الأستاذ/ جمال محمد أحمد ينعى شقيقه محجوب
إن الذي بمماته .. هجر الحياة وسحرها
وحياته بالحب قد .. كانت تمازح غيرها
يولي المحبة قومه .. منحوه أو بخلوا بها
ويشب نار جهادها .. دهراً ويرفع قدرها
إدريس محمد جماع
(2)
ما كنت أظن أن نعيه أخيه، مميزا، حتى قرأته مرات عديدة. قرأت المضمون والمحتوى، فرأيت غير الذي أجده إثر كل نعي قرأت. إذ اعتدنا أن يقف الناعي أمام الحدث كأنه يرى الفقد أول مرة، إذ أجد كل نعي يرصف كاتبه، بالدعوات المنقولة من تراث السلف، ليستعينوا به مقاومة مشاعر الفقد، دون جديد. يدعون بغسل الفقيد بالماء والبرد في تضاد لحر الصحراء ولهيب شمسها. لا يشيدون بعلاقتهم بالراحل أو الراحلة كثيراً من دفء العلاقة والحميمية، أو الذكريات التي يمثلها الفقيد أو الفقيدة. يقفون أمام النبأ الحزين حائرين أمام سنة الحياة، وهي تتجدد كل حين، فيستنجدون بتراث السلف:
(يسألون مولاهم الغفران والرحمة وَالعْفُو، يسألونه أن َيكْرِمْ نُزُلَ الفقيد، وَتوَسِّعة مُدْخَلَهُ، وأن ينقيه مِنَ الخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأن يبدله دَارًا خَيْرًا مِن دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِن أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِن زَوْجِهِ، وأن يجنبه فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ).
*
أوجدت كتابة الأستاذ" جمال محمد أحمد" سيرة متوهجة ومضيئة لحياة الفقيد، مواقف تشهدها الذاكرة، تحفظ أثر الفقد، ما انطبع في ذاكرة الطفولة، باستعادة لتلك اللحظات النديّة، باخضرارها وألقها. سرّب لمحة من حياته الشخصية. صور تعلق بها الطفولة بحلاوتها، وشقاوتها. وسنوات الطموح بإنجازاتها وخيباتها.
*
صورٌ متألقة، تمور في ذاكرة رجل بلغ من عمره اثنتين وستين سنة، جاب عواصم العالم و شهد مؤتمرات إقليمية ودولية وكتب أسفارا تنوء المعارف بأحمالها. تحكي في جزء منها ميراث أرض الشمال، الطفولة والمدرسة الأولية. دفق وطيف سماوي، لا تتعثر فيه الكلمة ولا تختفي الصورة ولا يعتمّ الخيال. الحياة في الريف الشمالي، الصابر أهله، على الرمال التي تغطى أبواب البيوت. وشدة برد الشتاء وشدة العيش وشظفه. في تلك الحياة بدت طفولة الأستاذ "جمال محمد أحمد" حين يستذكر، في عشرينات القرن العشرين.
وكيف سرد "جمال" عن مسيرة اقتصاد السودان من خلال نعيه لشقيقه، وقد وقفت حماقات مايو 1969 حول قرارات التأميم، التي لا مكان لها في خلقنا، لظل من سيذكر أيادي وعرفان من أخرجتهم مايو من السودان، إذ يكتب هو:
(وكانوا بجنب طلبات وكروشيسي ويونان بروكوبيو، سيذكر أياديهم وعوارفهم على الصناعات الصغيرة في المدن، من سيؤرخون للتقدم الاقتصادي في السودان، كانوا أعمدة، سوء حظ إن راحوا عن السودان، والمتكتل قدراته، ونفقدهم حتى يومنا هذا، لولا حماقات لا مكان لها في خلقنا، لظلوا معنا ولمشينا أطول في الطريق.)
(3)
العام 1986:
ما كان يظن" جمال" أنه قريبا سيلحق أخاه في رحلته الأبدية،
كتب في نص النعي:
{ ما كنت مفتونا بشقيقي "محجوب" أخريات عمرنا معا. توقعوا مني إذن أن أصدِّق كلام عنه، قد رحل. حديث القريب عن القريب البعيد، عبرة وثمرة. فيه حديث العاطفة، لا تنمو كالعقل, تخضّر برفقة أو زمان. تجئ دنياك معك. ما حيلتك في بعضك؟ وفيه حديث الرؤية, ذوو البصيرة لا تخفي عليهم صفات رجل كمحجوب, مكوناته, ومقوماته. أولى تلك الصفات كان يأبى أن يكون الثاني. ما قنُع أن يكون الأول, كان يعرف مرماه في حياته، وعاش لذلك المرمي حتي بلغه, استنفذ العمر قبل أوانه, استغفر الله, لكنه راح راضيا, أكبر الظن.
هذه كبرى خلاله العدة، حجبتها عنا حيويته، كما فعلت بنا وبموته، ما طاف بذهن واحد منا أن صاحب تلك الحيوية يموت، حجبت عنا تلك الشهوة للحياة، والرغبة في التفويق عنا، أكبر الحقائق" ولكل أجل كتاب". معارفه الأولون معا، هذا الماء أخوي "الحاج مضوي" و"فضل بشير" مثلا، سيعودون بتجاريبهم معه، سنين كثيرة وراء رؤاه، بقلوبهم وعيونهم، يصعد القمة دامي القدمين، ألقهم، أية قمة، لا سبيل لها بغير الدم والذكاء البعيد والعزم الجديد. دعوني أعد بنا لشيء عن البدء، لن أعود للبداية مع أبيه وأمه وجده، ذاك أعرفه، وله مقام غير مقامنا الحزين هذا.
أعود بإيجاز لحيث بدأ، أنا وهو على حمارنا في الطريق، من "سُرّة" شرق لسوق الخميس، حيث كانت "دبيره" الأولية. كان رديفي سنواتنا الأولى، أنا أكبره بسنتين، وتقدمت بنا الأيام عدا العاشرة في الذي أذكر، وعندها بدأت نزعته للأولية هذا بالطبع، في الذي أفسر الآن، وقائع حياتنا الأول، يعينني ضوء خبرات السنين، وتعينني معارف الكتب. ما كنت أعرف هذه النزعة فيه أياما تلك، حين شرع ينازعني الأولية علي الحمار، بعنف الصبيان، أبى إلا أن أكون رديفه ، وأبيتْ أنا. وكانت عقدة ذهبنا بها لجدى" أحمد زهره"، وكان رجلا طوّالا ،طيب القسمات، كثير النخل والبقر والغلّة، يفصل في الذي يثور بين أهله في سره. فصل بيننا، وكأنه سليمان بن داوود أنا رديفه في الشتاء، وهو رديفي في الصيف، وغلُب حمق الصبا حكمة السن، شغب "محجوب" وتململت أنا، فأراد جدنا أن نروح المدرسة علي أقدامنا، وكانت عسيرة، يوقظنا جدنا مع النجمة، ونقضي قيظ الظهر في دار جدتنا، "ريا داوود" نطعم هناك، ونلهو، ونروح قرب أول المساء لبيتنا في "سُرّه"، مسك بنا الحمق.
وفي عطلة الصيف جاء أبي من مصر، وعرف بالطبع شقاء والده، مع شقاوتنا، فأدار الأمر مع نديمه وصفيّه "منقرو"، عم لنا من "امبراي"، "سُرّة " غرب، كان يقضي معه كثيرا من وقته، نحمل لهما "محجوب" وأنا، عند مقيلهما في الديوان" الآبرئ" المسكَّر المثلج بهواء "أزيارنا" ،تحت النخيل المتشابكة أمام الدار. وفي المساء يخلوان بأنفسهما جنبها. كانا من عشاق الحياة وأحبابها. في واحدة من أمسياتهما تلك، استقر الرأي على أن يصحبهما "محجوب" للقاهرة، حيث يعودان وكان.
كان" محجوب" حتي في ذاك الصبا، الباكر قوي الساعدين عريض الكتفين، حازم الحنك، يزرع الأرض حين يمشي، وما كان بذاك الطول، توحي هيئته بالحزم والخشونة، كانت أطرافي ناعمة، وجسمي لدن. أقضي كلما تيسر ذلك ليالي، أسمع "الزبير أبو عاقلة" يأتينا من صدر الجزيرة يغني لرفاقه الشباب. وأقضي بعضه جنب " محمد صفورة"، يعدي بي وبرفاقي الصغار من عشاق صوته وطاره ويعود بهم وبي، أتسلل بالليل قرب جدنا حيث ننام وبقرنا في مربط البقر" الكرفة". وفي غدوتنا يتجهم لي " محجوب"، سفه عابث هذا الذي أقضي وقته فيه. مع "الزبير" قرب شيخ " النور" على التل، ومع "محمد صفورة" في الجزيرة بين "سُرّة" شرق وأختها " سُرّة" غرب.
واستقرت بي وبه الحال في " أبي روف" و" بيت المال"، ترعانا سيدتي زوجتي، ابنة عمي، ابنة عمه، وما كانت من العمر والتجاريب على الحال، تعينها على هذه الرعاية، لكنها كانت في حمى أسرة في " أبي روف"، يشدهم إليها لونها الذهبي وقوامها الغض وصوتها الشجي، يلحّون عليها غناءها النوبي وتسعدهم عربيتها الملحونة، فكنت قد شرعت في تعليمها، أعود والليل قد ذهب أوله مع أبناء بيت " إسحاق عمر" و" أبا بكر" و" عثمان" ، هذه الأسرة، " الطيب" و" إدريس" و، "قرشي"، الإخوة " أبو سمرة"، الإخوة" أبو شمة عبد الحليم" و"عبدالله" وأخي " الباسم " حسن زيادة" ونجلس نتم أحاديث المؤتمر والنادي العتيق، و"محجوب" منصرف لموتور سيكله في الحوش، أعانه على شراءه الأخ " محمد حسن"، الذي أعان " محجوب" على العمل في قراج " متشل كوتس"، سيرحم الله ذاك الرجل، كان من الأخيار، ينتقي ملابسه حتى في ذاك الزمان البعيد، قريبا من أربعين سنة، كما ينتقي الرجال أهل الذوق الجميل، وكان صبوحا في وجهه سمرة تعجب، وفي مشيته خيلاء هو بها جدير، كان حفيا بمحجوب، يراه رمزا لجيل قادم من العاملين القادرين، وأخذ عنه هذا الإعجاب زميله المستر "ووكر" مدير القراج، وكان من أخيار قومه أيضا، كلما رحت يوم الجمعة أتفقد" محجوب"، ملأني سرورا بالحديث عن قدرات" محجوب" وانتظامه، إن في الذي كان يرى رمز أمجاد السودان، ويعابثني عن " الأفندية" إنهم قوم يقولون كثيرا، ينتظرون يوما يكونون فيه أهل الحكم والقيادة عوض الإنجليز، وكان ذلك دأب أكثرهم، أنت لا تحب بديلك كل ذلك الحب، وكنت أحبه، سيد الناس ( هذا أعنيه) ساعد " محجوب" أخي الأول معملي.
ما كنت أعرف كثيرين منهم بعد، يضع يده على رأس "محجوب" يقول لي اطمئن سيكون له شأن.
وانتقل" محجوب" سنيه تلك من أول من ركب الموتر سيكل من "أبي روف" للمحطة الوسطى ، فأنا لا أذكر أني رأيت في الطريق موتر سيكل، ولا أذكر في الخرطوم أحدا اقتنى موتر سايكل، انتقل من أول من ركب الموتر إلى أول من افتتح قراجا حديثا في الذي أعرف، حديث المبنى، حديث المعدات، حديث الإدارة، مصاقبة منشأته هذه الجديدة، حيث كان و لا يزال الصديق القديم" سلامة صالح". وتكاثر صحاب الأسطى " محجوب"، بعضهم سعيد به رحم الله " عثمان عيسى" خال الصديق " فضل بشير"، ما بدأ يوم عمله قبل كلمة حلوة يقولها يبدوها" ود أختي" وما غاب سمعان عن الأسطى " محجوب"، يتبادلان أخبار قطع الغيار، وكان " سمعان" واحدا ممن يتاجرون فيها. سنوات بعدها أصبحت " المسطبة ملتقى الصفوة" أهل حلفا الذين سبقوا " محجوب" للخرطوم سنين ويكبرونه في الوسط " داوود".
عرفت الخرطوم قراجات من قبل وعرفت أسطوات من قبل، ولكنها لم تعرف أحدا يعلن وثوقه من نفسه إعلانا على يافطة مرفوعة " قراج محجوب". إنه "محجوب" ما أسماه شيئا آخر، قراج النهضة وقراج الخرطوم، أسماه باسمه، هذا القادم للبلد عزيمة في صدره، ومفك في يده وغاية من الغايات في عقله أعلن بيافطته أنه في الطريق. قادم وأنجز الذي وعد وقدم.
تقف الآن أخواتي إخوة " محجوب" على عتبات المرحلة الوسطى من مساره، رأيناه في الرحلة الأولى صبيا في "سُرّة" ينازع أخاه ليكون الأول، نراه في هذه الوسطى بشورته وأرجله القوية ويديه الفعالتين، يحتوي بين ذراعيه وحشة البطانة في الهجير وفي الليل البهيم، ونراه يحتوي بين هذه الذراعين زحام التل الكبير، لحظة سأشرح. رأيناه في البطانة على قندهاره يطوي الهجير حينا والليل حينا آخر، لا يحتاج زملاؤه قطع الغيار للواريهم زمانا طويلا، يغيب فيه يزاحم أثرياء مصر، يشتري قطع الغيار أكواما، هناك يعود بها للسودان، وقد دخل مرحل من مراحل تقدمه، يملك مواصلاته على يد أهلية، بدأ سوداننا الجديد.
وأرجع بذكراي آه عجب معجب!" محجوب" ذكرى؟ تلك الرياح الذارية ذكرى؟ عجب معجب !بكل الذي يقول أصفيائي ويكتب أحبابي عن تجاريبي وعلمي، غفوت، ما حسبت إعصارا وإن قسا ذلك المصباح في قمة القمم. أنسيت غفوتي ( إذ يغشيكم النعاس أمنة ) صدق الله العظيم. يغشاك ذاك النعاس الطويل وأنت كثير الأمن غافل. ما ذكرت حديث ربنا لصفيه إثر خلقه إلا حين يغشاه النعاس وهو آمن ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ؟) كلا ( كل نفس ذائقة الموت) .
ذكرى وإن هممت أنسى تأبى، يشركنا امتحان ربنا زميله في هجير البطانة وظلماته، الصديق الشقيق "إبراهيم م. جوهر"، واثق أنه سيذكر تلك الليالي البهم، هو و" محجوب" كانا يتعاشران كنفس واحدة، معهما وقد شقا الطريق في صناعة المواصلات المعقال " أحمد عبدالله" ،واحد من سادة هذه الصناعة منشئها والكريم سيد الكرماء، آنف من عرفت تلكم الأيام، في خلقه الرضي ولباسه الجميل والدليل " الزبير".
تلك السنوات أرست فيها هذه الجماعة القليلة، وأخوتهم في مدن الأقاليم أمثال " عبد المجيد حتيلة"، وكانوا بجنب طلبات وكروشيسي ويونان بروكوبيو، سيذكر أياديهم وعوارفهم على الصناعات الصغيرة في المدن، من سيؤرخون للتقدم الاقتصادي في السودان، كانوا أعمدة، سوء حظ إن راحوا عن السودان، والمتكتل قدراته، ونفقدهم حتى يومنا هذا، لولا حماقات لا مكان لها في خلقنا، لظلوا معنا ولمشينا أطول في الطريق.
ورأت هذه المرحلة الوسطى من حياة " محجوب" ميلاد شركة التأمينات الأهلية: كانت واحدة من الأوليات، عشق " محجوب " القديم، قام هو وإخوة له من صناع المواصلات بإنشائها، فكانت الأم لشركة التأمينات العامة، التي دخلت بالسودان صناعة التأمينات، وهي تاج أمجاده الاقتصادية عجزت أمجاده الأخرى، صناعة البلاستيك وتجميع سيارات مازدا، ووكالة انترناشنال هارفشتر أن تنافسها وكان يرجو ذلك " محجوب"، أقعدته عن طموحه مايو، وأكره أن أزيدكم أحزان على حزنكم عليه، كانت شقية مايو، تعيسة، نقص أشرار في سفينتها، لا يسارا عرفوا ولا يمينا به آمنوا على اقتصاد البلاد، وكان " محجوب" من أعلامها، أخذوه أياما طوالا لواحدة من محاكم الجور، لكنه غلب الجند وما جندوا من هيلمان.
أدعو هنا واحد من رجالات أهلنا، يحدثكم" محجوب" في محكمة الجور الرجل " توفيق أحمد يوسف" والد " الزبير محمد"، ما عرفته معرفتي إياه عصر ذلك اليوم، كنت أسمع عن عناده وجسارته، وعن قصة يأسه بملكاته هو الشيخ الجليل "دهب حسنين " والد " عبده"، وكنت أسمع عن تعليقات له تجاور توأم مصر" منذر" خرج منها كموسى عليه السلام " خائفا يترقب".
الإلحاد حين يدور الحديث، كما كان كانوا يسمون تلكم الأيام " قروية أرقين" " قروية أشكين " وهكذا.
جاءني وأنا جنبي شاي على مسطبة داري، حولي نسوة الأسرة وادعى أنا احتمال ما لا يحتمل، يثرثرن وبعيني بصيرتي أرقب الغد لتقع عيناي، على "محجوب" وابنه " محمد"، تأتي بهما تايوتا مكشوفة يجلسان على حافتيها جلسة موجع، تخفرهما عصبة من الجند، تقف لدى باب البرلمان القديم، حيث كانت جلسات محكمة الجور، أول من يلقاهما وهما يلتويان، ينزلان من جلسة السكين على التايوتا، أخوه بلسم جراحاته، هبة السماء لمحجوب" محمد حسن السلمابي" منذ جاء أرضه.
دخل سيدي " توفيق" متهللا ينادي اسمي، عليه وعثاء السفر من القرية، عمامته المحكمة،على رأسه شاله الجثم على عنقه، عصاته الغليظة على مرفقه، بدأ بصوته الأجش، هش على نسوة الأسرة، دخلن، فهن يعرفن ما يحب وما يكره، وجلس قربي. ما أحوجني أسأل عن أساريره المبهجة، في مناخ حولنا يشبه مأتم، بادر قائلا أنه جاء خصيصا ليقول لي، لا تحزن "محجوب" على الهوى قذاف، ثم أفاض بذكر ثباته أمام محكمة الجور، مر بعربيته الملحونة، كان سعيدا عمنا " توفيق"، قال أنه يرى في " محجوب" جماعة أهله الأولين، عاشوا ساعة هول في فترة من فترات تاريخنا في بأس شديد، نافحوا عن العرض والأرض، وقال ممسكا بكتفي يعود أبنائي ، وماذا يعنيك يا ولدي من شرار كل الذي يستطيعون هو أن ينهبوا " محجوب"، ثق أنهم سيفعلون، العقل الذي صنع العقار والمال الذي سيقضون عليه سيبقى، وربك غير بعيد، إنه قريب يلحظ هذه الأغربة السود، سيبقى عقل " محجوب" وتذهب عقولهم، إن شاء الله قالها رافعا ذراعيه للسماء وعصاته تحت ابطه، ومشى.
ما كان نبيا عمنا " توفيق"، وما كان ممن يتخرصون، لكن شهور قليلة بعد أن جرحته الأغربة السود، أحزنته، آلمته تركته عدما، إلا من ذكائه كما هو الرجل الجسور، بدأ " محجوب" المرحلة الأخيرة، حيث انتهت المرحلة الوسطى على النحو اللئيم الذي رأيتم، شرع لي في السفح حيث بدأ، صعد القمم ثانية دامي القدمين، مهشم الأظافر، وصل من هناك حيث ألف واعتاد، من القمم شرع في آخر أولياته وكأن لم تكن محكمة جور ولا أغربة سود. أشرف على البنك الأهلي مع إخوة له آخرين وعلى شركة الأمن، والذي كان قد بقي من فتات قديم.
هذه إبداعات عقل كان يحلق حتى ساعة خذله جسمه الذي أرهقه، ونحن من آثارها أقرب ما تكون تعرفون دقائقها إخوته. سيد أيها الغزيز:
انتهت مراحل " محجوب"، وهي مراحل كما ترون تكاد أن تكون مراحل وطننا العزيز في مسار اقتصاده، تاريخ" محجوب" جزء من تاريخ بلاده، بل هي ذلك التاريخ بعينه لكن يا شقيقي الباقي.
وليت عشيات اللوى برواجع .. لنا أبدا ما أروق السلم النضر
نعم عائد ذاك الزمان ما عاد في يدك، القادم في يدك، وعاتقك على مقدار هذا الجاني من تراث أسرتك أنا أعرفه، آدابك تحول دون رؤية الناس لها، ومسيرته بعد حين، ويرون خلالا ما أتيحت لمحجوب، ما كان عنده وقت يمضيه في ضروب من خلال أنت تملكها، فامض على بركة الله، حارسنا، أنا جنبهم بحبي الذي عهدته منذ كنت، عضدك المعنوي.
يحرسك قلبك الكبير، ناصحا خلفاء " محجوب" من أبنائه وبناته كدأبك، أنا جنبك خادم لهم ما قلت لهم، وطوع ذكاك لا يسألاك، يصرعان بأمرك أبنائك عاصم المقدام وسامي الحكيم}
(4)
كتب " الطيب صالح معلقا على كتابة " جمال محمد أحمد" عن شقيقه " محجوب":
{ إلا أن القارئ سرعان ما يكتشف أن هذا المدخل الخافت، لم يكن إلا حيلة فنية طريفة، وكأنه يستعين على السيطرة على عاطفته، بالتظاهر بالحياد. يمضي جمال يتحدث عن " محجوب"، وهو في الوقت نفسه يبوح بذكرى مراحل مهمة في حياته هو، بأسلوب من أجمل ما عرف عنه . يحلق في آفاق الفصحى، وأحيانا ينزل إلى لغة قريبة من العامية. تتلاحق أسماء الناس والمشاهد والأحداث والذكريات، فتثير في نفسك الشجى والحزن، والكاتب لا يستدر عطفك، ولا يبذل جهدا في إثارتك... ثم تراه يغضب فجأة في لحظة نادرة، تخبرك أشياء كثيرة عن جمال نفسه.
" مايو" التي يتحدث "جمال" عنها، هي ثورة "النميري"، التي تحمَّس لها أول الأمر ودعا لنصرتها، ثم خرج منها بغصة عظيمة. إلى جانب ذلك فقد اعتقلت أخاه محجوبا وصادرت أمواله، وقدّمته للمحاكمة. وسوف يجد القارئ في الرسائل ما يوحي بأن جمالا كان يحب " النميري" ويعتقد أنه صديقه، ويشير إليه باسمه- المجّرد "جعفر". ولا بد أنه كرجل فكر وقلم، توسم فيه ما توسم المتنبي في " سيف الدولة". لذلك هذا الغضب، وهذا الإحساس المرير بخيبة الأمل}
(5)
هذه شهادة تاريخ لميلاد وطفولة ومسيرة" محجوب محمد أحمد" في منعطفات كثيرة، كرأسمالي وطني بدأ من الصفر إلى أن شيد مصنعا لتركيب التراكتورات في ستينات القرن العشرين، إلى أن تأذى من انقلاب مايو 1969. وتأتي سلطة بليل، جنودها إخوان مسلمين بتنظيم ماسوني، حاملين في صدورهم غلّ ما عرف السودانيون مثله، ولا ورثوا مثل تلك الطباع. يأتون بجنود الأمن ليفتحوا خزانة " محجوب " وقد أضحت ميراثا، يأخذون الدولارات والعملات السودانية. وبحقد أسود حالك السواد يقدمون ابن " محجوب"،" مجدي" للإعدام، ويشهد التنفيذ الرائد "شمس الدين"، عضو مجلس انقلابهم، علّه يريحه من داء الحقد الدفين. يلحقه بالإعدام شاب كريم من الإخوة الأقباط وكذلك أحد أبناء جنوب السودان الكرام.
وتمر سنوات الإنقاذ العجفاء، ويسافر" علي الحاج " بحقيبة ملئ بمئات الألوف من الدولارات من حر مال الدولة والشعب السوداني، يخرج من مطار الخرطوم ذاهبا لألمانيا لرشوة ضعاف النفوس من القادة الجنوبيين، لتنفيذ ما يسمى( السلام من الداخل). تؤول الخطوة كلها للفشل الزريع. ولا يجد منْ يحاسبه، وإن نووا كيل التهم إليه فيقول لهم ( دعوا الطابق مستور)!. فنسأل نحن:
أين الربانيون؟ وأين الأطهار وهم يصرخون بنا نحن ننقذ الإسلام، أمام هذا الفساد وشراء الذمم؟ أين العدالة؟ فهم يطبقون القتل على الضعيف ويتركون القوي يتحلّل من المال الحرام، ويصرخون رغم ذلك ( هي لله لا للسلطة ولا للجاه )!
عبدالله الشقليني
14 يناير 2020
alshiglini@gmail.com
//////////////////