“عمدة كاستربريدج” لتوماس هاردي.. بيع البعلة في دلالة

 


 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk

تفتتح الرواية بظهور حاصد العلف وبعلته وهي تحمل ابنتهما، وها هما مقبلان على مشارف المدينة. إذ كان الرجل يتقدم بعلته، وكان يطالع صحيفة كان يحملها، وعلى ظهره سلَّة محشوَّة ببعض المتاع. أما البعلة فكانت تنظر إلى ابنتهما، التي كانت تحملها بين الحين والآخر، وهي تسير خلف بعلها، الذي ما أن فرغ من قراءة الصحيفة، أو زعم أنَّه قرأها حتى طواها ووضعها في جيبه. ففيما هما في مشيتهما وئيداً وفي صمت مريب، إذ يمرَّان بسوق في ضاحية من ضواحي المدينة بها مقاهي وملاهي وحوانيت، ومن المأكولات والمشروبات ما لذَّ وطاب. فإذا بالبعل يجلس في ركن قصي من الخيمة ويطلب شراباً مسكراً. وما هي إلا لحظات حتى لعب الخمر بعقل الرجل الذي يُدعى مايكل هينشارد، وعرض بعلته سوزان للبيع كما تُعرض البضائع في دلالة علنيَّة نهاراً جهاراً وهو في مرحلة الطيش النزق، وصار مثله كمثل الذي ابتاع روحه واعتاش بضميرٍ مرتاح على ريعه. وإذا البحَّار ريتشارد نيوسون يشتريها مع ابنتها بثمنٍ بخسٍ؛ وإذا سوزان تقلع خاتم الزواج الذي كانت تتختَّم به، وتلقي به على الأرض، وهي صارخة باكية، وقائلة هذه بضاعتك مزجاة إليك؛ وإذا نيوسون يأخذها وينصرف إلى سبيلهم، ويأخذ مايكل هينشارد الثمن الذي قبضه من العمليَّة الشرائيَّة وينصرف إلى سبيله هو الآخر. ومن ثمَّ تفرَّقوا شذر ومذر.
وما أن تنفَّس الصبح، واستعاد هينشارد وعيه، وعاد إلى رشده، حتى قصد الكنيسة في المدينة وفي نفسه حسرات، ودخلها وجلس في المحراب وتلى الإنجيل، ومن ثمَّ أقسم أن لا يعاقر الخمر منذئذٍ لمدة عشرين عاماً حسوماً. وفي الجانب الآخر مضى زوج سوزان الجديد مع زوجته وابنتها أليزابيث-جين إلى سبيلهم. فإذا المقام يستقر بهم في كندا؛ وإذا الأعوام تمرُّ، ويقضي البحَّار نيوسون نحبه في اليمِّ غرقاً، أو هكذا زُعِم؛ ثمَّ إذا سوزان وابنتها تعودان إلى المدينة الظالم أهلها في إنكلترا، والتي فيها تمَّ بيعها في مزاد علني. وها هي الآن تعود لتقتفي أثر بعلها السَّابق مايكل هينشارد، وتبحث عنه في الأرض سرباً. إذ تجد المدينة قد تغيَّرت ملامحها، وشاخ رجالها، وتدهورت سوقها، وهجرها الزبائن هجراً مليَّاً. ومع ذلك، رأت المرأة التي كانت تبيع ذلكم الخمر المعتَّق الذي لعب بعقل مايكل هينشارد في ذلكم الرَّدح من الزمان؛ وها هي الآن قد صارت عجوزاً. بيد أنَّ المدهش في الأمر أنَّ هذه البائعة، التي شاخت وبلغت من العمر عتيَّاً، ما زالت تتذكَّر ذلكم اليوم التالي حين عاد هينشارد وتوجَّه صوب مدينة كاستربريدج. ومن ثمَّ تنطلق سوزان وابنتها تلقاء كاستربريدج. وبعد سفر شاق، وتكبُّد الإرهاق في المشقة الشاقة والعسر العسير، وصلتا مدينة كاستربريدج في وقت الأصيل وقد تعسجدت أطراف السماء فتخضَّب لون الأفق بلون ذهبي حينها. وإذا المدينة في هيط وميط شديدين، وقد خرج سكانها في تلكم الليلة محتفلين، ثمَّ كان سيِّد هذا الاحتفال البهيج وسط هذا الضجيج والعجيج هو مايكل هينشارد ذاته الذي بات عمدة المدينة، وأصبح يُشار إليه بالبنان، وأمسى تاجراً كبيراً في المحاصيل، ثمَّ صار ثريَّاً في أعظم ما يكون الثراء، الثراء الذي لا يظفر به إلا ذو منصبٍ عالٍ، أو من انخرط في شؤون المال والأعمال التجاريَّة وبات حظيظاً.
ووسط هذا الهرج والمرج إذ تتسلَّل سوزان وابنتها، التي أمست فتاة في مقتبل العمر وريعان الشباب، إلى الجماهير المحتشدة؛ وإذ هما تشرعان في مشاهدة العروض المقدَّمة على خشبة المسرح، وعلى الجانب القصي بات يجلس هينشارد وملازميه. فبينما كان الملازمان يحتسان شراباً كحوليَّاً، كان هينشارد يكتفي بكوب الماء الذي كان يقبع أمامه على المنضدة، وذلك لأنَّه قطع على نفسه العهد بأن لا يعاقر الخمر قبل انتهاء العشرين عاماً.
وإذ تبعث سوزان برسالة قصيرة إلى العمدة هينشارد بواسطة أحد الحاضرين، وتخبره في الرِّسالة إيَّاها بأنَّ سيِّدة تريد مقابلتك في اليوم التالي في فندق معلوم وفي موعد موقوت؛ وإذ تضيف في الرِّسالة بأنَّ السيِّدة صاحبة الرِّسالة تمتُّ لك بصلة القرابة، وهي الصلة التي أمست تخبر ابنتها بأنَّهما آتيا إلى هذه المدينة بحثاً عن قريب لهما، حيث لم تسمع عنه منذ فترة ليست بقصيرة.
وقبل أن ينفض السامرون المساهرون من ليلتهم، وقبل أن يعودوا إلى ديارهم جذلين فرحين، ذهبت سوزان وابنتها أليزابيث-جين إلى الفندق المتواضع، وكانتا قد حجزتا غرفة واحدة لهما. ونسبة لفقرهما المدقع اضطرَّت أليزابيث-جين في أشدَّ ما يكون الاضطرار أن تخدم في الفندق إيَّاه في سبيل الحصول على نقدٍ لكي تسدِّده في إيجار الليالي الثلاث التي سوف تقضيانها فيه. وفي الصباح أخذت أليزابيث-جين الإفطار إلى غرفة أحد نزلاء الفندق، وإذا بهذا النزيل يغني بلحن إسكوتلاندي عذب، وإذا بأليزابيث تستمع وتستمتع بهذا الترنيم الموسيقي أيما استمتاع، ثمَّ إذا بها تُسحر بهذا الشاب الأنيق الفارع الهندام، ولكنها كتمت الحب في نفسها لنفسها. ومن هنا يمكن أن ندرك جلال السمو الموسيقي.
وما هي إلا لحظات حتى جاء مايكل هينشارد، وصادف تواجد هذا الشاب الإسكوتلاندي دون سابق موعد، وعلم أنَّه خبير في المحاصيل وهو في طريقه إلى الولايات المتحدة الأميريكيَّة أو العالم الجديد ضارباً في الأرض ليبتغي فضلاً من الله هناك، ويجرِّب حظه في الحياة الدنيا في هذه القارة التي أسمَّوها العالم الجديد ولم تكن بجديدة في شيء، والتي أمست قبلة الأنظار للمغامرين، وأخذت يسيل لها لعاب الأوروبيين من كل فجٍّ عميق. وبعد تجاذب أطراف الحديث بين مايكل هينشارد وبين الإسكوتلاندي دونالد فارفري، والذي كان في ريعان شبابه، وبعد مشاورة ومساومة استطاع هينشارد أن يقنعه بالبقاء في كاستربريدج، ويعيَّنه مديراً لأعماله التجاريَّة في المدينة إيَّاها.
ومن بعد التفت هينشارد إلى ما جاء إليه في الفندق وقابل سوزان، وتبادلا الاعتراف، وتجاذبا أطراف الحديث، وأقرَّ هينشارد بذنبه وتاب توبة نصوحاً، وهو الذي كان قد أتى شيئاً إدَّاً، ومن ثمَّ غفرت له سوزان سوءة عمله، ولكنهما توافقا على أن يبقى الأمر سرَّاً بينهما حتى لا تعرف أليزابيث-جين عن نفسها وماضي والديها. على أيٍّ، إذ تمرُّ الأيَّام والأسابيع والأشهر، ويمسي هينشارد يتردَّد عليهما في المنزل الذي أجَّره لهما باعتبار سوزان عشيقته، ثمَّ إذ يُقبل على زواجها من جديد في نهاية الأمر.
بيد أنَّ القدر لم يتركها لتعش طويلاً بعد أن ألمَّ بها داءٌ عضال أودى بحياتها، لكنها تركت رسالتين اللتان شرعت في كتابتهما وهي في سرير المرض على مشارف الموت، وفيهما اعترافات صادمة لهينشارد وأليزابيث-جين على حدٍّ سواء. وإذ هي تأمر بأن لا تُفتح هاتين الرِّسالتين المظروفتين المغلقتين إلا بعد وفاتها ودفنها، ثمَّ إذ روحها تنتقل إلى بارئها، ويتمُّ فتح إحدى الرِّسالتين التي حوت – فيما حوت – اعترافاً خطيراً بأنَّ أليزابيث-جين ليست هي تلك البنت الصغيرة التي تمَّ بيعها معها حين اشتراهما ذلكم البحَّار في دلالة قبل عشرين عاماً، وبعد أن احتسى هينشارد خمراً معتَّقاً حتى عبث بعقله في أشدَّ ما يكون العبث، ثمَّ إذ تورد سوزان في رسالتها إيَّاها بأنَّ أليزابيث-جين قد توفيت بعد شهر من فراقهما، وأنَّ أليزابيث-جين الحاليَّة هي ابنة البحَّار ريتشارد نيوسون المتوفي في اليمِّ غرقاً أو هكذا اعتقدت، وسمَّيتها أليزابيث-جين لإحياء ذكرى الأولى المتوفية. ومن هنا أخذ هينشارد يعامل أليزابيث-جين مغايراً ومغالظاً بعدما كان يعاملها بلطف ورقَّة حين كان يعتقد بأنَّها ابنته، وتحمل شيئاً من حامضه النووي.
ومن جانب آخر انتعشت تجارة هينشارد بفضل الإسكوتلاندي في بادئ الأمر، وما هي إلا أشهراً – أو بالأحرى لنقل عاماً أو عامين – حتى ساءت علاقتهما، ومضى كل منهما إلى سبيله في نهاية الأمر. إذ اشتدَّ الخصام، واغتلظا غلظة شديدة بسبب التنافس التجاري، ثمَّ سرعان ما تحوَّل الشجار – بدرجة ما – إلى نزاع بين العمق الشمالي وبين العناد الجنوبي، أو أصبح الأمر شيئاً أشبه بالصراع بين الكنيسة الإسكوتلانديَّة من ناحية، والكنيسة الإنجيليَّة من ناحية أخرى، ثمَّ كان سلاح هينشارد هو أن يحمل هراوة ويسدِّد بها الضربة الأولى على خصمه، وإلا أمسى تحت رحمته. وإذا هينشارد قد ثار وفار، وأرغى وأزبد، وضجَّ غضباً شديداً، وتهدَّد وتوعَّد. ومن ثمَّ صار غشوماً كأنَّه ثورٌ في مستودع الخزف. فالنَّفس الضعيفة تعجز عن احتمال صدمات القضاء، فلا تجد بدَّاً حين تصدمها من أن تروح عن نفسها بالسخط والغضب، وقد تخرج في سخطها أحياناً عن صوابها وهداها.
وما هي إلا أيَّاماً قلائل حتى يفتضح أمر هينشارد في المحكمة الشعبيَّة التي كان يترأسها حين برزت المرأة بائعة الخمر المعتق قبل أكثر من حقبتين، وهي تهيمة في قضيَّة تتعلَّق بالنظام العام؛ وإذ تستغل هذه المرأة السانحة وتفضح هينشارد في بيعه لبعلته وابنتها في مزاد علني بعد أن لعب الخمر بعقله أيما لعب، وإذ يرتبك هينشارد وينكفئ حين انكشف القناع عمَّا كان مستوراً أمره، وخافياً في خزائنه، ثمَّ إذ ينتشر الخبر في المدينة انتشار النار في الهشيم. ومن هنا أخذ نفوذ هينشارد يهبط رويداً رويداً، وأمست شخصيَّته تتضاءل قليلاً قليلاً وتفقد بريقها، وأصبحت أعماله التجاريَّة يصيبها الكساد، وباتت مبيعاته تخسر كثيراً كثيراً، وشرع الدائنون يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم، وباع ما يملك من الساعة الذهبيَّة التي كان يتزيَّن بها، واضطرَّ أن يترك داره التي كان يقيم فيها، وسكن مع أحد عماله السَّابق الذي كان يهينه ويزدريه تارة، ويفصله من العمل تعسفيَّاً تارة أخرى، ويعيد تعيينه تارة ثالثة، وها هو ذلكم العامل يعمل مع خصمه اللدود دونالد فارفري. ومن ثمَّ اشترى دونالد فارفري أعماله التجاريَّة، ثمَّ منزله في نهاية الأمر، وفقد هينشارد كذلك عشقيته لوسيتا التي كانت قد أعطته وعداً بالزواج منه. مهما يكن شيء، فإذا بالإسكوتلاندي دونالد فارفري يهجر أليزابيث-جين هجراً مليَّاً، ويتعلق قلبه بلوسيتا صاحبة هينشارد السَّابقة، ويتزوَّجها في نهاية الأمر، وكذلك يتمُّ انتخابه عمدة جديداً في المدينة خلفاً للعمدة المخلوع هينشارد. ومن هنا اعتزم هينشارد مصرَّاً على الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميريكيَّة مثلما حاول دونالد فارفري من قبل، حيث أقنعه هينشارد بالبقاء والعمل معه. هكذا أقنع دونالد هو الآخر العمدة السَّابق بالبقاء في كاستربريدج والعمل معه تحت رحمته.
وبعد حين من الزمان ينكشف أمر الرَّسائل التي كانت متبادلة بين هينشارد وبين لوسيتا ويفتضح أمرها، ويصبح في متناول ومتداول العامة والخاصة، بل أمسى أمرها هزوَّاً وأضحوكة، حتى خرج أهل المدينة في يومٍ من الأيَّام يحملون تمثالين لهما، وأخذوا يطوفون ويجولون في شوارع المدينة كما اعتاد سكان هذه البلدة أن يفعلوا بين الحين والآخر بهذه الأنباء وترميزاً بهذه الأشياء حين يتعثَّر الحظ بأحدٍ منهم. وما أن سمعت لوسيتا بما يجري في صحن المدينة من استهزاء بها، وإفشاء لأسرار ماضيها الذي طالما ظنَّت أنَّه في طي الكتمان، وذلك بعدما أحرقت الرِّسائل موضوع التفكُّه والتندُّر، حتى أصابها الإغماء مرَّة تلو الأخرى، وأجهضت ولم يستطع طبيب وطبيب آخر أن ينقذا حياتها وشبابها، ومن ثمَّ فارقت الدنيا وهي في ريعان شبابها الأخضر. وبرغم مما كان بين هينشارد وبين لوسيتا في الماضي، وبرغم مما انتهى إليه ذلك الودُّ الذي كان وصلاً بينهما بزواج الأخيرة للإسكوتلاندي دونالد، إلا أنَّ هينشارد قد حزن حزناً شديداً لممات لوسيتا، ورأى أنَّه قد فقد كل شيء في حياته من مكانة سامية، حيث كان يُشار إليه بالبنان، ومال وفير وقصر منيف، وزوجته التي كانت تؤويه، وصاحبته التي رغب في الاقتران بها، وأمست أمانيه تشيب، وبقي عشه خالياً، وهو ما زال في نضارة الشباب وعمر الزهور والمنى. وفي نهاية الأمر عاوده الحنين إلى أليزابيث-جين، وشرع يعاملها برفقٍ ولطفٍ، وأخذ يبسط عليها جناح مودَّته ورحمته، وذلك بعد أن كان قد عاملها بشدَّة وغلظة، ثمَّ طلب منها أن تعود وتقيم معه في بيته الصغير، وتعتاش معه على ما تدرَّه عليهما من تجارة المحاصيل.
وفي يوم ما إذا بزائر يطرق الباب؛ وإذا هو يسأل عن مايكل هينشارد حتى وجد الإجابة بنعم؛ وإذا هو يرغب في الحديث معه، ويقول إنَّني قصدتك اليوم لأبثك من أمري شيئاً؛ وإذا هو يعرِّف نفسه بأنَّه ريتشارد نيوسون ذلك البحَّار الذي كان قد اشترى بعلته وابنتها قبل أكثر من حقبتين في دلالة في مزاد علني، وبعد أن لهى الخمر بعقل هينشارد في أبشع ما يكون اللهو؛ وإذا نيوسون يروي قصَّته من الألف إلى الياء بما فيها كيف احتال بالغرق في اليمِّ حتى تتخلَّص زوجته سوزان منه تطليقاً بسبب وفاة الزوج، وفي سبيل أن تعود إلى بعلها الأوَّل؛ ثمَّ إذا هو ها هنا باحثاً عن ابنته بعد أن علم أنَّ سوزاناً قد انتقلت روحها إلى بارئها. فما كان من هينشارد إلا أن يعود إلى طبيعته الكذوب، ويقول وهو مطأطأ الرأس بأنَّ ابنته أليزابيث-جين قد توفيت قبل عام أو أكثر، ودُفنت جوار قبر والدتها. وكان نيوسون من أوَّل أمره طُلَعةً لا يحفل بما يلقى من الأمر في سبيل أن يستكشف ما لا يعلم عن أمر ابنته. إذ دار كل ذلك الحديث بينما كانت أليزابيث-جين تنام في غرفة في الطابق الأعلى، وتغطُّ وتسرف في الغطيط، ولم تكن تدري بما يدور في غرفة الاستقبال في الطابق الأرضي. وبعد سماع هذه الكذبة البلقاء والأحاديث العارية عن الإسناد عاد نيوسون القهقرى متثاقلاً متباطئاً أمام هذا الأثر الغشَّاش الكذَّاب الذي يؤثر نفسه، وفي نفس هينشارد شيء من حتى. إذ لجأ هينشارد إلى هذه الأكذوبة لئلا يفقد أليزابيث-جين التي أمست الشيء النفيس الوحيد الذي بات يملكه، لكنه في الحين نفسه أخذ الوهم يغمره أنَّه ربما طفق نيوسون يتساءل في المدينة ويسعى، وأدرك أنَّ أليزابيث-جين ما زالت على قيد الحياة، وعاد ليأخذها، ومن ثمَّ يبقى فؤاده فارغاً خالي الوفاض كفؤاد أمِّ موسى.
على أيِّة حال، فحين ضاقت الأرض على هينشارد بما رحُبت، ثمَّ حين أحسَّ بأنَّ نيوسون لا ريب في أنَّه عائد للتعرُّف على ابنته، غادر هينشارد مدينة كاستربريدج وهو زعيم بأنَّه سوف لا يعود إليها أبداً، وترك أليزابيث-جين باكية تكفكف دموعها، وتغالب حسرتها. وإذ هو يمضي إلى قرية من قرى جنوب-غرب إنكلترا، وإذ هو يشرع في ممارسة حرفته الأولى لمدة شهرين؛ وإذ يقرِّر فجاءة أن يعود ويحضر مراسم زفاف أليزابيث-جين ودونالد الذي سوف ينعقد بعد يومين؛ وإذ يحضر إلى المدينة خلسة لواذاً وهو يترقَّب، ويأتي بيت المقترنين من خلفه حتى لا يراه أحدٌ؛ وإذ يستطيع أن يقابل أليزابيث-جين بمساعدة خادمة البيت دون مقابلة العريس دونالد؛ وإذ يُغضب أليزابيث-جين بهذه الزيارة غير المتوقعة في أشدَّ ما يكون الغضب؛ وإذ هي كارهة ساخطة، لا تكاد تمسك لسانها؛ ثمَّ إذ يعتذر في أعظم ما يكون الاعتذار ويغادر المكان محزوناً كاسف البال ومن غير رجعة.
وتمرُّ الأيَّام سراعاً ويقرِّر الزوجان بأن يضربا في الأرض بحثاً عن هينشارد، وشدَّا رحالهما، وعلى الدواب التي تجر العربة سافرا شرقاً يسألان الداني والقاصي عن مفقودهما، حتى يئسا من التسآل، وبلغا من سفرهما نصباً، ومن ثمَّ أقفلا عائدين. وفي طريق عودتهما وجدا أبيل ويتيل وهو أحد عمال دونالد، وهو الذي كان قد غاب عن العمل لثلاثة أيَّامٍ حسوماً، ووقفا عند كوخه. وما أن عرفهما أبيل حتى طفق يخبرهما – وهو في حال حزن عميق – بأنَّ هينشارد قد فارق الحياة قبل نصف ساعة من مجيئهما، وأنَّه ترك رسالة كان قد كتبها وهو حزين مدحور، وحين أنهكه التعب والجوع بعد أن رفض الإطعام والتشراب، وأحسَّ بأنَّ لحظة مفارقته للحياة الدنيا قد اقتربت. هذا فقد جرت وصيَّته على النحو التالي: "أن لا تعلم أليزابيث-جين عن وفاتي، وأن لا تحزن على فراقي للحياة، ولا يتمُّ دفني في أرض مقدَّسة، وأن لا تُقرع الأجراس من أجلي، وأن لا يرى أحدٌ جثماني، وان لا يسير الحادُّون خلف جنازتي، وأن لا تُوضع أكليل الزهور على قبري، وأن لا يتذكَّرني أحدٌ!"
ومن هنا انتهت حياة رجل بدأت مسيرته في الحياة بفعلة شنيعة، وأخذ يخادع نفسه والذين حوله، حتى بلغ مقاماً محموداً، وتوفَّرت له كل سبل الحياة الرغيدة من مال وجاه وأبُّهة، ولكن سرعان ما فقد كل شيء، وصار أفقر من فأر الكنيسة، وبغضه النَّاس طرَّاً، وأخذوه هزوَّاً، حتى الابنة التي رعاها منذ مقتبل الشباب أمست تبغضه في أشدَّ ما يكون البغض، وبخاصة بعد أن عرفت حقيقته وتأريخه القديم الكتيم، الذي كان عبارة عن شخصيَّة الدكتور جاكل والسيِّد هايد. وفي نهاية الأمر مات مايكل هينشارد فقيراً وحيداً بلا مال ولا بنون ولا مأوى، ولا عشيرة تواري جثمانه، ولا أحداً يبكي على جدثه. بيد أنَّ الشيء الذي لم يكد الراوية يخبرنا عنه، أو يُحطنا به علماً، هو أين وُلد مايكل هينشارد، وأين ترعرع؟ أفلم يكن له إخوة وإخوات وغيرهم من الأقارب الأخرى؟ إذ ربما لم تكن هذه الوقائع غير ذي جدوى في نظر المؤلِّف حين عكف على كتابة هذه الرواية الاجتماعيَّة التي تحكي واقعاً في الرِّيف الإنكليزي في العهد الفيكتوري.
ومع ذلك، تمتاز الرواية بلغة إنكليزيَّة قديمة، ومصطلحات لا يكاد يفهمها الجيل الجديد، ونمط حياة ريفيَّة عهدها النَّاس في ذلك الرَّدح من الزمان، وكانوا قد اعتادوا على الانشغال بصغائر الأمور وغيرها من العادات والتقاليد التي لا يمارسها الشعب الإنكليزي اليوم. ومن هنا أمست رواية "عمدة كاستربريدج" (1886م) من الأدب الكلاسيكي للأديب توماس هاردي (1840-1928م) كغيرها من مؤلَّفاته العديدة مثل "بعيداً عن صخب الحياة" (1874م)، و"تس من آل دربرفيل" (1891م)، و"جود الغامض" (1895م). ولعلَّ توماس هاردي روائي وشاعر إنكليزي وكاتب واقعي من العصر الفيكتوري، وهو كان متأثِّراً بالرومانسيَّة، حيث اهتمَّ بنقد أوضاع المجتمع الفيكتوري مع التركيز بشكل أكبر على الطبقة الرِّيفيَّة، وامتازت أعماله الأدبيَّة بمجموعة من الشخصيات تصارع أقدارها، وتكالب شغف العيش وظروف الحياة وصروف الدهر.

 

آراء