمة الفكر والسياسة، لا يمس واحد منهم استقلاله الفكري، فهو في النهاية ، واحد من الحريين الآخرين. ما أدري إن وقف عند كلمة معلمنا " لطفي السيد" أم لم يقف، لكنها تصفه وتصف كل الذين يعيشون الطلاقة الجامحة. إن أراد القارئ أن يفهم حديثي هذا دفاعا عن فكر بعينه، فليعد قرأته مثنى وثلاث... وإن أراد أن يفهمه دفاعا عن دولة، فليعد قراءته مثنى وثلاث ورباع، فالذي أدافع عنه هو أمر أخطر من هذا بكثير... الذي أدافع عنه هو حقنا في أن نفكر بحرية طليقة... وهو واجبنا في أن نتصرف بإرادة.
أرأيت؟
إن "منصور" لا يصدر عن مذهبية، إن أمعنت النظر فيما يكتب، ويقبل وصفي بأنه " حري" ولا يعلق. لولا خوفي عليه من أن يلج في زعر لقلت إنه يرفض المذهبية رفضي إياها، ويؤمن بقدرة الإنسان، مهما بنى الطامحون أسوارهم حوله، في الاشتراكية، كما في الديمقراطية ليست هناك قدرية، وليست هناك حلول جاهزة، وليست هناك قوالب معدة نصبّ فيها الواقع لنصوغه وفق هوانا، أريد لأقيظ " منصور"، إن لم يكن هذا كلام " حري" أنماه لوك وبنثام وشيخنا لطفي، أي كلام هو؟ قضينا ليالي يجادلني وأجادله عن الآيات- كما يعبرون- يراها هو منارات في الطريق، يسعى إليها الناس كي بها يهتدون، وأراها وسائل مشروعة لتجمع الناس حواليك ، نقطة انطلاق، تيسر بها العسير من شئون السياسة والاقتصاد في شعارات يرددونها ، لتعمل وإياهم حين تجيء موقع النفوذ والسلطات على بلوغ الأهداف القريبة والبعيدة، للوطن كله، لا للفئة التي خفّت إليك، ينقضي السحر، ويبدأ العمل، وفق حقائق الاجتماعية والسياسية، لا على هدي " البلابيع" طليقاً يتخذ سبيله على الأرض، يسعى ليسعد الناس، قدوما يستطيع أن يسعد، ذلك البائس التعس، أبين أن يحملنها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا، يضيق بإحساسي، يقول لي أني أحسب الآيات الاشتراكية الإسلامية - سجن وماهي ذاك، إن أنا أخذتها مأخذ الجد، ينبغي علي أن ألتزم أن أنسى الحريين، لا يربون غير مقعدين ما" عمروا عمار"، حتى في بريطانيا التي علمت الناس مبادئ الحريين، لا يربحون غير مقعدين أو ثلاثة في مجلس العموم، وأكثر قليلا في مجلس اللوردين كلهم " ينفخون في قربة مقدودة ".
*
غلطته أمس حين اعتدى علي" يقول أني وراء الزمان، وراء العصر، وكانت بحوثه على مائدة بيننا". مددت يدي، قرأت عليه بعض الذي كتب، وبصوت عال وقف عن الانحياز الفكري، بلغ عند بعض الناس حد الاستعباد الفكري، استعبادا هدد قيم المجتمع الثقافي نفسها... الانحياز الفكري أصبح تقديسا للفكر الغربي، وانكارا للجذور الثقافية للأمة، إنكارا للعروبة، إنكارا للزنجية، واندفع حين قرأت عليه هذا، برر وحشتي الفكرية والعملية يستهويني النهج الذي انتهج الحريون أخريات قرننا الماضي ومطالع هذا القرن، اندفع يحدثني عن صديق لنا عرفناه، ضيق الخناق عليه أوغاد لا يعلمون، عاش "بروموثيوس"مقيدا، وذلك هو " جورج بادمور"، الذي قضى أخريات عمره جنب نكروما يرجوه يلح عليه " الإدارة مفتاح، الإدارة مفتاح"، مضى عهد النضال والنظر. جاء عهد البناء والتعمير، انتهى مساءنا بوفاق أعاننا عليه أن خطبة الأخ الرئيس كانت بقربه، توجز للإنسان العربي سبيله إن اختار الهداية وأبى الطمع . قرأت له " ليست هنالك إدارة اشتراكية وإدارة رأسمالية، وإنما هناك إدارة علمية، والإدارة العلمية هي الناجحة، كان مساء موفقا اكتشف واكتشفت أننا نشترك كثيرا في الآراء عن سوداننا وعن اقليمنا العربي، وكان كلانا بمعزل عن العمل السياسي، لا حبا لمنجاة، أعيذه وأعيذني من مثل هذا الحب! بل حسرة على ما يدور حولنا، من تطويع لتقاليد بلادنا لغير ما تريد وتشتهي. كنا نرى بعيوننا حسنات الطائفية تغرق في مياه الطموح الأجوف للقيادة السياسية، وكنا نشهد طيبات في القبيلة تبتلعها تغيرات في حياة الناس في القاعدة والقمة. عبر عن هذه "منصور" الكارثة الكبرى ليست طائفية الأحزاب، بقدر ما هي في أن الأحزاب أصبحت مسخا للطوائف، فالحزبية طائفية بلا أخلاقيات الطائفية، والحزبية قبلية بلا تكاتف أو تكافل القبلية، بخ بخ، تعبير عفا عليه الزمن، لكنه هنا ينطبق. ما عند المثقف السوداني ما يأخذه على الطائفية، على النقيض، حسناتها تبهر العين والقلب والفؤاد، لولاها لما كانت القومية السودانية، حصيلة هذه القبليات، والقول ما قال " منصور"، ولا بقولة غيره، يتأرجح الأكثرون بين الحق يزهق مكانه والباطل يسنده طلاب سلطة جوفاء لا تفيد.
أرجو أن تقرأ غضبات الصديق الأثير" منصور" في حذر، فالسودان وإن بدأ لنا متعثرا عاجز الخطى، يعيش فترة من فترات انتقاله من الصبا غير المسئول، إلى الشباب المتأمل المسئول، يؤلف بين التماثلات والمتضادات، بين حذر الكبار وشجاعة الشباب، ويقيني أنه سيصيب قسطا من النجاح بين المراد والمستطاع، سيهتدي الناس كل مكان، شاهدي على ذلك، الحفايا والعرايا في أكتوبر ضد السلاح القاتل المميت، والحفايا إخوة المثقفين، وإن ضاق بالفجوة "منصور" ولداته، وما هي بالفجوة التي تستحق الحديث، هي عجز مؤقت عن التكامل في الذهن إن لم يكن في الدخل. لن يطول بنا الوقت، نحن في نهاية المسار. المتمردين عديدون، بعضهم يهمس، قليلون يأبون علانية، والغد للأباة.
سبتمبر 1973
كل الذي قرأت كتبت قبل سنين، ولم نر ما يحملنا على أن نبدل شيئا فيه. بعض الذي قالت البحوث وجد طريقه إلى النور، وبعضه الثاني يدور في ذهن صاحب هذه النظرات ورفاقه، ودلت التجارب على الأن بعضها، لا يستقيم في التطبيق، وإن استقام في النظر، ولم يجيء اليوم الذي يقوم الواحد هذه الفئات الثلاث تقويما يستند على التجربة، شيء واحد في هذا الصدد أحب أن أقوله، لأني أراه عن قرب، إن صاحب النظرات يعطي حياته كاملة لنظراته، الأمر الذي يدلل على أنه لم يكن ناقدا لأوضاع فحسب، كما يفعل كثيرون من المستنيرون في العالم، حذا أن يدرك أولا يدرك - حذو هايك أستاذ الاقتصاد يوما في كمبردج الذي كتب " طريق الحياة"، وهو يعلِّم في كمبردج، وسنو عالم الطبيعة الذي كان من صفوة تشرشل على أيام الحرب الكونية الثانية وأذاع في الناس فكرة الثقافتين العلمية والأدبية، وبلغ الاقتصادي الذي قدم من هنغاريا وعلَّم والأجيال في أكسفورد. حين أتيح لهايك أن يعمل شيئا مما كتب، وضع جانبا كتبه وجلس لها رولد ويلسون، يعمل للتوفيق بين الحرية والاشتراكية العمالية، وهكذا فعل بَلُغ أنذر نفسه لإيمانه بالتعليم عنصرا من عناصر الرخاء وقبل هذين سنو، عالم الطبيعة الذي ظل طوال الحرب في معمله يرشد، تشرشل وحكومته في فنه، الحرب العالمية. كانوا جميعا نقدة أوضاع، وحين أتاحت لهم العمل العقول الذكية التي تضع المواهب مكانها، كانوا عند كلمتهم. عملوا للتغيير، وأصابوا حظا من النجاح، ردت لهم حكوماتهم عرقهم وكدحهم تشريفا، وأغدقوا عليهم أعلى مراتب الكبراء، لورد بَلُغ ، لورد سنو، وعادوا منازلهم يكتبون على كبر، أكبر الظن ينقدون، فأهل الفكر، يطمحون ليكتمل الإنسان، ويموتون وفي نفوسهم شيء من حتى، كما يروي سيبويه.
لا يزعمن قارئ أني أسرف، حين أسوق هذه الأسماء، أنا أسوقها لأحث الذين يرقبون حياتنا العامة، أن يقوموها وأن يتحدثوا فيها حديث " منصور" حين كان بعيدا يرقب، لأني لا أعرف حياة عامة استقامت دون أشباه " منصور"، وهم عندنا كثيرون، أريد لهم وقد شغل " منصور" عن النظر وانصرف للتطبيق، أن يتخذوا مكانهم الجدير بهم، يدعون للإصلاح، للتغيير، للإحساس بما يقع حولهم هنا وفي العالم العريض}

عبدالله الشقليني
10 يناير 2020

alshiglini@gmail.com

 

آراء