(كلام عابر)
تحت عنوان "الحقيقة المرة والعدالة المنتقاة في الخرطوم" كتب الأستاذ ايوب صديق المذيع السابق الشهير في بي بي سي العربية،كتب منتقدا الشروع في إجراءات محاكمة مدبري وقادة إنقلاب 30 يونيو 1989 وعدم محاكمة سواهم مدبري وقادة إنقلاب 17 نوفمبر 1958 وإنقلاب 25مايو 1969 وهو ما وصفه بالإنتقائية، كذلك ساق مبررا جديدا لانقلاب 30يونيو 1989 وصفه بالحقيقة المرة وهو مبرر لم يدر بخاطر مدبري ومنفذي الإنقلاب أنفسهم. الحقيقة المرة التي أكتشفها الأستاذ ايوب هي حسب كلماته " إن انقلاب 1989 هذا الذي تجري فيه التحقيقات، بحجة أنه قوض الحكم الدستوري في البلاد، لم يكُن مُبتَدأَ سلسلةِ الانقلاباتِ العسكرية، التي شهدتها الحياة السياسية السودانية. والحقيقة المرة، التي يصعب قولُها في الجو الحالي ذي الاتجاه الواحد في السودان،هي أنه لولا ذلك الانقلاب، الذي يُحقق مع قادته الآن، لاجتاح جون قرنق الخرطوم كما هدد هو أكثر من مرة، ولكان القتلُ الذي سترتكبه قواتُه الغازية، ليس قتلَ قِصاصٍ، فرداً بفرد، وإنما سيكون مذبحةً مروعة، تكون قصرت عنها بكثير مذبحةُ رواندا في عام 1994، التي قُتل فيها ما يفوق ثمانمئة ألف شخص. وسيكون أولَ القتلى رجالاتُ الصف الأول من السياسيين في الخرطوم، على مختلف مشاربهم، وأولهم أعضاء حكومة السيد الصادق، الذي كان سيكون هو في مقدمهم، قتلاً وتمثيلا بهم، ولكان الغزاةُ اغتصبوا ملايين النساء. ولا سيما فقد نُسب إلى جون قرنق القول، إنه سيدخل الخرطوم فاتحاً بالموسيقي العسكرية كما دخل موسيفيني كمبالا."
لا أعتقد أن الأستاذ ايوب الإعلامي العالمي لا يعلم أنه قد وقعت بالفعل اتفاقية سلام عرفت بإسم موقعيها "اتفاقية الميرغني قرنق" في 16 نوفمبر 1988 في العاصمة الاثيوبية اديس ابابا،وهذه الإتفاقية أجازها أجازتها أغلبية نواب البرلمان وعارضها نواب الجبهة القومية الإسلامية،وقد أجيزت الإتفاقية بعد مماطلة ومماحكة من السيد الصادق المهدي الذي رضخ لضغوط الجيش،وفي نفس الوقت فتحت مماطلته ومعارضته الباب لتدخل الجيش في السياسة وأتاح للجبهة القومية الإسلامية القيام بانقلابها مستغلة كذبا مظلة الجيش كما هو معروف. نصت الإتفاقية على تجميد قوانين نميري (الإسلامية) ووقف إطلاق النار والإنسحاب من اتفاقية الدفاع المشترك العسكرية مع مصر وليبيا وتحديد نوفمبر 1989 موعدا لعقد المؤتمر الدستوري ولم ترد جملة واحدة في الاتفاقية عن تقرير المصير للجنوب. تحدد يوم 3 يوليو 1989م لإجازة الاتفاقية في البرلمان، لكن انقلاب الجبهة القومية الإسلامية في 30يونيو1989 استبق بداية تنفيذ الاتفاقية،واستمرت تلك المغامرة لثلاثين سنة وكان من بين اضرارها فصل الجنوب عبر اتفاقية السلام الجديدة في 2005 أهدرت فيها الدماء وعم الخراب وقدم الجنوب على طبق من ذهب للإتفصاليين عبر اتفاقية سلام جديدة 2005 م.
قال الاستاذ أيوب أيضا "في مايو/أيار من عام 1969 كما هو معروف، دبر الشيوعيون والقوميون العرب انقلاباً بقيادة العقيد آنذاك جعفر نميري، على الديمقراطية الثانية، وكان رئيس الوزراء آنذاك كذلك السيد الصادق المهدي. فأقصوه عن الحكم، واستمر ذلك النظام العسكري ستة عشر عاما.فما رأيُ حكومة الثورة في تلك الديمقراطية الثانية المُطاح بها عسكريا،ً طالما أن عدالتها كما ذكرتُ تطوي السنين القهقرى؟ وما هو رأيُ السيد الصادق نفسه في ذلك ؟ أهو جرم سقط بالتقادم، أم لم يسقط بعدُ، و لذا كان يستحـق تحقيقاً فـيه مع من ارتكبوه؟"
التاريخ القريب يقول أنه قد جرت محاكمة عادلة في مقر الاتحاد الاستراكي سابقا،مقر وزارة الخراجية حاليا، للمتهمين بالقيام بإنقلاب 25مايو1969 (خالد حسن عباس، ابوالقاسم محمد ابراهيم، زين العابدين محمد احمد عبدالقادر ومأمون عوض أبوزيد)،ولم يحاكم جعفر نميري لأنه كان لاجئا في مصر التي رفضت تسليمه للقضاء السوداني ولم يعد نميري للسودان إلا بعد إنقلاب 30يونيو1989م الذي عفا عن قادة انقلاب 25 مايو 1969 وأفرج عنهم مثلما أفرج عن بهاء الدين محمد إدريس وزير شؤون الرئاسة وعمر محمد الطيب نائب نميري،كان الأول قد ادين بالفساد المالي ،والثاني بجريمة ترحيل اليهود الفلاشا لإسرائيل. (لا أدري لماذا لم لم يمثل ابوالقاسم هاشم أمام المحكمة مثل زملائه الإنقلابيين). جميع من ذكرت حكمت عليهم المحاكم بسنوات سجن طويلة. لاأعتقد أنه من الممكن إعادة محاكمة قادة انقلاب مايو الذين ذهبوا جميعهم لحساب الله عز وجل ما عدا أبوالقاسم محمد ابراهيم وهو الوحيد الذي ما زال على قيد الحياة، والانقلاب وقع منذ أكثر من نصف قرن. ملف المحاكمة أغلق بصدور وتنفيذ الحكم القضائي.
لم تتم محاكمة قيادات انقلاب 17 نوفمبر 1958 بقرار من أغلبية مجلس النواب حيث عارض حزب الامة ونواب جبهة الميثاق الإسلامي الأربعة المحاكمة في حين أيدها الحزب الوطني الإتحادي والحزب الشيوعي وآخرون. كان حسن الترابي من أشد معارضي المحاكمة لأن العسكريين كما زعم تلقوا وعدا من نظرائهم المدنيين أثناء مفاوضات تسليم السلطة للمدنيين عقب ثورة أكتوبر تلقوا وعدا بعدم محاكمتهم. أيا كان الوضع فإن عسكر 17 نوفمبر كانوا يستحقون المحاكمة أكثر من أي انقلابيين آخرين لأنهم ارتكبوا ام الجرائم هي إغراق وادي حلفا وبيعها بثمن بخس دراهم معدودة. إعادة محاكمة عسكر 17 نوفمبر ستكون على أحسن الفروض محاكمة من أجل التاريخ لا ينزل فيها العقاب بأحد لأن المتهمين جميعهم غيبهم الموت.
في جميع الأحوال يلاحظ أن الأنظة الديمقراطية التي تعاقبت لفترا قصيرة على حكم البلاد لم تقم بإعدام أي إنقلابي في حين ان النظم العسكرية الثلاثة التي حكمت السودان لفترة 52 سنة لم تكن تتردد في قتل من يحاول الإنقلاب عليها حتى لو كان ذلك في نهار رمضان. ربما ذلك ما يدفع المغامرين لخوض مغامرة محاولة الإنقلاب وهم في مأمن من القتل في حال فشل المحاولة.
ينتقد الأستاذ أيوب صديق الشماتة على زوال دولة الإنقاذيين ويخص بالذكر السيد الصادق المهدي الذي حمله مسؤولية حشد التأييد لمحاكمة عمر البشير في لاهاي . قال:" أقاموا حكمهم الذي استمر ثلاثين عاما، مما جعل السيد الصادق واجداً كل الوجد على ذلك النظام طيلة هذه الأعوم الثلاثين، حتى قضى الله تعالى بزواله بسننه في كونه، بالثورة الشعبية، التي تولدت عنها الحكومة التي يهيمن عليها اليسار الآن في الخرطوم، فشبع السيد الصادق بزواله شماتةً وارتوى" . مبدأ تسليم البشير للمحكمة في لاهاي أمر يعكس نبض الشارع السوداني ولم يبتدره الصادق المهدي، الذي قال في وقت سابق أنهم لن يجروا الشوك في جلده البشير لأنه جلدهم. الشماتة هي أن يُسرّ المرء بما يصيب عدوه من المصائب ، قال الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام : ( فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ ) الأعراف / 150 . أما الشماتة والسرور لما يصيب قادة النظام المباد فهم امر محمود غير مذموم ، وهو من باب قوله تعالى : ( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) التوبة / 14 – 15 . المشاعر التي ينبغي على المسلم التحلي بها عند نزول العقوبة بالظالم هي:الفرح لما في ذلك من انتصار الله لعباده المستضعفين، والخوف من مكر الله وعقابه، واليقين والأمل بنصر الله ولو بعد حين.لا حرج في الشماتة على الظالم.ليس الصادق المهدي وحده الشامت عليهم. المواكب المليونية التي غمرت شوارع مدن السودان أكثر شماتة.
لما طالعت مقال الاستاذ أيوب صديق في صحيفة نخبة السودان الإكلتورنية، وهي صحيفة ذات مهنية عالية ومصداقية لا يتطرق لها الشك، ورأيت صورة مرفقة مع المقال ، يفترض أنها لكاتب المقال والذي لم اشاهد صورته من قبل، علقت على المقال مستفسرا إن كان الكاتب هو فعلا أيوب صديق المذيع السابق المعروف في بي بي سي ام انه مجرد تشابه اسماء، فجاءني أنه هو نفسه. المقال يعكس منطلق كاتبه المعادي للثورة وحنينه لنظام الإخوان المسلمين المباد الذي استعبد البلاد والعباد لثلاثين سنة.احترمت أيوب صديق من قبل وأعجبت به كمذيع مقتدر موهوب في إذاعة عالمية ويشرف السودان، لكن هذا المقال استنفذ للأسف كل رصيد أيوب صديق عندي من إحترام وتقدير.
وقفة:
كل المصائب جاءت متزامنة.. ترقية عسكر اللجنة الأمنية، اطلاق سراح مأمون حميدة،المشروط كما يقولون، والعنف مع المتظاهرين الذي أدى لاستشهاد أحدهم مع عدد غير معروف من الإصابات. يقول جان جاك روسو: "حين أرى الظلم في هذا العالم، أسلي نفسي بالتفكير في أن هناك جهنم تنتظر الظالمين".
قبل الختام:
العنوان منقول من عنوان سلسلة مقالات الأخ الدكتور عبدالله علي ابراهيم المثيرة والتي تحولت لكتاب بعنوان نفس المقالات " ومنصور خالد".
abdullahi.algam@gmail.com