دكتور منصور خالد يكتب في ذكرى جمال محمد أحمد

 


 

 

 

{في الشقة رقم 34 من الطابق الثالث والأخير، في عمارة تُمسِكْ باثنتين أخريين عن يمين ويسار، تطل كلها على بستانها الخاص وأشجارها الطوال حولها، قضيت فترة الدراسية في هارفارد بدءا بأول الشتاء ختماً بأوائل الصيف، مائة وخمسة وثلاثين يوما. ما رأيت كل هذه الفسحة في شبه هذه الرقعة، كان أفسح بيت صغير سكنته، لا اذكرني افتقدت شيئا فيه. تدخل تجدك تواً فيه. قبالتكْ خزانة المعاطف، للبرد والحر، ومشاجب للطواقي صُنعت لتحمي الرأس والأذنين، وقبعات خفيف بعضها للرذاذ، ثقيل بعضها لحمأة الشمس، وأخرى للمظلة، ومسندة لأحذية الشتاء وخفها وأحذية الصيف، وفراغاً لغير هذه من واقيات الحر والبرد، فما اشتهر هذا الإقليم بطيب المناخ. خزانة الصيف والشتاء هذه داخل الحائط في الصالون، حيث مجلس أضيافك و مجلسك. خطوات قليلة عبر هذا الصالون يسار مدخلك فتحة لدهليز عرضه متر طوله أمتار معدودة. تقف لدى الفتحة وجها لوجه أمام خزانة شبيهة بأختها، أكثر عرضاً و عمقاً داخل الحائط، مُلئت مفارش وأكياس وفوط و زجاجات كثيرة. هذه للبلاط، تلك للحمام، جنبها فوط أخرى صفراء صفت على بعضها لنظافة الغرف والأثاث. يسار هذه الغرفة باب يقود لحجرة نومك، يمينها باب آخر لحمامك، وخطوات من بعد قبالتك، باب آخر يقود لمطبخك أعدّ ليخدم من يخدم نفسه، على اليسار فتحة أخرى كفتحة المدخل على الدهليز تقود للمكتبة، أفسح غرف البيت، اقتعدت فيها طاولة الكتابة والقراءة مكاناً وسطاً، وهي تكاد أن تملأ الحجرة طولا وتملاها عرضاً، على يسارها رف للكتب، بعرض الحائط هي خزانة ملابس سيد البيت، وفي منحنى الحائط فراغ يبدأ عنده رف آخر للكتب. ترك هذا الفراغ في الحائط مكاناً لنافذتين تطل منهما إن شئت، وترى من حيث تجلس إن شئت أشجارا طوالا، تكاد أن تلامس النافذتين، وراءهما شارع غير ضيق غير فسيح، فساحة مرصوفة هي الأخرى يحف بأركانها الثلاثة شجر، تطل عليها عمارات ثلاث شبيهات بأختها هذه في فرنالد درايف. أول المساء تمتلئ الساحة سيارات حين يعود المعلمون والمعلمون الزائرون وأهلوهم من أعمالهم في مدارس هارفارد العدة، وتفرغ منها أول الصباح حين يروحون، وعندها يتسلم الأطفال والأمهات الساحة، ويملأها لعب الأطفال وصياحهم، وتتنقل الأمهات جماعات من دفء الشمس حين يشتد ذلك الدفء يستحيل حرارة، إلى ظل الأشجار معهن أقفاصهن والإبر والخيوط ذات الألوان، مكورة داخل أقفاصها الصغيرة .}

جمال محمد أحمد من مقاله (مشاهد من هارفارد)

(2)

قبل أن نبدأ مقال دكتور منصور:

اضطررنا لكسر قيود الاستدلال، فجعلنا نورد النص أعلاه، الذي أحببنا أن يكون كاملا، من أجل قرائنا الأعزاء، ليتعرف الواحد منهم على مزهرية جمال كاملة الاستدارة: نقوشها وزخارفها والوشي يحف بها، قبل أن نلثم روائح أزهارها.
*
ندلف بالقارئ قليلا كي نتعرف، بالذي اخترناه من ذكريات جمال عن جامعة هارفارد عام 1971، في بطن النص الذي أوردناه في الأعلى. لقد سارت بجمالٍ اللغة العربية، من درجة الدراسة الكأداء، إلى المطيّة الطيّعة القياد عندما تُحبك، فجمال سقى اللغة من ماء شرايينه، فانقادت له وأذعنت. فوصفه الشقة التي سكنها في جامعة هارفارد، هو وصف مُحب يهوى، يستضيفك، بل يخاطبك كأنك ساكن معه (يسار هذه الغرفة باب يقود لحجرة نومك)، فتستحيل أنت إلى شريك، ثم إلى ساكن معه، إلى أن تتماها معه، فتصبح هو أنت، تماما كما يشعر الحلاج:

أنت منْ أهوى ومنْ أهوى أنا.. نحن روحان حللنا بدنا

*
يأخذك إلى المطبخ، فتتراءى لخيالك، مطابخ القصور، وفسحة لتسع كبير الطهاة والنادلين وغاسلي الصحون، غير أنه يوقف استرسال خيالك، لتقف أنت أمام المطبخ الحديث، بدون إطناب، فيقول لك: ( باب آخر يقود لمطبخك أعدّ ليخدم من يخدم نفسه).
*
لربما تجد نفسك متصورا بنتا كبرى تُمسك بشقيقتيها بيديها، من اليمين واليسار، وتسير في الطريق، تخاف عليهنّ أن تغريهنّ مباهج الطريق فينفلتنّ، فينقل لك جمال تصويره في تشابه آخر لتشاكُل البنايات في سمت العمارة (في عمارة تُمسِكْ باثنتين أخريين عن يمين ويسار).
*
أنا لا نتفق مع رأي دكتور بشرى الفاضل، من أن جمالا قد اتخذ منهج اللغة الإنجليزية في البيان والبلاغة والتشبيه وطبّقه في بطن اللغة العربية التي بها يكتب. أنا أعتقد بأن جمالا قد أضاف للغة العربية، حين أحبها، وهو نهج جديد متطور، ومحتوى يميّز كتابته المورقة، ويضع بصمة رائعة لطريقته في التعبير والتصوير، بلغة سينمائية جديدة، في استنبات سيناريو خلاق للكتابة النثرية، فيها التقديم والتأخير للأحداث، وفيها الصور المكثفة المتزاحمة، التي تستدعي من القارئ أن يشترك بخياله في التصوّر. صورٌ مكثفة في كبسولات، تحفّز مشاعرك.

*
ليس من السهل الحديث عن نجم من الأنجم التي ظهرت في سماء السودان، في ومضة من ومضات التاريخ، تألق جمال خلال واحد وسبعين عاما، ثم خبا فجأة كما ظهر، كان فاعلا في كل محطات الأحداث المصيرية السودانية، بإبداعية تنساب ونغم سلس ممراح، متصالح مع نفسه. يستحق جمال أن تُفرَد له جائزة للأعمال الكتابية الابداعية، تعيننا في الدخول لمرحلة حسن الوفاء للراحل لتخلّيد ذكراه، وتصبح سُرّة شرق، الغارقة في النيل، منارة إبداع، يصورها خيال الكُتاب. هو من بعض كنوز الجينات عندما تتجلى مفاتنها.

(3)

مقال دكتور منصور في الذكرى 25 لرحيل جمال محمد أحمد:

{في ربيع عام 1986م كان آخر لقاء بيني وبين أستاذي الصديق جمال محمد أمحمد. كان اللقاء في مقهى الدونية في شارع فيا فينيتو بمدينة روما التي كان جمال يعشقها، وكنت وما فتئت أفعل. فروما مدينة يضمخها عبير الحضارة، وتكسوها هيبة آثارها الشامخات، وتفتح ذراعيها لكل قادم إليها لا يُضمر لها شرا. أمضيت مع شيخي جمال ثلاث ساعات تبادلنا الحديث حول العام والخاص والخصوصي، ثم استودعته إلى لقاء. الوداع في اللغة هو تمني الدعة للراحل حتى يقفل راجعا، ولكن رحيل صديقي كان رحيلا لا قفول معه. وُسد مال الثرى بعد ذلك اللقاء في لحظة غفلة، والحين قد يَسبق جهد الحريص. ويوم أُلحد جمال في القبر موحش قلت أنه سيظل يعيش بين أبنائه وبناته الطبيعيين والروحيين في حدقات العيون وسويداء القلوب. بل سيظل -بما سجل من دخائر، وخلّف من خرائد - النور الهادي لمريديه، لاسيما من بعد أن أدلجوا في سكك لا نجي فيها. وفي قول لعبد بن الحساس:

إذ نحن أدلجنا فأنت أمامنا .. كفى لمطايانا بوجهك هاديا

فكر جمال، كوجهه، سيظل أبد الدهر جهير الرواء.
وفد جمال إلى روما للقاء ابنه / مريده آنذاك. وفد إلى المدينة يحث ابنه على العود إلى الوطن بعد أن تبدل في نظره الحال، وبان للناس ضوء خفيت في آخر النفق. قال لي " فلتعد إلى أهلك وصحابك إذ أن الوقت موات، وعلك تقنُع صاحبك يوحنا أن يعود". يوحنا هو الاسم الذي كان يطلقه جمال على جون قرنق. وكان جمال قد نشر على الملأ قبل لقائنا الروماني رسالة حميمة مفعمة بالحب وجهها إلى العقيد جون قرنق في جريدة السياسة في السادس من مايو عام 1985م.
افترع جمال مقاله بالقول: " ما من عادتي الكتابة لإخواني في الصحف، لكني مضطر هذه المرة لأني أريد الحديث معك، وأنا حريص أن تعرف بعض أفكاري التي يمكن كتابتها في رسالة مفتوحة. فأنا لا أذكر أنا تحدثنا معا، ومع ذلك عندي إحساس أني أعرفك لكثرة ما سمعت عنك من إخوانك الشماليين والجنوبيين، وكله كلام يشجعني على الاتصال بك". ثم مضى جمال يقول في رسالته أنه جدُ واثق من أن المجلس العسكري سيفي بوعد قطعه بتسليم السلطة للمدنيين بعد عام واحد، وأن ما كان يسمى بقوانين سبتمبر ستُعالج عبر اتحاد المحامين على الوجه الذي يرضي الجميع.

كان جمال معذب النفس بتمزق وطنه، وكان من أكثر الناس حرصا على وحدتها. قلت لشيخي وصديقي" أن أزمة السودان عميقة الجذور، فجذورها تمتد إلى أزمنة سبقت قوانين سبتمبر وسبقت الحرب الأهلية الثانية التي اندلعت أوائل ثمانينات القرن الماضي. ثم مضيت أقول لجمال لعلك المفكر السوداني الأول الذي ذهب إلى تحليل عميق للمكونات الثقافية للوطن السوداني بأبعادها المختلفة والمتنوعة والمتشابكة. ارتحلت من بعد شيخي الصديق إلى دوره في بداهة عهده بالحياة كسكرتير للجنة التمهيدية لتأسيس مؤتمر الخريجين. ذلك موقع احتله جمال من ضمن مجموعة من الرعيل الأول من الخريجين: إسماعيل الأزهري، أحمد عثمان القاضي، محمد عثمان ميرغني، عبد الماجد أحمد، عثمان شندي، معني محمد حسن، إسماعيل عثمان صالح، إبراهيم أحمد حسين، عبدالله ميرغني، مكي شبيكة، أحمد محمد يس.

في ذلك الندي هب إسماعيل الأزهري مناديا بتكوين القومية السودانية: " ما لنا نتضال في بلادنا ونتخاذل في حقنا ... أو ما آن لنا أن نقف على أرجلنا. أما آن لنا أن نثبت وجودنا ونعتز بسودانيتنا". أضاف الأزهري: (إذا قسمت بلاد الله إلى همد وصين ومصر، وكان ساكن ذلك الهندي، وهذا الصيني، وذا المصري، فأنا وأنت سوداني، وهذا سوداننا، إن لم نكن سودانيين فماذا نكون؟). ودعا عبد الماجد أحمد في نفس النداء إلى قومية سودانية بدلا من التعزي بالأنساب والتفاضل بالأعراق، وكان في ذلك جد محق، لأن التفاضل بالأنساب أقل مناقب الخير غناء عند أهلها في الدين أو الدنيا"، هذه كلمات لابن المقفع ( الأدب الكبير). أما جمال فقد ذهب إلى حث المؤتمر على أن يلعب الدور الرئيس في صهر القومية السودانية. قال" نحن شعوب لا شعب، فنوبة الشمال وعرب الوسط، وزنج الجنوب والشرق عناصر متنافرة لا تآلف بينها ولا تعاضد ولا تداخل"، ثم مضى يقول إن صهر هذه العناصر ليس بالأمر العصي إذ ليست بيننا ثارات قديمة، ولا أحقاد كامنة، ولست أرى أنجع من التقريب المادي بالتجارة، والرباط المعنوي بالتعليم، وليس بضائر إيانا أن يطول الزمان في صهر هذه الوحدات". كان ذلك في ديسمبر 1973 م، أي قبل نصف قرن من الزمان الذي التقيت فيه بجمال في روما.

في تلك الفترة سالت مياه غزيرة تحت الجسر، وصحبتها حروب ومآس لأننا لم نفلح في ترجمة رؤانا الصائبة إلى واقع، حتى حُمل الرجل الذي أذن في أم درمان في ديسمبر 1937م أن حيّ على الفلاح، أن يقول في 17/10/1986م وهو يقدم مجموعة أقاصيصه ( سالي فو حمر) مخاطبا ابنيه اللذين أهدى لهما تلك المجموعة ( أسرفت في الحديث عن العبقرية العربية لأني كما يقول أهلنا في السودان" ممكون" ولا أريد أن تكونا مثلنا. نحن جيل الهزيمة والشقاق. من يدري، ربما أسلمناكم بلدا واحدا عزيزا. ولكن إن أخفقنا، لم كان إخفاقنا؟ أسألوا). لله در جمال الذي كان يرى بأم عينيه ، ويتأمل ببصيرته، ثم يمضي بعزم أسبارطي ليسمي الفأس فأسا ( call the spade a spade ) .

لم يكن جمال - برد الله قبره- بطريركا مثل بطريرك جبرائيل قارسيا ماركيز، الذي حباه الله بمناعة أسطورية ضد التجدد والتفاعل مع المتغير. كل شيء عند البطريرك ثابت. عاش جمال متصالحا مع نفسه، ومتآلفا مع رؤاه لم يتعزى بعصبية، أو يستنصر لمذهب أو فرقة، بل سما بإنسانيته المحضة وبذلك، برئ من داء التفريق بين الناس على أساس العرق أو الأصل أو الثقافة أو الدين. نشا جمال النوبي وترعرع في صباه في أرض النوبة، أو ما كانت أرضا قبل أن يبتلعها اليم، وظل بها يفاخر. حق له أن يفخر بالأرض التي أنجبت أولى حضارات أفريقيا ، بل العالم، يفاخر أن بإسهامها في الحضارة الإنسانية. تلك الأرض النجيبة انتهى وصفها عند بعض الرقعاء ببلاد البرابرة. لا أقول يا لها تلك من كلمة نابية عوراء. وإنما أقول ما أتعسهم أولئك الذين لا يدركون مآثرهم التاريخية التي ينبغي عليهم أن يفاخروا بها. رعى الله القاص النوبي المصري حجاج أدول حين قال ( أهلنا سمر ولكنهم يحتفظون بشموسهم في وجوههم). تلك هي شموس الحضارة النوبية، الشموس التي ظلت تشع منذ زمان قديم وما زالت لها آثار ومعالم باقيات.

جمال النوبي الذي استعرب في المدرسة (واصطحب معه سُرّ شرق إلى الخرطوم )، فطن إلى البعد العربي الإسلامي في الشخصية السودانية، فعكف على قراءة كتاب الله، كما لم يقرأه كثيرون. كتاب الله بحر طامح(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) الرعد الآية 17، وعن ابن عباس في تفسير القرطبي الماء هو القرآن، والأودية هي القلوب تحمل منه على قدر اليقين والشك، وبسعة العقل والجهل. إقبال جمال على كتاب الله كان على هذا النحو الذي أوصفه ابن عباس، فأحسن فهمه واستاد تأويله. سعى جمال أيضا للنهول من موارد اللغة العربية حتى تملك ناصية اللغة وارتاضت له قوافيها، بل جعل منها اللغة الأولى لأبنائه. ففي رسالته لعارف وعاطف ذكّرهما بما كان يعاني من مشقة في دراسته للشعر العربي القديم، وحثهما على احتمال تلك المشقة دون أن يغفلا إرفاد تلك اللغة بدم حار دافق. لم يُنس استعراب جمال سُرّة شرق، بل حملها معه إلى حي العمارات في الخرطوم، وهكذا الإنسان لا ينزع عن ذكريات الصبا. لم تنضب حرارة حب جمال لمراتع الطفولة، أو يتركها عمدا كما فعل البحتري:

إني تركت الصبا عمدا ، ولم أكد.. من غير شيب ولا عزل ولا فند
من كان ذا كبد حرى فقد نضبت .. حرارة الحب عن قلبي وعن كبدي

لا غرو في أن ينتهي الأمر بجمال المستعرب، لأن يكون واحدا من جهابذة اللغة عندما أضحى عضوا في مجمع اللغة العربية. والجهباذ هو الخبير بغوامض الأمور. رغم ذلك، لم تجعل عروبة جمال منه كاتب القبيلة أو مثقفا من مثقفي الحظيرة. أولئك هم الذين أخذوا يبحثون، بسبب من ثقافتهم العربية عن الجذور- جلها متوهم- في جزيرة العرب، بل لا يرضى الواحد منهم عن قريش بديلا.

اتجه جمال للبحث عن جانب آخر في الشخصية السودانية: الجانب الأفريقي بكل امتداداته والذي تكرست حوله وهومٌ أصبحت لحمة وسدى لتاريخ السودان المعاصر. المتمركز على الذات بين النخب السودانية التي عاصرها جمال، حال بينهم وبين الوعي المتوازن بالذات. رغم أن الوعي بالذات، في بلد متعدد الأعراق، ومتنوع الثقافات واللغات، لا يكتمل إلا بتعميق الوعي بالغير. الوعي الذي اصطنعته تلك النخبة، وجعلت منه تاريخا ثابتا يتبناه المجتمع السوداني ليس وهما فحسب، بل أن المجتمع نفسه كائن وهمي، تصطنعه دوما بعض العناصر المكونة له.

في الوقت الذي كانت تلك النخب توالي فيه ترديد وهومها، وهي تزيّف التاريخ في بعض الأحيان، وتختزله في أغلبها، وتمحو من الذاكرة ما تتمنى محوه، وتنظر للحاضر بعيون مطفأة إن لم تكن عمياء، كان جمال في حفره الأركيولوجي، وتحليله السياسي، ومقاربته بين الأديان والثقافات يسعى للتوفيق بين مكونات ذاته المتنوعة، ولا يجد في ذلك حرجا. كان في معرض بحثه عن الذات يتجاوز حدود الزمان والمكان، يبحث عن أصول ذاته في معبد بوهين، وسيدة فرس التي استنقذها من الضياع نوبي آخر، حقيق بأن يذكره الناس في هذه المناسبة، وكل مناسبة: نجم الدين محمد شريف. وكان يبحث عنها في ديوان العرب، وفي مباحث الفلسفة عن نشأة الأمم. وكان يستنجد في بحوثه الأفريقية بالشيخ أنتا ديوب وحميدو كان. بل كاد أن يكون مثل ديوجين الإغريقي الذي كان يحمل مصباحه في رائعة النهار ليرى الحقيقة.

قلت لأستاذي / صديقي - وأنا أعود على بدء - يوحنا يريد أن يكمل مشوارا بدأته وسرت في دربه واثقا. ثم قلت إنه مع حسن نواياك وثقتك في القوم لا أرى - للمرة الأولى- ما ترى. كنت في ذلك صادقا لأنني لا أذكر أن اختلفت مع جمال في تقويمنا للأحداث العامة. وعلى أي، مضيت في القول بأن الذي يحملني على ما يشبه اليأس تواتر الفشل وتكراره. والفشل إن لم يكن حافزا على تصحيح المسار، يصبح داء باثولوجيا أكثر منه خطأ في التقرير، أو عجزا في الحساب. ولو كان الأمر أمر خلاف في الرؤى لهان الأمر. الرؤية كانت واضحة، والتجارب متوفرة: في الصين أو الهند أو مصر، كما قال الزعيم الأزهري. الأزمة أحسن في وصفها جمال في رسالته لابنيه، كان الأعمى أحدُ بصرا من آبائنا الأفاضل، وفضلهم لا ينكر في مجالات شتى. قال المعري، من بين ما قال، في قصيدته: يقول لك العقل الذي بين الهدى:
وما الوقت إلا طائر يأخذ المدى .. فبادره، إذ كل النُهى في بداره.

نعم اختلفت مع شيخي / صديقي كما قلت للمرة الأولى- وكم تمنيت أن أكون مخطئا، لا لأن جمالا هو أستاذي الأثير، وإنما لأني لم أحسبه أبدا رجلا عاديا، بل مستودع أفكار THINK TANK . أحمد الله أن جمالا كان كما عرفته رجحانيا يقبل كل الأفكار. والرجحانية طائفة من الفلاسفة ترى أن لا سبيل لبلوغ اليقين. كلما نعرفه من آراء يترجح وجودها على عدمها، وصدقها على كذبها. الرجحانيون لا يبنون الرأي على الهوى، فالرأي باق، والهوى إلى بيود. وقد ذهب الهوى بالبعض إلى إنكار كل المظالم التي تولدت عن تلك النظرة الملتبسة للشخصية السودانية، فحسبوا ظلمهم للآخرين ظلما عادلا. هل نقول: لا ضير، فقد سبقهم إلى ذلك وليام شكسبير في يوليوس قيصر( إن القيصر لا يظلم إلا لسبب عادل).

كان أول لقاء لي بجمال في عهد الطلب بمدرسة وادي سيدنا، عندما عاد من بعثته الدراسية في جامعة أكستر هو وصديقه سر الختم الخليفة، ولعلهما كانا أول مبعوثين من رجالات التربية إلى بريطانيا، إذ ظلت حكومة السودان آنذاك توفد أساتذتها لاستكمال معارفهم في الجامعة الأمريكية ببيروت: إسماعيل الأزهري، عبد الفتاح المغربي، عوض ساتي، عبد الحليم علي طه، أحمد المرضي جبارة، النصري حمزة، نصر الحاج علي. وفد إلينا جمال كمعلم للغة الإنجليزية والتاريخ، ودرج على أسلوب في التدريس لم نكن نألفه: اصطحابنا إلى حافة النهر للحوار حول فصل من الكتاب، أو مراعاة قصيدة. ورغم إلحاف جمال علينا بالحوار، كنا نؤثر أن نستمع إليه بدلا أن نسمعه أصواتنا. لعلنا آثرنا الالتزام بحكمة ذي النون المصري ( وهو في الحقيقة نوبي من أقاصي الصعيد). قال ذو النون لمريديه ( يا معشر المريدين من أراد منكم الطريق فليلق العلماء بإظهار الجهل، والزهاد بإظهار الرغبة، والعارفين بالصمت).

لم يبق جمالا طويلا بين مريديه، إذ اختطفه الأستاذ عوض ساتي لينشئا معا إلى جانب أستاذ إنجليزي معروف هو روبين هودجكن، مكتب النشر ومجلة الصبيان، والأخيرة كانت من بنات أفكار المعلم الفذ عبد الرحمن علي طه. إلى ذلك الثالوث انضم بشير محمد سعيد، وأبو القاسم بدري و الفنان الناشئ إسماعيل ود الشيخ، إن لم تخني الذاكرة. رثى روبن هودجكن جمالا عند رحيله في مجلة راسات سودانية بالقول:( وجود جمال مثل لنا قوة إضافية. كان تقدميا في نظرته للأمور ). ونحمد لواحد من باحثينا: بدر الدين حامد الهاشمي، ترجمته لذلك المقال وإضاءته التي كشفت للقارئ عن التياسر الطفولي، الذي كان شائعا في ذلك الزمان بين الصغار، وعن الغوغائية السياسية التي لم ينج منها بعض الكبار. قال الباحث المحقق أن البعض كان يرى ( أن بخت الرضا ومكتب النشر وغيرهما من مؤسسات الأربعينات والخمسينات أنشأها المستعمر البريطاني لأهدافه الظاهرة والباطنة، وليس لخدمة السودان وأهله). هذا لون من ألوان التنميط الطفولي للرجال، فمؤسسات الأربعينات والخمسينات شملت وادي سيدنا الثانوية، وخور طقت الثانوية، وكلية الخرطوم الجامعية، وثانوية رمبيك. إن كان في إنشاء هذه الصروح من هدف ظاهر أو باطن تغيأه الاستعمار فمرحى بما تغيأ. وليت هؤلاء اعتقلوا ألسنتهم، فانتهاك التاريخ أمر سيئ، ولكن من سوء الخلق أن يوصم بعداوة الوطن، منْ سمقوا إلى الذرى من أبنائه بجهد لا يبتغون منه غير رضا ربهم، ومصالح أهليهم فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل.

لا بد لنا من وقفة عند أفريقيات جمال. فلربما ظن السطحيون أن جمالا النوبي، كان سيعنى أكثر ما يعنى بأثر الحضارة النوبية على أفريقيا جنوب الصحراء. جمال لم يستهم بهذا الأمر، لا لعدم جدواه وإنما آثر تركه لمن لهم علاقة مباشرة بالأمر، من الباحثين الذين تفرغوا منذ منتصف السبعينات في القرن الماضي، لإعادة كتابة تاريخ القارة من منظور أفريقي. ذلك أمر ما كان ينجز إلا عندما أصبح أحمد مختار أمبو مديرا عاما لليونسكو في الفترة ( 1974- 1987). وقد ضمت اللجنة التي أسهمت في صياغة الجزء الذي يعنينا، الشيخ أنتا ديوب من السنغال ( رحل في عام 1986) ، الأستاذ هامباتي با من مالي، البروفيسور كي زيروبو ( بوركينا فاسو) نجم الدين شريف ( السودان)، مكي شبيكة ( السودان).

ترك جمال الأمر لمن توفر عليه من العلماء، وانصرف إلى الجانب المغفل من العلائق الثقافية بين أفريقيا والعرب، ثم ذهب إلى حفر عميق في ثقافة أفريقيا. وعندما أطل جمال على القارئ بكتبه: في المسرحية الأفريقية، الدين في الإطار الأفريقي، سالي فو حمر، مطالعات في الشئون الأفريقية، ثم مقالاته عن اتحاد دول حوض النيل. كان ينشد أكثر من هدف: الهدف الأول هو إعانة القارئ السوداني، بل العربي، على أن يدرك أن أفريقيا ليست بقارة غفل لم تسم أهلها التجارب، بل لها ولهم تجارب ثرة في الأدب بضروبه: قصة وشعرا ونثرا، كما لهم دياناتهم التقليدية التي لا يقرئونها فقط باللسان، بل يعتقدونها بالجنان، ويلتزمون بقيمها السامقة في علائقهم مع بعضهم البعض، ومع الأغيار، ثم مع البيئة الطبيعية التي يعيشون فيها. ومما يطرف ذكره أنه عندما أرادت اللجنة الدولية للبيئة والتنمية، والتي كان له شرف المشاركة فيها في مطلع ثمانينات القرن الماضي، أن تصوغ في كلمات معبرة معنى يستهدي به الناس لفكرة التنمية المستدامة، وجدت ضالتها في حكمة شعبية أفريقية. الهدف الأساسي من التنمية المستدامة، كما تعلمون، هو استغلال الموارد الطبيعية دون إنهاك لها، أي أن لا تستغل استغلالا يقضي على قاعدة الموارد. تقول الحكمة الأفريقية (لم نرث الأرض من آبائنا لنستهلكها في زماننا وإنما لنورثها لأبنائنا). اهتداء بتلك الحكمة، خرجت اللجنة بتعريفها للتنمية المستدامة بحسبانها ( تمكين الأجيال الراهنة من نيل نصيبها من التنمية دون اهدار لحق الأجيال القادمة في الاستمتاع بنصيبها).

الهدف الثاني هو الإبانة عن أن الثقافة الأفريقية لم تتجمد في الزمان، بل تطورت عبر الدهور بسبب من التيارات التي وفدت عليها: المد الإسلامي، الاستعمار الغربي بديانته المسيحية، حركات التحرير، نوازع الوحدة الأفريقية. أزعم أن ليس من بين كل من تصدى لهذا الموضوع من الباحثين العرب والأفارقة، من توفر على دراسته بالعمق والإبانة التي توفر جمال بها على الموضوع. وبمنهجه التوفيقي - لا التلفيقي - أفلح جمال أيضا في إزالة المفاضلة الزائفة بين الأصالة والمعاصرة، ذلك وهم ساد أفريقيا، وبنفس القدر ساد بلادنا، عندما وفدت عليها أفكار التحديث وآيات (ISMS ) - تعبير بريع نحته جمال - الفكر السياسي . في المفاضلة بين الظاهرتين، أو تقديس أي منهما بالنسبة إلى الأخرى، مصادرة على المطلوب. فالحداثة ليست مفهوما طوباويا، والأصالة ليست ماهية ثابتة. لهذا فإن كل ما هو متسق منطقيا، ومقنع تاريخيا، ومثبت تجريبيا، وصالح للناس في دنياهم وآخرتهم برضاهم، أمر نافع.

الهدف الثالث هو إزالة الجفوة التي افتعلها الاستعمار، بل قل التبشير المسيحي الذي جاء في ركابه، بين المسيحية والإسلام، وهو عداء لا ناقة للدين فيه ولا بعير، تماما كما لم يكن للصليب نصيب في الحروب الصليبية، التي أرست العداوة بين الإسلام والنصرانية، وأغرت بعضهم ببعض. بل هي حرب سياسية غربية. أكاد أقاطع بأن جمالا - وهو يصور أفريقيا في تلك الفترة- أخذ الكثير من نماذجها من جوزيف كونراد: ( في قلب الظلام). فلا أظن أن هناك من استجاد في توصيف الإذلال والعنف اللذين ما رسمهما الاستعمار البلجيكي في أفريقيا مثل كونراد. هل لكم أن تتصوروا أن أربعة عشر رجلا - ليس من بينهم كونغولي واحد- اجتمعوا في برلين التي تبتعد بما يقارب الخمسة ألف كيلو متر عن الكنغو، ليقرروا إهداء الكونغو لا لدولة، وإنما لليوبولد ملك البلجيك كغنيمة شخصية، رغم أن الكونغو تحتل مساحة تضاهي مساحة كل أوروبا. مع ذلك لم يتردد جمال في أن يميط اللثام في ممارسات نفرت بعض الأفارقة عن الإسلام، ويقول إن العنجهية العربية التي حسبها بعض الأفارقة إسلاما ليست من الإسلام في شيء. الناس كما قال( أكفاء في عين الله، وأولى بهم أن يكونوا أكفاء في أعين الناس).

في تقديمه لوجدان أفريقيا كتب علي المك- وكان واحدا من أصفياء جمال ومريديه ( أن هذا الكتاب لا يضيف مادة جديدة وحسب، بل هو امتداد لما يمكن أن نسميه - بغير كثير حذر- لغة جمال محمد أحمد. تلك التي تدخل الأذهان والأفئدة غازية مقتحمة، وهي قادرة لأصالتها أن تقتحم . ربما قامت زمانا، ولكنك لابد أن ترفع رأيه الاستسلام حين تلح عليك بسحرها). لغة جمال تمتاز بمزاج شاعري استجاده جمال، بل ألهمه الله له. كان الشاعر الفرنسي بول فاليري يقول ( الآلهة تمنحنا مطلع القصيدة، ونحن نكملها). هذا المعنى ذهب إليه العقاد في لغة أكثر طراوة ، وشعر العقاد ونثره، يجيئانك كما يجيئ النغم من عود رنم.

والشعر من نفس الرحمن مقتبس .. والشاعر الفذ بين الناس رحمان

وهكذا كانت منثورات جمال. فيها شيء من نفس الرحمن. لا غرو في أن جمالا كلما أشار إلى العقاد كان يقول: سيدي العقاد، أو يضيف العقاد رضي الله عنه. ومنذا الذي ينكر ابتغاء مرضاة الله لصاحب العبقريات.
قلت في مطلع حديثي إن جمالا ما فتئ هو الهادي لنا، وقد أدلجنا في سكك الزمان. هل أضيف أيضا أنه في عالم الأدب و الفن مازال قمرا يدور في سماواتنا، وكوكبا يفيض إشعاعا على المجرة. ولعله قد ظلم نفسه في رسالته لابنيه التي رثى فيها جيله، كفاه أنه أفلح في خلق كتلة إبداعية حرجة لتيار فكري، لا يستنكف النظر لذاته في مرآة مستقيمة، بدلا من النظر للذات في مرايا مقعرة.}

انتهت مقالة دكتور منصور خالد
*
عبدالله الشقليني
22 يناير 2020

alshiglini@gmail.com

 

آراء