هو لقاء النجوم، بين عملاقيّن مفكريّن وأديبيّن سودانييّن، قد حلقا في سمائنا. التقيا في الخرطوم ولندن. وكأن مرورهما لحظة مرور شهابين في السماء. لكل منهما لونه في الأدب والفكر، التقيا على هضاب عالية، حيث البَرَّد الدافئ ساعة نزوله من السماء. بينهما قامت وشائج الألفة والحبور واللطف والمرح. صنع لنا التاريخ هذه المقدمة التي كتبها " الطيب صالح " لأوراق ورسائل ما خطه "جمال"، في بلد كالسودان لا يحتفظ بتراث مفكريه و أدباءه وأشعارهم، كأن الأرض ابتلعت كل شيء، وها هي السماء قد أقلعت وغيض الماء، حين استوت بقناديلها. بقيت الأوراق قبل أن يبتلعها الجهل الفاغر فاه، لا يدري أي كنز سوف يحمي، وبأي شواطئ سوف تلفظ ذلك النثير الحي من جديد. * لن يكون في المقال سوى المقدمة الفخمة التي كتبها " الطيب صالح" وهذا التعليق عليها، ولن يكون من أثر لتلك الأوراق والرسائل إلا وفق الاستدلال، لأن من يبتغي ذلك، عليه أن يحصل على كتاب (جمال محمد أحمد - رسائل وأوراق خاصة) الذي عرضه وقام بتحليله " عثمان محمد الحسن" - جامعة الخرطوم. * سرّب" الطيب صالح" خلال هذه المقدمة، حقيقة أنه اختار الهجرة خارج الوطن لينجو بنفسه، هربا من المصير الذي كان سوف يناله من الهجران و النسيان، ومرارة أن تختفي تلك الكنوز المبدعة، كما اختفت كنوز " محمد عشري الصديق" و" عبدالله عشري الصديق " وأوراق " التجاني يوسف بشير" الشعرية، وضياع كثير من أوراق مفكرين من السودان لا نعلم أعدادهم، نبتت على قبورهم نباتات عشوائية، حين لم يتيسر لقبورهم التمييز. * بالفعل كانت حياة طفولة " جمال" وأمثاله غريبة البدايات وغريبة النهايات، متقلبة بين مرقد مريح وصفيح ساخن، يُستثار على جمر النسيان، في وطن أدمن الأقدمون حمل ما تنوء به الصدور إلى القبور، وأفلت من إعدامها القليل، منها أوراق ورسائل " جمال" الخاصة التي عرضها وحللها" النابه " عثمان محمد الحسن". كتب " الطيب" عن البون الشاسع بين طفولة" جمال" ومصائره الشائكة في الحياة:
( ما أبعد الشقة بين " سُرّة شرق" وجامعة أكسفورد. وما أطول الطريق بين صبي يرتدف أخاه على حمار إلى المدرسة، وبين وزير الخارجية. وما أشق الصعود من " بخت الرضا" إلى جامعة هارفارد.) * لو عقدت أنت سلسلة من حبّات تاريخ كثير من لفافات أوراق أدباء ومفكري السودان، على مدى تاريخ طويل، وذوبتّها، لصنعت مسابح ألفية، يلبسها الدراويش، حين تجدهم يمورون في رقص الانجذاب الصوفي. هذا الجمال الذي يتواثب من بين السطور، نجا من طوفان عام 1988 م، مثلما نجت سفينة نوح في الأديان القديمة. * صدق " الطيب صالح" حين قال:
(كان " جمال" هكذا دائما، مع أسرته وأهله وأصدقائه وتلاميذه ومحبيه، ينسج ثوبا واسعا من الود والتسامح والحكمة)
كم شهدنا بأم أعيننا تاريخ الجبابرة في السودان، وفعلهم في البلاد والناس والأرض والنبات والحيوان، لا ينفع معهم منْ يختار الاختلاف بود، حتى يلاحقونه إلى غرفة الاستشفاء قبل الرحيل في لندن، ليقول أي كلام خيِّر في رجل طَمْسَاً شائها، اختاره "حسن الترابي" ليحكم السودان ثلاثين عاما، كما فعلوا بـ " الطيب صالح" قبل أيام من رحيله.
(2)
تقديم الطيب صالح:
{ أقول دون تردد، بادئ ذي بدء، إن هذا الكتاب مهم، ليس للقارئ السوداني وحده، بل للقارئ العربي عموما. فقد كان المرحوم "جمال محمد أحمد"، شخصا معروفا في دنيا العرب، فزيادة على أنه عمل سفيرا في عدة أقطار عربية، ثم عمل وزيرا لخارجية السودان، فقد كان مفكرا كبيرا وأديبا صاحب رؤية طريفة وأسلوب لا يشبه أسلوب أحد من الكتاب. ورغم أنه كان كاتبا مقلّا، فإن المقالات التي كانت تنشر له في المجلات والصحف، والكتب التي صدرت له، كانت تلفت النظر دائما، وتحرك الاهتمام، وكان حين يكتب في الشؤون الأفريقية، أو في الأدب الإنجليزي، يكاد لا يرقى إلى مستواه إلا القليلون. هذا بالإضافة إلى أنه كان شخصا جذابا له حضور واضح، فكان له شأن في الاجتماعات الثقافية والمنتديات الفكرية.
الكتاب مهم جدا لأنه جديد في بابه، فأنا لا أعرف إلا القليل في كتب الرسائل في الأدب العربي المعاصر، أذكر الكتاب الذي أصدره المرحوم توفيق صائغ، تضمن رسائل جبران المتبادلة، وخاصة مع "ماري هاسكل"، وكتاب الأستاذ رجاء النقاش عن الناقد" أنور المعذاوي"، هذا لون ممتع من ألوان الأدب، يكثر في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وهو نادر في الأدب العربي، وقد كان " جمال محمد أحمد" كاتبا نشطا للرسائل، تربطه مثل خيوط متينة، مع أفراد أسرته ومع أصدقائه شرقا وغربا.
في الرسائل، يكون " جمال" على سجيته تماما، يذهب من موضوع إلى موضوع، ويتنقل من الخاص للعام، من المهم إلى العادي، بأسلوبه العجيب الذي تميز به. وهو أسلوب إذا تعوده القارئ، فإنه يستعذبه، ويقبل عليه بمتعة كبيرة.
وحسنا فعل " جمال"، إنه قبل أن يدركه الأجل، وكأنه كان يحس بدنوه، اختار من بين سائر تلاميذه وأصدقائه، " عثمان محمد الحسن" لينهض بهذه المهمة الشاقة. ذلك أن "عثمان محمد الحسن"، هو نفسه، لا تجد مثله كثيرين. كان أحد تلاميذ " جمال" النابهين من جامعة الخرطوم، ثم حل محله في سكرتارية البرلمان السوداني الأول، وظل بودّه ويواصله. وفي السنوات الأخيرة من حياة " جمال"، حين اسودّت الدنيا في عينيه بسبب الظروف التعيسة التي مر بها السودان، كان" عثمان محمد الحسن" أحد أصدقاء " جمال" الذين لازموه في الخرطوم طوال تلك السنوات الحالكة، يُسرّون عنه يحبّبون إليه الحياة.
كان " جمال" إنسانا بشوشا على الدوام منطلق أسارير الوجه، رغم الأحاسيس التي كانت تمور في أعماق ذاته ولا بد. كان إنسانا " أبلج" كما وصفه أحد أصدقائه الخلصاء، الأستاذ" بشير محمد سعيد". لكنه في السنوات الأخيرة كان يستسلم لليأس لكثرة أرى من محنٍ تحيق بالسودان، أغلبها من صنع أبنائه. وكنت أحس في لقاءاتي معه تلك الأيام، في زياراتي المتباعدة للخرطوم، كأنه فقد الرغبة في الحياة، لا بد أنه رأى بلداً أبعد ما يكون عن البلد الذي حلم به و وجيله من الرواد، حين كانوا يخطون خطواتهم الأولى في الخدمة العامة. ظل " عثمان" وفيا للعهد حتى آخر رمق من حياة "جمال"، فكان بين أواخر من رأوه على قيد الحياة، ثم سار في الموكب الذي شيّعه إلى مثواه الأخير، ثم كان أحد الذين وقفوا خطباء في حفل تأبينه، ثم ها هو الآن يذهب في الوفاء لأستاذه وصديقه، فيخرج هذا الكتاب المهم، ويكون بذلك قد أسدى لنا جميعا يدا بيضاء لا تُنسى.
إن " عثمان محمد الحسن" من هؤلاء الناس النادرين، الذين نقول في السودان، إننا نتركهم في " العَقابْ"، أي نتركهم يرعون بقية الأهل. لم ينزح عن الديار رغم الإغراءات وكل المبررات، لكنه ظل صابرا مرابطا في الخرطوم، يصل الرحم، يعود المرضى، ويتفقد الأهل و الصحاب ، ويعزّي من لا عزاء له. شيّع الموتى وينظم لقاءات التأبين، حيث يقف خطيبا أبدا، مذكّرا الأحياء بمآثر الماضين. وهو من نفر قليلين، قاموا بدور كبير في العناية خاصة بالرواد الذين خدموا البلد خدمات لا تقدر بثمن، في مجالات الثقافة والفكر والتعليم والسياسة. ولما تقدم بهم العمر، انصرف عنهم الناس، فلم يعد يحفل بهم إلا قليلون.
مثل " عثمان" هذا، " حسن أبّشر الطيب "، الذي لولاه لما صدرت دواوين الشاعر الضخم " محمد المهدي المجذوب"، ولضاع أكثر شعره الرائع، ربما إلى غير رجعة. ومثله أيضاً " عثمان حسن أحمد"، الذي عكف على تدوين تاريخ أم درمان ورجالاتها، واصرف إلى جمع مآثر الرواد الأوائل في مضمار التعليم. رحمه الله، فإن الأجل لم يمهله، فذهب حميدا مبكيا عليه. أما " حسن أبشر الطيب"، أدام الله عليه نعمة العافية، فقد أضناه المكث، فرضخ أخيرا لنداء الهجرة، فنجا بنفسه كما نجونا نحن من قبل. وبقي " عثمان محمد الحسن"، حفظه الله وبارك له مقيما على الود، حافظا للعهد، مصابرا مرابطا على جنبات النبع الأصيل.
لا غرو أن " جمال محمد أحمد" اختاره لهذه المهمة وقد نهض بها على خير وجه. وحقا أنها لم تكن مهمة سهلة، ففي بلد كالسودان، لم يحفل بعد بالتسجيل والتدوين، ولم يدرك تمام الإدراك الأهمية التاريخية لأوراق قد تبدو عادية في وقتها، في بلد مثل هذا لا يكون عملا كهذا سهلا. كان" جمال" نفسه يدرك أهمية التدوين والتوثيق. ولكن رسائله موزعة في أيدي الناس. ولا شك أن الرسائل التي تضمنها الكتاب، أقل كثيرا من الرسائل التي لم يتخل أصحابها عنها. كذلك فإن جمع الأوراق، وكثير منها لم ينشر من قبل، ومراجعتها وتمحيصها لم يكن أمرا سهلا.
هذا عمل لم يكن ليتم لولا المحبة، والحب أو المحبة، عاطفة تغلب على محتوى الكتاب أيضا. كان " جمال محمد أحمد"، رحمه الله، رجلا محظوظا إلى حد كبير، فقد أنعم الله عليه بهبات جمة. كان حسن السمت، عذب الحديث، ذكي الفؤاد. لذلك سار شأوا بعيدا، ونجح في كل عمل اضطلع به. وقد يقول أناس، وأنا واحد منهم، أنه كان يستحق أكثر. ولكن في بلد كالسودان، لا يحفل كما ينبغي بأبنائه- وبناته- لم يكن ما حققه " جمال" أمرا هينا. ما أبعد الشقة بين " سُرّة شرق" وجامعة أكسفورد. وما أطول الطريق بين صبي يرتدف أخاه على حمار إلى المدرسة، وبين وزير الخارجية. وما أشق الصعود من " بخت الرضا" إلى جامعة هارفارد.
كان " جمال" محظوظا أيضا في أن الله سبحانه وتعالى وهبه زوجة صالحة من أهله، ظلت ترعاه وتسهر على راحته إلى أن توفاه الله، وكان يحلّق في آفاق بعيدة، ويعود إليها كما يعود الغريب إلى وطنه، والمُهاجر إلى جذوره. وهو يذكرها بسعادة وطيب خاطر في رسائله إلى أبائه وبناته. وكان محظوظا في أبائه وبناته. ولعل أمتع أكثر الرسائل جلبا للمتعة، وكل الرسائل ممتعة، رسائله إلى أفراد عائلته. ها هنا يتعرف القار إلى" جمال" وهو في أحسن حالاته، إنسانا ذا قلب كبير، عامر بالمحبة وسعة الصدر والحكمة، والحزم في غير قسوة إذا لزم الأمر. يقول مخاطبا ابنه الأكبر " عادل" الذي يدلله بلقب" عدولي":
(عدولي حرسك الله. رجعت من الخرطوم منذ أيام، فقد قضيت هناك عيد الفطر، وكان اجتماعا عائليا عاما، فقدناك فيه، وإن لم تغب عنا إلا بجسدك. كانت ذكراك بيننا ترددها" عائدة"، وتقفز أمك الطيبة الصالحة كلما جاء ذكرك بيننا، تدعو لك بالخير العميم والنصر المؤزر، فهي راضية عنك أبلغ الرضا، لأنك كنت عونا لها على الصّغار، تجلسهم حولك ليستذكروا دروسهم، وتأخذهم للملاعب معك إن خرجت. كانت موافقة طريفة أن يأتي جوابك لعمك " محجوب"، يتحدث عن جهل زملائك ومعلميك مبادئ الإسلام، أقول كانت موافقة طريفة، لأني كنت أرسلت لصديق لي في القاهرة ليشتري لي المصحف المرتل، لأرسله لك في عيد ميلادك مع مصحف، ولم تصل الشرائط إلا بعد نهاية فبراير...)
الله أعلم، كم كان عمر" عادل" حينئذ، لكن " جمال" يكتب إلى أبنائه وبناته كأنهم ناضجون، مهما كانت أعمارهم، يخاطبهم مخاطبة النّد للنّد. وفي الرسالة روح" جمال" الذي تميّز به، وإن بدت لأول وهلة رسالة عادية، يكتبها أي أب لأبنه، كان " جمال" هكذا دائما، مع أسرته وأهله وأصدقائه وتلاميذه ومحبيه، ينسج ثوبا واسعا من الود والتسامح والحكمة. يدفع بالتي هي أحسن ويفترض وجود العقل في كل الناس. حين نكون معه يدخلك برفق في هذا العالم الودود. يستحضر أفراد أسرته فكأنهم أسرتك، وأسماء أصدقائه وكأنهم أصدقاؤك. وبرفق يتسرب هو أيضا إلى حياتك وأسرتك وأصدقائك، فإذا بعالمه وعالمك يمتزجان. كل ذلك بطريقته العجيبة، التي تتخللها لحظات صمت مرهفة، وضحكات وإيماءات لطيفة. في هذه الرسالة، كما في رسائل أخرى، جانب لا يعرفه كثيرون عن " جمال محمد أحمد" ، وهو إن كان مؤمنا إيمانا عميقا. ذلك أنه كان مثل مدينة عامرة، لا تفتح أبوابها لكل طارق، ولا تبوح بأسرارها لكل عابر سبيل.
نتابع رسائل " جمال" إلى أفراد أسرته، فنتابع قصة عائلة تتفرق وتجتمع، في الخرطوم وبغداد وأديس ابابا ولندن. نحس بين السطور، بروح من الفهم العميق والود الذي يجمع أفراد الأسرة بعضهم ببعض، وبينهم وبين رب الأسرة. تحس به حتى وهو على البعد، كأنه جالس بينهم، يمازح هذا، ويلاطف هذه، ويشجع ذلك، وهو على الدوام يقوم بدور" المربّي"، وكان ذلك دورا أساسيا في حياته، سواء في نطاق أسرته، أو في نطاق القطر بأكمله. ويدرك القارئ دون جهد، أن هذا أسلوب خلاق في التربية، يعتمد على احترام شخصية المتلقي وحسن الظن بقدرته على الفهم. أسلوب يتلط فيه الجد بالهزل، ويعطي الأفكار و المعلومات بخفة وعفوية. وهو أحيانا يكتب رسالة مشتركة لكل أفراد الأسرة، يوجه جزء منها لواحد بعينه، وهو في الوقت نفسه موجه لهم ميعا، فكأنه يجلس بينهم بالفعل يحدثهم ويستمع إليهم. يحس الإنسان أيضا، بالهموم التي تعتري الأسرة، وهي ليست كبيرة في الغالب، كما يستشف القارئ من هذه الرسائل. مشاكل الدراسة والقبول في المدارس، والعلاقات الأسرية، وهنا يكتب إلى ابنته الكبرى " عائدة"، ويمس برفق، كعهده دائما، قضية يبدو أنها تشغلها، ولا بد أنها كانت تشغله هو أيضا.
( كيفك عبُّدة؟ أنا لا أعرف أين أنتم الآن، ولذا أرسل جوابي هذا إليك باليد، وموضوعه هو أن ماما قلقة عليك. قالت إنها قلقة عليك. قالت أنها تخشى عليك من الرهج في الخرطوم للموقف إياه، تخشى أن تختاري في الذي تعمليه، تزوريهم أو لا تزوريهم. إن ماما تقول إنك لو تركت وشأنك، لما زرتهم ولا " حبيت لهم خير". وتقول أنك تخشين أن يقول عنك الناس جاحدة، وأن يلتفت النسوان "للقطيعة" فيتكلوا عن الموضوع. هذا ما قالته ماما أمس ليلا باختصار. وأريد أن أقترح عليك أن تفعلي الذي يرضيك أنت، أنت فحسب لا غير. أريد أن أقترح عليك أن تترددي عليهم إن وجدت ميلا لذلك، وأن تتركيهم وشأنهم إن كان التردد عليهم يثير غيظا فيك أو ذكرى حزينة...)
لم يكن هذا موضوعا تافها، ولا بد أنه كان يتصل بعلاقة ابنته بأناس يهمه أمرهم، وربما كانوا من أقربائه الأقربين. ورغم ذلك فإنه يترك القرار لابنته، ولعله كان يعلم أنها تتخذ القرار الصحيح في نهاية الأمر. كان هذا مبدأ ثابتا في حياة" جمال" نفسه ، يقول " كل واحد يفعل ما يريحه هو، بمحض اختياره، ويتحمل النتائج ". لذلك كان سلوكه عفويا تماما، الأمر الذي جلب له بعض المتاعب. ونحن نحس صدى ذلك في بعض الرسائل. في رسالة طويلة إلى جميع أفراد عائلته، يذكرهم بالاسم فردا فردا، يتعرض لموضوع لا بد أنه أهمّ هما عظيما. كان ذلك، على الأرجح حين عزلوه من منصبه كسفير في لندن، بأسلوب جلف وطريقة فظة. يقولها موجها حديثه لابنه " عارف":
( ولكني يا صديقي ... دعني أضع أمامك استجابتي أنا أيضا، فأنا أيضا بأسلوبي، كما أنتم بأساليبكم، ولن أفتر من ترديد هذا ، لأنها نسمة تنعش، أن يكون كل واحد منا دنيا بذاته. بيتنا دنياوات ملآى. أنا غاضب مثلك مجروح لأني أستحق أكثر من هذا. كنت واحدا فردا ممن احتضنوا التغيير ودعوا له، وغيري يرقب يريد ليعرف.... أختلف معك في أن أجيئ داري، وتتولون أمر عيشي، وتتمون الطريق التي بدأت. نعم أصابني عنتٌ في الرزق، لكني لا أرى هذا العنت كما رايته أنت. أملاه عليك خلقك الفحل. لكنك توحي إلي تبخل بي على ناكرين. أنا معك بمقدار، لكني لن أترك الساحة دون القتال. على نهجي، لن أترك عيوني لأقدارها. ما في وسع واحد منكم أن يكون دوني الآن، إلا إن أردتم السفوح، وأنا أريد لكم القمم، بي فضل من قوة جسد، وبي كل الحرص على العيش المليء برغباتي، وكلها مشروعة، إن أردت أن تعرف يا صديقي،....)
أرجو أن يجد القارئ متعة في قراءة هذه الرسالة بالذات، مثل ما وجدت أنا ، فهي بحق تحفة أدبية، لأنه كتبها تحت وطأة الغيظ والإحساس بالمرارة، فأستُثير كما يُستثار الكاتب المرهف والمفكر البعيد الأغوار. إنها تنبئنا بالكثير، عن أسرة " جمال" وعن شخصيته، وعن السودان في ذلك العهد. هكذا يكون الأدب السامي. لقد انطوى ذلك العهد برُمته، واختفى الناس الذين أساءوا إليه، وفارق هو هذه الدنيا، وبقيت الكلمات تضيء كالمصابيح في الظلام.
لم يترك الساحة دون قتال، فقد كان رغم ما يبدو من لين عريكته، مقاتلا عنيدا يعقد العزم على القتال. يبدو ذلك بشكل أكثر وضوحا، في موقف حدث قبل هذا التاريخ، حين اختلف مع الوزير، وكان هو حينئذ وكيلا لوزارة الخارجية، فقدم استقالته في مذكرة بليغة، رفعها إلى رئيس الوزراء، آنذاك السيد "إسماعيل الأزهري". ونحن نستفيد أمورا عدة من هذه المذكرة. نعرف جابنا من شخصية" جمال"، لم يكن يظهر للذين لا يعرفونه عن قرب، ونعرف مدى حكمة أولي الأمر حينئذ، وسعة صدورهم، وكيف أنهم كانوا يعرفون مقادير الناس ، وكيف أن العاملين في الدولة كانوا جميعا، يرسون قواعد متينة، تزعزعت فيما بعد لسوء الحظ. إنه وضع مختلف تماما عن الأوضاع التي سادت بعد ذلكن حين اختلط الحابل والنابل، ولم يعد الحكام يعبئون بأحد مهما علا قدره.
نعم، كان" جمال" محظوظا في عائلته، وكان أيضا محظوظا في أصدقائه. كان إنسانا ودودا تحيط به دوائر واسعة من الحب والصداقة. وكما قلت فإنه كان يحب كتابة الرسائل، ويقبل عليها ، فلا بد أن ما في أيدي أصدقائه منها عدد كبير. بعضها ليس موجودا هنا لسوء الحظ. لا تجد رسائل إلى " داوود عبداللطيف" ولا " محمد توفيق" ولا " بشير محمد سعيد" ولا " محمد عمر بشير" ولا "الشيخ المرضي"، ولا كثيرون آخرين. ليس الذنب ذنب " عثمان محمد الحسن" ، فقد بذل جهدا كبيرا، وجمع ما تيسر له جمعه. وأرجو أن يجد المزيد منها ، ويخرجه في كتاب ثان، فإن في قراءة رسائل" جمال محمد أحمد" متعة نادرة. تجد هنا رسائل" للسفير" مصطفى مدني" الذي ربطته به صداقة وثيقة أدت إلى أن " مصطفى مدني" تزوج ابنة " جمال" الكبرى " عائدة". لذلك فهو في رسائله إليه يجمع بين الأمور العائلية والأمور العامة. يقول له في رسالة ضافية: ( سأل عبد الناصر النميري( صحيح طلعتوا جمال أحمد). ويقول لي " فاروق أبو عيسى" إنه كان بادي الانقباض، وإن صمتا طويلا ساد المكان. وأنت تعرف أن الذي بيني وبين هذا الأسد الجريح، لا يعدو التقدير والحب مني، فنحن لم نلتق حتى اليوم إلا في زحام... والمكي ( محمد المكي إبراهيم، الشاعر السفير) أحمل له عاطفة الحب والتقدير، وما بيني وبينه إلا أيامي الخشنة حين كنت أتوسل إليهم أن يعرفوا ولا يعملوا. ما قرأت ما كتبت، ولكن بشير ( الصحفي بشير محمد سعيد) اهتز وطرب وجاء والدموع تطفر من عينيه. ورجوته أن يبقي المقال في أدراجه حراسة لروح نبيلة .... وسأنتظر قليلا حتى أعرف كيف يترجم النميري عبارة(لا ، أتركوا لي الموضوع) فقد كان بادي الصدق والإخلاص، واستقر على شيء، فليس من اللياقة أن أشرع في عمل وقد قال هذا، ولن يضيرني أن أنتظر، فالواحد في حاجة لفترة تفصل الماضي عن القابل...)
كان يكتب كثيرا إلى صديقه الشيخ " عبد الإله أبي سن"، وقد كان " عبد الإله" بحق رجلا أريحيا أديبا عالما، وجيها. كانا صديقين منذ عهد الدراسة، وتوطدت صداقتهما على مر السنين. و" جمال" يخاطبه بالشقيق والأثير. يقول له في رسالة مؤرخة، لحسن الحظ، من مكتب النشر في الخرطوم، في 5/8/ 1947:
( أيها العزيز الأثير. بالله لا تعتب عليّ قعودي عنك فقد صرفني عن الكتابة إليك أشياء لم تكن لي فيها يد ولم يكن لي عليها سلطان. قعدت حتى ألفى المرضي ( الشيخ محمد أحمد المرضي) وأعرف عنك منه واقتضائي ذلك زمنا أطول مما تظن ... أي أخي، أنا بخير، وإن بدت لك بين هذه السطور روح حزينة. ولو رأيتني هنا لرأيت أخاك الضاحك الهازل، ولكن هذه السطور تأبى إلا أن تحمل دخيلتي الدخيلة إليك ...)
هذه رسالة طريفة، فهي في وقت مبكر، وكان "جمال" في أوائل الثلاثينات من عمره على الأرجح، لذلك فأسلوبها يختلف عن الأسلوب الذي تفرّد به فيما بعد. وهي طريفة أيضا ، لأنه يتحدث فيها إلى صديقه عن حبه لـ " كاترين" التي تعرّف بها في أكسفورد. وهي قصة مهمة في حياة" جمال"، ليته باح بها على الورق، فقد كان لها أثر عميق في نفسه. وهذه أول مرة أجد ذكر " كاترين" في أي شيء كتبه.
كان من أصدقائه المقربين كذلك، الدكتور" أحمد الطيب". كان " أحمد الطيب" من نوابغ السودانيين، وكان من الأوائل الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه، من جامعة لندن، وقد عاش حياة معذبة، ومات موتا مأساويا. كان" جمال" يحبه أعظم الحب، ويقدره أعظم التقدير. ولا بد أنه كان يعرف قصة حب " جمال" لـ " كاترين". ففي هذه الرسالة التي بعث بها إليه بتاريخ 14/3/ 1960 و"جمال" يومئذ سفيرا في أديس أبابا، كأنه يشير إلى هذا الحب: ( ... لم يبق ما نعمله بحيواتنا بعد. لقد مضى خيرها فيما أحسب، حين انتُزع الحب من قلبنا اقتلاعا. عادت بعد خضرة الحب ونضرته حياتنا صحراء، لا مذاق لخير فيها، لا طعم لشيء. كل شيء يستوى الآن، وقد خلا القلب إلا من نبضه الذي يُبقى الحياة فينا، كما يُبقيها في غيرنا من الناس الذين لم تعصف بهم عواصف الحب، ولم تر قلوبهم وعقولهم وجوارحهم نوازع الإقدام والإحجام وعذاب التردد وحلاوة اليقين. أقول استوينا مع الناس منذ أن هوت من تحتنا أرض الحب، أرض المعركة. كنا ذلك الحين في الموضوع نختار فيه. كان أمامنا الحب نختاره إن شئنا، وأمامنا لذة التعبير. واخترنا الحب لأننا كنا نستطيعه، ولأن عناصره كانت في يدنا، في سذاجتنا الجميلة- كنا لا نؤمن بشيء إيماننا به.... ما بقي إذن ما نلذ له إلا التعبير عن أنفسنا على نحو من الأنحاء...)
هذه رسالة كاشفة حقا، خاصة إذا قرأها الإنسان، في سياق واحد، مع رسالته للشيخ " عبد الإله أبي سن، وهو يكتب إلى " أحمد الطيب" بهذه الطريقة، لأنه يعلم أن " أحمد الطيب" يعي تمما مرامي كلامه، وقد كان هو يعيش قصة حب مأساوي. وفي هذه الرسالة، يعبر " جمال" عن الصراع القديم بين الفن والحياة ويقول، إما أن تختار الفن وإما أن تختار الحياة. وهي الفكرة نفسها التي عبّر عنها " نزار قباني " شعرا في قوله: كلُّ الدروب أمامنا مسدودةٌ .. وخلاصنا في الرسم بالكلمات
ولكن" جمال" ما يلبث أن يقول في رسالته، أن لا خلاص حتى في الكتابة: ( زعموا لنا إن الحب يُلهم، وها نحن نرى تجربة غير ما جربه الناس. الحب يفرّق ولا يجمع..)
يفرغ القارئ من الرسائل، ولعله يحس مثلي بالأسف أنها لم تلبث وقتا أطولن على الأوراق، فيجد مادة غنية لا تقل أهمية عن الرسائل، فيها إشعاعات متعددة من فكر هذا الإنسان العجيب. يجد جمالا يكتب القصص والنقد ويترجم ويخوض في الشؤون العامة، ويتناول العلاقات بين أفريقيا والعالم العربي، وينظر نظرات ثاقبة في كل المواضيع التي يتعرض لها. كل هذا يؤكد للقارئ، أن هذا الرجل من طراز رجال " عصر النهضة" كما يقول الإنجليز، رجل شمولي المدارك، لا يبعد موضوع من مدار اهتمامه. وحسبي أن أنوه هنا، بالكلمة التي كان ينوي أن يرثي بها أخاه "محجوب":
كان " محجوب أصغر منه سنا، لكن جمالا قام منه مكان الأب، فكفله ورعاه ، ورآه يصعد من الإملاق، إلى أن أثرى وصار من رجال الاقتصاد المرموقين. وقصة هذه الكلمة هي في حد ذاتها قصة محزنة، فقد توفى "جمال" فجأة في ذات اليوم الذي كان مزمعا أن يلقي فيه الكلمة في حفل تأبين " محجوب". ثم لم يلبث أن توفى أخوه الأصغر " سيد" في حادث حركة مؤلم، ثم توفيت أمهم. كل ذلك حدث في نحو شهرين أو ثلاثة. وهي كلمة مهمة لأنها تكشف جوانب من حياة " جمال" نفسه، ليست معروفة، يبدؤوها بهذه الطريقة العجيبة: ( ما كنت مفتونا بشقيقي "محجوب" أخريات عمرنا معا. توقعوا مني إذن أن أصدِّق كلام عنه، قد رحل. حديث القريب عن القريب البعيد، عبرة وثمرة. فيه حديث العاطفة، لا تنمو كالعقل, تخضّر برفقة أو زمان. تجئ دنياك معك. ما حيلتك في بعضك؟ وفيه حديث الرؤية, ذوو البصيرة لا تخفي عليهم صفات رجل كمحجوب ...)
إلا أن القارئ سرعان ما يكتشف أن هذا المدخل الخافت، لم يكن إلا حيلة فنية طريفة، وكأنه يستعين على السيطرة على عاطفته، بالتظاهر بالحياد. يمضي جمال يتحدث عن " محجوب"، وهو في الوقت نفسه يبوح بذكرى مراحل مهمة في حياته هو، بأسلوب من أجمل ما عرف عنه . يحلق في آفاق الفصحى، وأحيانا ينزل إلى لغة قريبة من العامية. تتلاحق أسماء الناس والمشاهد والأحداث والذكريات، فتثير في نفسك الشجى والحزن، والكاتب لا يستدر عطفك، ولا يبذل جهدا في إثارتك... ثم تراه يغضب فجأة في لحظة نادرة، تخبرك أشياء كثيرة عن "جمال "نفسه: ( ... كانت شقية" مايو" تعيسة ، نقض أشرار في سفينتها، لا يسارا عرفوا ولا يمينا به آمنوا على اقتصاد البلاد. وكان " محجوب" من أعلامها، أخذوه أياما طوالا لواحدة من محاكم الجور، لكنه غلب الجند وما جنَّدوا من هيلمان ...)
" مايو" التي يتحدث "جمال" عنها، هي ثورة "النميري"، التي تحمَّس لها أول الأمر ودعا لنصرتها، ثم خرج منها بغصة عظيمة. إلى جانب ذلك فقد اعتقلت أخاه محجوبا وصادرت أمواله، وقدّمته للمحاكمة. وسوف يجد القارئ في الرسائل ما يوحي بأن جمالا كان يحب " النميري" ويعتقد أنه صديقه، ويشير إليه باسمه- المجّرد "جعفر". ولا بد أنه كرجل فكر وقلم، توسم فيه ما توسم المتنبي في " سيف الدولة". لذلك هذا الغضب، وهذا الإحساس المرير بخيبة الأمل. * أفاض الله على "جمال" من فيوض رحمته، وأثاب " عثمان محمد الحسن" على جهده أحسن الثواب. لقد أتاح لنا أن نجلس إلى" جمال"، كما كنا نجلس إليه في حياته، ننهل من نبعه الرقراق.
يغمرني وأنا أفارق هذا الكتاب، الإحساس نفسه الذي كان يغمرني وأنا أذهب من لقاء " جمال " في حياته. إحساس بالبهجة الروحية، مثل لحن موسيقي عذب. الحزن يأتي، حين أتذكر فجأة، أن هذا الإنسان الفريد، لم يعد موجودا بيننا، وإن الفراغ الذي تركه برحيله لن يمتلئ، وأن الخسارة فيه لن تعَّوض.}