في ذكرى المخرج: أمين محمد أحمد
كُتْ في جَقْدَلَه وْرفاقَه و شِوَيَّة روقَه
عَلَيَّ الدنيا راضْيَة العِنِدِي مِي مَمْحوقه
شِنَّ مَعَناها هَسَّعْ نَمَّتِي المَرْبوقَه
كانتْ ليك قِبيلْ ما تَبقَى كَدِي مَسْروقَه
محمد أحمد عوض الكريم أبو سن ( الحاردلو)
(1)
تعرفت على الأستاذ أمين محمد أحمد، أول مرة عن قرب، عندما جاء لمكتبنا في بلدية أبو طبي، وكان موقعه حينذاك في الطابق السادس من المبنى، في السنوات الأولى من الألفية الثانية بعد الميلاد. دُهشت وأنا أتعرّف على المخرج الكبير، وقد صار مُحرِّرا في مجلة البلدية الشهرية!. دخل مكتبنا هادئا وقورا بعد أن استأذن. كان مُحدد المطالب في إيجاز، يطلب قائمة بمشاريع إدارة الحدائق في بلدية أبوظبي، وسيرة موجزة عن أي من المشاريع مع الرسومات، ليحررها
ضمن موضوعات المجلة الشهرية.
*
كانت تلك الحادثة هي المدخل لمعرفة الأستاذ، والتقرّب لمعدن جيل من المثقفين الذين أناروا سبل المجد في السودان، وأرفدوا الساحة بالكثير من الأعمال المسرحية في الإذاعة والتلفزيون. هؤلاء الذين لفظهم حكم الإخوان المسلمين في السودان، فقد كان لدى الحكام الجّدد منذ عام 1989، موقفا واضحا ضد الفنون المسرحية والغنائية والتشكيلية، وضد كافة أنواع الفنون الأخرى. أظلمت شمس الاستنارة، وهجر من يستطيعون البلاد وتركوا موطنهم. وكان أمين محمد أحمد واحدا من أولئك.
(2)
المؤلف والفنان والكاتب والسيناريست المعروف الأستاذ أمين محمد أحمد، يعتبر من أبرّز كتاب الدراما السودانية، إذ شغل منصب مدير إدارة الدراما بالتلفزيون القومي وله بصمة واضحة في خارطة الفن السوداني.
*
تخرج في ستينات القرن العشرين من جامعة الخرطوم - كلية الآداب. درس السيناريو في معهد السينما بمصر، وكان أول دفعته. شارك في الكثير من الإعمال الإذاعية والتلفزيونية، ومن أميز أعماله المسلسل الإذاعي الشهير (الهمباتة ) من تأليفه وإعداده وفي التلفزيون مسلسل (سكة الخطر) و (علي عبد اللطيف) و (الدّلالية الموريس ماينر) عن قصة الراحل عبد المنعم مصطفي. عمل محرراً في المجلة الدورية الخاصة ببلدية مدينة أبوظبي، إضافة إلى كثير من المساهمات، فقد كان قامة فارعة.
شارك في أعماله المسرحية الممثلون والممثلات: حاكم سلمان، عبدالحكيم الطاهر، سيد عبدالله صوصل، سموأل حسن، سميرة علي، عوض صديق، محمد خيري أحمد، بلقيس عوض، رابحة محمد محمود، ياسين عبد القادر، هويدة حسن، محمد شريف علي وغيرهم.
(3)
في المسلسل الإذاعي الذي كتبه وأعدّه عن ( الهمّباتة)، نثر الكثير عن تاريخ الرعاة في أرياف السودان، وعن فصيل الهمّباتة، سرقتهم من الأغنياء وبذل أموال السرقة للفقراء. قدموا أشعارهم في الكرم والشجاعة، فهم لا يسرقون مال المرأة، رغم ما يحيط بذلك التاريخ من محاذير و مسلكهم من تنافر مع مسلك المجتمع. وكانت بطولة المسلسل للممثل حاكم سلمان.
*
نذكر من أشهر الهمّباتة: الطيب ود ضحويّة وطه الضرير، من أبطال الهمّباتة في السودان، ولهم شعرهم العامّي الجزل. وارتباط الهنّبتة بموروث ثقافي شفهي، يؤسس لقيم سودانية خالصة، تتمثَّل في النجدة والمروءة والشَّجاعة والكرم ومراعاة حقوق الجار، ونُصرة الضَّعيف والمظلوم، والسرّقة من الأغنياء. كلها مفاهيم وقيّم ومضامين تستحق الوقوف عندها، وتوظيفها إيجاباً لتعزيز تلك القيّم وبثها في وعي الأجيال، فهي جزء من التاريخ، بخيرها وشرّها.
(4)
جلست قبل سنوات في باحة النادي السوداني بأبي ظبي، وتحدثنا عن البطل علي عبداللطيف وتاريخ نشأته والتحاقه بكلية غردون ثم الكلية العسكرية. لم يكن علي عبد اللطيف يتمتع بمرتبة عالية داخل المجتمع السوداني في شمال السودان من ناحية النسب، فقد كان يصنف من المنبتّين. وذلك بخلاف بقية الأشخاص المؤسسين لجمعية الاتحاد السوداني التي انشقت منها جمعية اللواء الأبيض، الذين كانوا يتمتعون بالانتماء لعائلات عريقة النسب في الشمال. فقد بدأ علي عبد اللطيف حياته وسط ما يسمون بفقراء المجتمع، إذ كانت أمه من قبيلة الدينكا وكان أبوه من أبناء جبال النوبة، لكن دخوله للسلك العسكري أتاح له الانضمام لصفوة المجتمع.
*
استعرضنا خلال تلك الجلسة مسلسله الذي أعده للتلفزيون السوداني عن البطل علي عبداللطيف، فأوضح أمين محمد أحمد أنه وخلال فترة إعداد المسلسل اطّلع كل المكتوب المتوفر عن تاريخ البطل، وتعرّف على لغته الدّارجة التي كان يتحدث بها، وتأكد أن لغته العامّية كانت العامّية المصرية. وجلس المخرج محتارا لوقتٍ طويل. واستقر رأيه أخيرا على اختيار عامّية وسط السودان، لتكون اللغة التي يتحدث بها بطله، حتى يهرب من التساؤل الكبير الذي يطرحه العامّة:
هل كان البطل مصري التكوين و الهوى؟
وما هو ارتباط مؤسسي جمعية الاتحاد السوداني وجمعية اللواء الأبيض، بالدعوة للوحدة مع مصر؟
*
نذكر النذر اليسير من سيرة الراحل الكريم الأستاذ أمين محمد أحمد، كما نذّكر كثيرا من أبطالنا الذين قدموا الكثير، وضنّت عليهم بلادنا بالإنصاف والتكريم. رحل عن دنيانا صيف 2011، وترك فاجعة وسطنا ووسط أعمال المسرح والتلفزيون .
*
اللهم ارحم روحاً صعدت إليك و لم يعد بيننا و بينها إلا الدعاء. اللهم ارفع درجته في المهديّين واخلفه في عقبة الغابرين و اغفر لنا و له يا لله و أفسح له في قبره و نور له فيه. اللهم أطعمه و اسقه من الجنة و قل له أدخل من أي باب تشاء.
عبدالله الشقليني
5 فبراير 2020
alshiglini@gmail.com
/////////////////////