تشريفات ترحيل تمثالي غردون وكتشنر
نبني في الآمال ما وجدنا رباحْ
سرّنا المكتوم بالدموع ينبّاحْ
والسّهاد أصبح لينا أمرو مباحْ
عبد الرحمن الريّح
(2)
في الكتاب (EVRY THING IS POSSIBLE- OUR SUDAN YEARS) الذي ألّفه بروفيسور "إليك بوتر" مؤسس قسم الهندسة المعمارية بجامعة الخرطوم عام1957، وشاركته زوجته "مارقريت"، والذي ترجمه "الزبير علي" عام 1997 وأسماه ( كل شيء ممكن - سنوات في السودان). كتب عن حادثة نقل تمثالي غردون وكتشنر وما صاحبهما من طقوس عسكرية شرفية وموسيقية، وفق ما سنورد نصه لاحقا.
*
"إليك بوتر" هو أستاذ الرعيل الأول من المعماريين السودانيين: عمر الأقرع ، محمد محمود حمدي، الأمين مدثر، البدري عمر ألياس، حسن بدوي، بولس صليب وآخرين.
*
ربما كان الأمر لا يستحق أن يكون بذلك السخاء الشرفي الأسطوري، في زمان حكم الفريق عبود. فالناظر إليه اليوم ربما وجد فيه تقديرا للمستعمرين، وتمثاليهما الماثلين أمام القصر الجمهوري ووزارة المالية، في حين لا يستحقون ذلك.
*
وربما رأى آخرون أننا قد فرّطنا في آثار سياحية يمكن لها أن تدُر ثروة سياحية، مثلما فرّطنا في التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق عند ملتقى النيلين في المقرن، تذهب مياه الأبيض والأزرق في خط طويل من مرج النهرين، ثم يمتزجا في نهر النيل الذاهب لمصر. ولم نستطع إلى اليوم في استغلاله مصدرا للسياحة. وذات الحال ينطبق على آثارنا في الشمالية وحدائق الدندّر!.
*
لم نزل نجري إلى الخلف وبسرعة شديدة، نسابق الريح لنتخلّف، لا يهمّنا العِلم والمعرفة والتقدّم، ولم نزل نسخر من دراسة الجدّوى وتكوين اللجان، كأنها كلفة اقتصادية لا طائل من ورائها. لم نزل نعتمد الرعي التقليدي في صادرات الماشية الاقتصادية، ونبني آمال على مجتمعات بدويّة غير مستقرة، ترهق الماشية بالمسير الطويل، تسرح بماشيتها لتأكل من الزراعة التي بذل أصحابها الكثير!، في حين أن دولة كالسعودية تبني صناعات الألبان، تمتد بصادراتها للدول المجاورة، ولها مزارع علف في الأرجنتين والسودان!.
(3)
النص:
{لقد بدأت عملية إسدّال الستار على تمثال غردون، بعد وصول قوات حرس شرف من القوات السودانية مؤلّف من مائة جندي. واصطف الجنود المائة ووقفوا طابورا في مواجهة التمثال.
كان الجنود يرتدون أزياءهم العسكرية المصنوعة من ( الكاكي) بينما وقفت على مقربة منهم فرقة موسيقيّة عسكرية، يرتدي أفرادها سترات بيضاء وتنّورات داكنة الزرّقة ذات ثنيّات طولية وهم يعزفون بعض الألحان الاسكتلندية.
*
وفي تمام الرابعة والنصف وصل السفير البريطاني السير" ادوين شامبان اندروز"، وتلقى التحيّة بالسلاح من حرس الشرف. وغمر المكان سكون مطبّق. بعدها أخذت فرقة عسكرية من الجيش تعزف المقاطع الافتتاحية من نشيد ( حفظ الله الملكة).
بدأ اللحن هادئا في أول الأمر، ولكنه وصل قمة روعته وقوته، عندما كان قارعو الطبول بأزيائهم الموشّحة بجلود النمور يضربون في حماس على طبولهم، ونافخو الأبواق ينفخون في صخب في آلاتهم النحاسية المزخرفة ذات الألوان الجميلة.
*
تقدم نافخو الأبواق وهم يعزفون لحن الوداع، وصدى اللحن يتردد بين أروقة قصر الحاكم العام القريب حيث قتل غردون في داخله. قوات سلاح المهندسين أخذت تسدل ببطء ورفق الستار الذي يشبه الخيمة، والذي كان منصوبا فوق أعلى التمثال، وذلك بإرخاء الحبال التي كانت تشده حتى غطّته تماما.
لقد دارت عجلة التاريخ دورة كاملة وبعد أربعة وخمسين عاما منذ أن أزاح ( ونجت) الستار عن التمثال. حدث الآن العكس تماما واُسدل الستار، وهذه المرّة وإلى الأبد على التمثال. وعزف نافخو الأبواق لحن (الانسحاب) وعندما خفتت أنغامهم وتلاشت في الفضاء، شقّ أفراد الفرقة الموسيقية العسكرية طريقهم، وهم يؤدون نشيدهم الوطني (NUBA- RIGOAA) " نوبة رجوع" المفعم بالحيوية.
*
انتهت مراسم اسدّال الستار على تمثال غردون، وكان لابد من إعادتها مرة أخرى وكان الدور هذه المرة على تمثال كتشنر. كان الموكب بقيادة مدير الخرطوم والمندوب البريطاني، وكانوا جميعا يرتدون زي التشريفات الأبيض. وتحرك الموكب نحو النيل الأزرق حيث يقف تمثال كتشنر قبالة وزارة المالية.
وقامت فرقة الموسيقى بأداء نفس الألحان العسكرية، التي كان صداها يتردّد في جنبات العقود الحجرية الضخمة لوزارة المالية. وغربي ام درمان كانت الشمس الغاربة تغمر بأشعتها القانية، الرجال لابسي الأردية البيضاء، وكذلك أفراد القوات وأشجار النيم واللّبخ، التي غُرست بتوجيهات من كتشنر قبل عشرات السنين.
*
وبدت أشعة الشمس بحمرتها الشديدة قبيل المغيب، وكأنها تشعل النار في الستار الذي كان يسدل تدريجيا فوق تمثال كتشنر، حتى اختفى اختفاء كاملا. وبعد ساعات من ذلك وفي جنح الليل أزيل التمثالان من قاعدتيهما.
*
لقد كان الاحتفال بحق رائعا ومثيرا للمشاعر. ووصفت صحيفة ( السودان الجديد) اليومية الاحتفال آنذاك بأنه ( كان إظهارا لنبل المقصد وبرهانا على النضج والسلوك المتحضر).
*
ولا بد للمرء من التسليم بصحة كل ما ذهبت إليه تلك الصحيفة. فمن خلال الأحاديث التي جرت عقب الاحتفال بيننا وبين قدامى الأصدقاء السودانيين والبريطانيين، الذين كانوا من شهوده، اتضح لنا جميعا بأن الاحتفال قد أعاد إلى الأذهان العديد من الانجازات المشتركة التي تمت بين السودانيين والبريطانيين، في المجالات التعليمية والمهنية وزراعة الأقطان وفي كثير من الميادين الأخرى. وقد قاد ذلك إلى نشوء صداقات حميمة واحترام متبادل للطرفين.
*
لفترة من الزمن اُخفي التماثلان في فناء داخلي خلف مبنى متحف الآثار القديم. لكن يبدو رغم أنهما كانا بعيدين عن الأنظار، فإنهما لم يكونا بعيدين تماما عن الذاكرة. فقد اطلّعنا جار صديق ذو صلات هامة، على حقيقة خافية حتى على مسئولي الآثار الذين كان التمثالان في عهدّتهم!ّ
*
وفحوى تلك الحقيقة أن ( حفنة الجنتلمانات) كانت وراء وضع باقات من الزهور النضرة بين وقت وآخر أمام تمثالي غردون وكتشنر، حيث كانا يقبعان بعد انزالهما. ولما سألنا الجار الصديق عن الدافع لذلك أجاب بابتسامة:
نحن نعلم أن عادة وضع الزهور هي تقليد من تقاليدكم المعروفة منذ أمد بعيد. وأعتقد أن الواجب يقتضي منا أن نحترم ذلك التقليد. ثم أن السودانيون بطبعهم يحترمون البسالة والشجاعة.
*
بعد مضي شهران على إزالة التمثالين قررت الحكومة البريطانية اهداء تمثال غردون إلى (مدرسة غردون للبنين) ببلدة WOKING)) وتمثال كتشنر إلى(مدرسة الهندسة العسكرية)( CHA THAM) وقد قبلت المدرستان الهديتين.}
عبدالله الشقليني
15 مارس 2020
alshiglini@gmail.com
///////////////