طرائــف وحكــاوي في حب السودان وأهـله .. بقــلم: صـلاح محمـد عــلي

 


 

 

 

 

الدكتور إبن الدفعة و الصديق عبد الرحمن محمد أحمد كدوك - الأستاذ المشارك حالياً بكلية التربية بجامعة إفريقيا العالمية – شخصية فكهة متنوعة المواهب حاضرة البديهة و حكاواتي من الدرجة الأولى لا يمل الحضور الاستماع لقصصه و نوادره كان ذلك ديدنه أيام الطلب في منتصف الستينات ببورتسودان الثانوية و ما شاء الله لا يزال يحافظ على روحه السمحة و خصاله المتميزة تلك حتى الآن و خير شاهد على ما أقول كتابه الأخير الذي أصدره قبل سنوات في أربعة أجزاء بعنوان ( طرائف المجالس السودانية ) متضمناً لكثير من الحكايات و النوادر الأصيلة ..و كل من أطلع على الكتاب ، أو على جزء من أجزائه ، أعجب به و أثنى عليه لما وجد فيه من نوادر و حكايات ممتعة و مسلية تروح عن النفس وتسعدها و تدخل عليها البهجة و السرور و تجبر القارئ على الضحك الإبتسام و تزيل ما علق بنفسه من ضجر و سأم .

بعد هذه الكلمات المقتضبة في حق الدكتور و كتابه الممتع أود أن أقتبس بعض الحكايات التي أوردها كدوك في بعض أجزاء الكتاب و التي آمل أن تكون معبرة على صدق ما ذهبت إليه في عنوان المقال :
@ يقول د.كدوك في مقدمة الجزء الأول من الكتاب ( خلال الأربعين سنة الماضية أتاحت لي ظروف مهنتي أن أجوب السودان بأركانه الأربعة و أن أخالط أناسه بمختلف أجناسهم و أعراقهم و طبائعهم كما أتيح لي أن أزور أكتر من عشرين بلداً في أوربا و أفريفيا و أسيا فما وجدت فيها و لا بينها شبيهاً للسودان حتى تلك الدول التي تشاركنا الحدود السياسية فما أن تعبر الحدود و تطأ أرض أي من الدول التسع التي تحيط بنا إلا وأحسست في اللحظة و التو وحشة الغربة و اختلاف المكان و طبائع البشر وذلك إحساس لا ينتابك أو يتسرب إلى وجدانك و أنت تجوب هذا البلد القارة برغم اختلاف الأعراق و اللهجات و السحنات.. بل أبعد من ذلك فحتى القبيلة الواحدة التي شطرتها الحدود السياسية فإن تلك التي في الجوار لا تشبه السودانية في أمور كثيرة لا تحصى: هنالك شئ فطري جامع لكل أهل السودان هو سماحة الروح ! ) .

@ يقول أحد أصدقاء د. كدوك اللواء أمن ( م ) : بعد تخرجي من الجامعة ( عام 1969 ) تم اختياري مع بعض الإخوة المعلمين للإشراف على امتحانات مدارس منطقة دنقلا المتوسطة ( دنقلا ، أرقو ، البرقيق ) و قد كان وقتهاالامتحان و القبول للمدارس الثانوية مركزياً أصابني الهم و شعرت كأني موفد لمهمة خارج السودان ! هبطت الطائرة في مطار دنقلا و جاء مسؤولو الشرطة و التعليم لاستقبالنا و كان الاستقبال حاراً خفف من مخاوفي . المدينة صغيرة جيدة التخطيط خضراء تحفها الرمال من الاتجاهات كلها إلا باتجاه النيل. أقمنا باستراحة الحكومة التي كانت معدة إعداداً طيباً و شهدنا من الكرم و الاحترام و الحفاوة ما جعلني أشعر و كأني وسط أهلي. احتدم النقاش بين المسؤولين و المواطنين في كيفية توزيع فرص إكرام و استضافة الزوار.. و عدنا ذات مساء من جزيرة بدين و كنا في ضيافة آل الزبير حمد الملك و اصبحت علينا الجمعة و كانت يوماً مفتوحاً مع القاضي المقيم . مع تباشير الصبح سمعت طرقاً و ضرباً على الباب فتحت فوجدت إمرأة كبيرة في السن تتوكأ على عصاها حييتها و طلبت منها أن تتفضل بالدخول إن كانت لها خدمة ترجوها منا .. ردت: خدمة منكم أنتم وهل تعتبرون أنفسكم بشراً ؟ استفسرتها هل أسأنا التصرف في شئ ؟ ردت نعم أسأتم التصرف و تنقصكم شهامة السوداني و رجالته !! طلبت منها أن توضح لنا الأمر قالت : لو إنتو أولاد قبايل و بتعرفوا الأصول أنا مجاوراكم بالحيطة و أنتو كل يوم في محل .. ناس البلد يقولوا فيني شنو ؟! عشان ما معانا راجل في البيت ؟؟ لو طلبتو موية ساكت أنا كنت شعرت بقيمتي .... و عشان تكفــروا عن غلطتكم يوم الجمعة دا اعتبروا بيتي بيتكم واستضيفوا كل من استضافكم هنا عندي !
يقول الراوي انطلقت أسارير وجهي و زال انقباضـي و شعرت في تلك اللحظة بأني قزم في حضرة ذاك الشموخ : " يا هو دا السودان " علينا جميعاً أن نحرص على الحفاظ على هذه القيم و الخصال و سماحة الروح التي يتصف بها أهله و ألاّ نجعل الاختلافات السياسية و الجهوية و الإثنية والقبلية و غيرها تفسد هذه الصفات العظيمة .
@ يقول الراوي كنا مجموعة من خمسة نعود مريضاً بأحد المستسفيات و بعد عيادته جلسنا مع مجمعات أخرى في ميدان الحشيش أمام المسنشفى تحيط به مجموعة من الأشجار بينها شجرة جوافة ونحن في جلستنا تلك جاءت امرأة بادية الجمال ، تقدم رجلاً و تؤخر أخرى ، لاحظ ود علي حيرتها تلك فسألها قائلا ً : دائرة شنو يا بت أخوي ؟ فقالت دايرة لي شوية صفق جوافة دايراهو لي ولدي عندو أزمة .. قالوا مويتو بتنفع الأزمة . قام ود علي من فوره و خرط لها الفروع خرطاً حتى ملأ يديه تماماً وقال لها أفتحي ثوبك وكب لها كل ما خرطه و ذهب ثانية و خرط لها كمية مماثلة و جاء بها إليها ورجع للتالتة فقالت له :
يا با كفا .. الله يديك العافية.. الجبتو دا كتير خلاص ! و جلس هاشاً باشاً و سط أصحابه .. فقال له صديقه الريح يمازحه : إنت يا ود علي تخرط ورق الجوافة تخليها سيطان سيطان ؟؟ أنت ماك عارف إنو دا شجر حكومة ؟؟ فأجاب بحدة : إنت ما سمعت المرة قالت دايراهو لي شنو ؟ فقال له : نان أكان قالت دايراهو تخرطو ليها بالطريقة دي ؟ فأجاب بحدة أكبر : يا زول علي الطلاق المرة دي تقول لي أقطعها إلا أقطعها من قعرها !!!
@ كان بإحدى قرى الجزيرة رجل كبير في السن على و شك الخرف و كان من علامات ذلك أن ذاكرته قد ضعفت فكان يذهب في الصباح الباكر لمكان تجمع الحافلات وكان كلما وجد واحدة متحركة قبل ما يعرف وجهتها يركب فيها ولا ينزل إلا في المحطة الأخيرة .. و من كثرة تردده على الحافلات عرفه سواقو و مساعدو الحافلات فأصبحوا لا يسألونه عن أجرة ولا عن وجهته كذلك عرفه أهل قريته و القرى المجاورة فيخبرون ذويه بالمكان الذي نزل فيه . يقول دكتور كدوك بعد أن حكى كيف أنتهى هذا الشيخ مرة في إحدى تواهاناته تلك إلى قرية رحب به أهلها واستضافوه ووجدوا له عملاً بمسجد القرية و أوشكوا أن يزوجوه من إحدى نسائهم لولا أن سمع بالخبر ذووه في قريته الأصلية في اللحظة الأخيرة فأرسلوا له أحد أبنائه قبل عقد القرآن فألغوا العقد و عادوا بأبيهم لقريته و فرضوا عليه حظر ركوب الحافلات بدون معرفتهم و أخطروا بذلك كل سائقي الحافلات.
يقول الأستاذ كدوك : ( العجيب في حكاية هذا الشيخ أنه كان دائما يلقى الملجأ و المأكل و المشرب حيثما نزل في هذا البلد الذي لا يدانيه بلد و لا يشبهه بلد آخـر ! )
قلت له : يا أخي كدوك لعمري أن هذا الكلام الذي قلته يعتبر من أجمل و أصدق ما قيل في وصف السودان و أهله .

*****

الخرطــوم
إبريـــل 2020 م

abasalah45@gmail.com

 

آراء