محور الشر الثلاثي … جنرالات باسِطون أذرعهم بالوصيد (4/4)
أقدم اعتذاري للقراء الكرام مرتين، الأولى لانقطاع هذه السلسلة بسبب تداعيات الأحداث، والاعتذار الثاني أن هذه السلسلة رباعية وليست ثلاثية كما ورد في الحلقات الماضية. ولعل اللبس مرده إلى أنها تتناول سيرة ثلاثة جنرالات، قلنا إنهم يقفون بالمرصاد في حالة تحفز للانقضاض على الثورة أو لتغيير المشهد السياسي برمته لصالحهم. وهم بحسب ما جاء في الحلقات الماضية، صلاح عبد الله المشهور باسم (قوش) وطه عثمان الحسين المعروف استهزاءً بــ (أبو حرفين) ومحمد حمدان دقلو الملقب بـ (حميدتي) وتختلف الآليات والوسائل باختلاف المواقع التي يرابط فيها المذكورون. ومن المفارقات أنه قبل أن يجف حبر سلسلتنا هذه، كادت الأمور أن تنزلق نحو هاوية لا يُحمد عقباها، وذلك على إثر ما حدث يوم الثلاثاء قبل الماضي 14/1 في الفوضى المسلحة التي قامت بها وحدة العمليات الخاصة في جهاز الأمن والمخابرات. ومن المفارقات أنه قبل يجف حبر مقالنا أيضاً، ومن قبل أن تسفر الأحداث عن وجهها بالكامل، قام جنرالات السلطة وعلى رأسهم عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو وشمس الدين الكباشي وآخرون، بتوجيه أصابع الاتهام مباشرة – كل على حده – للجنرال الأول في هذه السلسلة وهو صلاح عبد الله قوش!
(2)
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر كما يقولون، كنت قد نوهت في هذه السلسلة إلى أن مصدر المعلومات التي احتواها كتابنا المعنون (الخندق/ أسرار دولة الفساد والاستبداد في السودان) هو الجنرال صلاح عبد الله قوش، وبالرغم من أن المعلومة وردت متكاملة الصياغة وبلسان عربي مبين، إلا أنني عجبت من بعض ممن تعجلوا القراءة، إذ جنحوا لإسقاطات شاطحة لا مكان لها من الإعراب. الآن أوكد مجدداً ما سبق ذكره، وهو أن معلومات هذا الكتاب مصدرها صلاح قوش تحديداً. بمعنى أنها خرجت من (جوفه) وليس من الساعي الذي في مكتبه، ولا حتى من مدير مكتبه، ولا أي كائن آخر في الجهاز اللعين، وليس خافياً أن كشفنا المعلومة من باب التأكيد على أنه مجرد أكذوبة سودت حياة السودانيين، ولعل إمعاننا في الغموض لنزيد به من أمره رهقاً، وعليه إن شاء قوش فك طلاسم الغموض أن يضرب أخماساً في أسداس لأن القادم أسوأ. أما المشار إليهم نت القراء لو أنهم أكملوا القراءة جيداً لما كانت بنا حاجة لهذا الشرح الذي لا يغني ولا يسمن من جوع... فكيف يكون المذكور قد سلمني تلك المعلومات عياناً بياناً، وقد نوهت (إلى أنني لم التقه من قبل) كذلك أومأت إلى (أنه لا يعلم) وقلت أيضاً: (إن هذا السر أبوح به للمرة الأولى) مع أنني اعتبر كل هذه الشروح محض نوافل، إلا أنه وددت لو أن المشار إليهم شغلوا أنفسهم بالفروض، وعلى رأسها حقيقة كيف تسنى لنا اختراق جهاز عتيد وكشف عورته (برغم الأموال الطائلة التي تُصرف عليه، وبرغم الحِصون والأسوار والبروج المشيدة) كما قلنا في المقال. وأشهد أنها ذات الرسالة التي أدركها الكثيرون ممن يكتُب المرء لهم وتُرفع لأجلهم القبعات!
(3)
نعود لموضوعنا الأساسي، بأسئلة مرهقة تطرح نفسها في أعقاب ما حدث.. لماذا هؤلاء الجنرالات الثلاثة دون غيرهم؟ وكيف يشكلون خطراً على الثورة؟ وهل يقتصر الأمر عليهم أم هناك المزيد؟ وهل ذلك لطموح أم مرده للضعف الذي اعترى رواد الفترة الانتقالية؟ وهل بالفعل هم قادرون على تعطيل مسيرة الثورة القاصدة؟ وما هي القواسم المشتركة بينهم؟ لعل الإجابة المحورية لكل هذه الأسئلة تتمركز حول نقطة واحدة، تقول إن خطورة هؤلاء الجنرالات تكمن في أنهم الوحيدون المرتبطون بأجندة خارجية. وهذه الأجندة كما هو معروف، تدور في فلك محورين لا شأن لنا بهما، لا سيما وقد بات معلوماً أن سر انجذابهما نحو الملف السوداني هو محض تنافس معروف الدوافع. وبالتالي لا يظنن أحدٌ أن صلاح قوش اتجه صوب القاهرة لزيارة أبو الهول والاستمتاع برؤية الأهرامات، فكنا يعلم أنه هرب حاملاً أسرار دولة تنوء بحملها الجبال. كما لا يظنن أحدٌ أن طه عثمان الحسين اختار أرض الحرمين لأداء طقوس العمرة ومناسك الحج، فالذي بحوزته من خفايا لا يقل خطورة عن غريمه. كما لا يظنن أحدٌ أن حميدتي بات يكثر من زيارة دولة الإمارات لمعاودة أسرته، فهل يستقيم عقلاً أن تتعدد بصورة غير رسمية لرجل يشغل منصباً رفيعاً في دولته.
(4)
لا اعتقد أن ثمة غرير بين ظهرانينا من لا يعرف الإجابة على تلك الأسئلة، ومن البديهي أن الحاكمين يعرفون أيضاً، ولكن يبدو أن الذين يعلمون خطورة الأوضاع حقيقة لا يملكون حلولاً تُرتجى. بل لعل ما يزيد من تعقيد المشهد أن الجنرالات الثلاثة ليسوا على قلب رجل واحد في المكر والدهاء والتآمر, فكلنا يعلم أن هناك حلفاً خفياً بين الجنرال محمد حمدان دقلو والجنرال طه عثمان الحسين. والمعروف أيضاً أن الأخير هذا هو من فتح الأبواب للثاني لدخول قصر غردون عبر صفقة الجنود المغلوب على أمرهم بزجهم في حرب عبثية لا ناقة لنا فيها ولا جمل. الأمر الذي زاد من تعقيدات أوضاع الوطن برمته. مقابل هذا الحلف فإن الجنرالين يضمران كرهاً موروثاً لجنرال القاهرة، والذي بات بدوره يتقمص دور شخصية (شمسون) في هد المعبد على الجميع. ذلك بالطبع انعكس في ما قلنا عنه إن آليات هؤلاء الجنرالات تعتمد على الهدف الذي ينطلقون منه. فالذي لا شك فيه أن الجنرال الحسين أعطى ولم يستبق شيئاً، وذلك منذ كان مديراً لمكاتب الرئيس المخلوع. وتلك صورة من صور العمالة التي لا يضاهيها شيئاً سوى عمالة الجنرال صلاح قوش، الذي حمل أسرار البلاد كلها في جيبه وغادرها والشمس في كبد السماء كأنه في نزهة. وبالتالي يتجلى وجه الشبه بين العميلين في أنهما جعلا البلاد رهينة في يد قوى أجنبية، رغم التعريفات التي يحاول البعض بها تخفيف وطأة المصطلح!
(5)
أما جنرال السلطة فأمره عجب. يبدو حيناً بمظهر الزاهد فيها حتى يكاد يستدر دموع الثائرين، فأصبح يستمرأ هذا الزهد كلما مادت الأرض تحت قدميه بالذي يخشى عقباه، وتارة أخرى كلما أدلهم ليل البلاد وواجهت أمراً جللاً، مثلما حدث في يوم الثلاثاء المذكور. الجنرال الذي جاءته الخلافة تجرجر أذيالها، أدرك مؤخراً أن الطريق أمامه طويل والحلم صعب المنال في ظل وجود الملايين التي تخرج من مسام الأرض كلما دعا الداعي. ولعل ذلك ما حدا به أن يتبع استراتيجية (البيات الشتوي) التي تختص بها الضفادع أو (تكتيكات) الإنحناء للعاصفة مثلما يقال في حروب الكر والفر التي كان يجيدها. لست أدري، ولكن يبدو لي أن الجنرال استسهل موضوع السلطة من قبل نظراً لطبيعة نظام العصبة البائدة، وهو الاستسهال الذي انطفأ بريقه جزئياً بعد ما نجحت ثورة ديسمبر في التغيير السلمي. ولكن من ذا الذي يقنع (الديك) كما يقال في الأمثولة السودانية السائدة. أي من ذا الذي يقنع المراقبين أن هؤلاء الجنود الذين لا يعرف لها عددا في ما يُسمى (قوات الدعم السريع) أُسست من أجل القيام بــ (طابور شرف) وبنفس القدر من ذا الذي يقنع الذين خلبت قناطير ذهب الجنرال ألبابهم، وقيل لهم إن هذا البريق فقط (زينة وعاجباني) كما صدح المُغني؟
(6)
يبدو أن حياة البداوة الفطرية جعلت جنرال السلطة يلجأ للحيل، فقد هيأت له الظروف عداوة صديق كان يظن الناس أن ما من صداقته بد، فالجنرال يعلم أنه صنيعة النظام البائد، ومع ذلك فمن عجب أن يصبح العدو رقم واجد لفلول هذا النظام. وهو سعيد بعداوة لم يسع لها بل جاءته على طبق من ذهب، لأنها تمثل ترياقاً للضعفاء حتى لا يؤخذوا على حين غرة. وهؤلاء الضعفاء يقف على رأسهم حتى الجيش الذي يقال عنه إنه حامي (الأرض والعرض) فقد أصبح جلاوزة اللجنة الأمنية وعلى رأسهم الجنرال عبد الفتاح البرهان من أكثر المنادين بالحفاظ على (مليشيا) الدعم السريع من شر حاسد إذا حسد. واقتنص جنرال السلطة تلك الفرصة الذهبية مرتين، الأولى أوحى بأنه يقف بالمرصاد أمام كل المتربصين، والثانية أنه داعية سلام والباحث عنه حتى ولو كان في أدغال الجنوب. لكن مع ذلك فثمة حائط استطال وهو حائط المبكى الذي ذرف فيها السودانيون دموعاً حراء، في انتظار أن تأخذ العدالة مجراها ومرساها بالإجابة على السؤال اليتيم.. من فض الاعتصام وقتل الثوار؟
(7)
بالعودة لسيرة الجنرالين الآخرين، لعل أكثر ما يثير كوامن الغضب في النفس، هذا التراخي غبر المحتمل، فالجنرال صلاح قوش وُجهت له أصابع الاتهام صراحة في التمرد الأخير، ولكنها اتهامات حملتها الرياح شمالاً إلى حيث يقيم ولم تحرك ساكناً، بل ربما كانت السخرية والاستهزاء هي ردود فعله المتوقعة، ولا نريد أن نقول صدق حدسنا قبل وقوع التمرد الذي نبهنا له. لكن السؤال الذي ينبغي على أزلام اللجنة الأمنية وخاصة المتهمين بالتواطؤ في هروبه: أليست أسرار الدولة التي تقدر بالأطنان وحملها المدعو كفيلة بالتعامل الجاد مع قضيته؟ أليست الجدية تعني حتمية فتح ملفاته المتراكمة طبقاً عن طيق منذ حدوث الانقلاب وحتى ساعة مغادرته البلاد؟ فالتراخي يؤكد التآمر حتى وإن لاذ المتواطئون بالصمت الرهيب. التآمر ليس في الهروب المكشوف وحده، وإنما في ما هو أنكى وأمر، ونعنى به دوره في فض الاعتصام، ناهيك عن جرائم تناسلت منذ الانقلاب المشئوم وحتى لحظة السقوط. دع ذلك جانباً ودعونا نتساءل هل المكون المدني في مجلس السيادة أصابه ما أصاب قوم فرعون؟ ألا ينبغي أن تكون هذه القضايا في صدارة اهتمامات المكون؟ هل يعلمون أن قولهم إن المدعو صلاح قوش أُدرج اسمه في قائمة المطلوبين بواسطة الشرطة الدولية (الانتربول) ما هو إلا (ضحك على الدقون) وذر رماد في العيون؟
(8)
دعونا نختم بثالثة الأثافي جنرال المملكة الذي يبدو للمراقبين أنه كمن التزم صمت القبور، ففي واقع الأمر تلك شيمته منذ أن كان يدير كل الأدوار القذرة من داخل قصر غردون. فهو يفضل دائماً أن يكون من وراء الكواليس، حيث يطيب له التآمر ويتلذذ به كما يتلذذ المحروم بالطعام. وعلى الرغم من أنني أكاد أميل إلى أنه أفرغ كل حمولته على أعتاب قصور السلاطين، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون مانعاً لفتح ملفاته وبخاصة قضايا الفساد المالي والتي ولغ فيها ولوغ من لا يخشى الفقر. وللذين لا يعلمون نقول إن بلايا ورزايا طه عثمان الحسين كفيلة بأن ترمي به وراء الشمس. وهنا يتداعى السؤال الشامل الذي نختم به سيرة هؤلاء الجنرالات، لماذا لا يطالب مجلس السيادة بشقيه (المدني والعسكري) من حكومة المملكة العربية السعودية، وكذلك حكومة جمهورية مصر العربية عبر الطرق والوسائل الرسمية تسليم هذين المجرمين لتتم محاكمتهما من قبل أن يشرعا في استكمال خطط التآمر. فثورة ديسمبر المجيدة لن تؤتى من الداخل لأن ثمة ثواراً يحرسونها، ولا سلطان عليهم على عملاء الخارج المتربصين الذين يسرحون ويمرحون في حرية حرموا منها شعباً بأكمله!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
faldaw@hotmail.com