{والرجل البار رجل وفيّ عطوف في محبّته، ويظهر أثر برّه في تعامله مع والديه، وأقاربه، وجيرانه، وضيوفه، ومعارفه، ومعارف والديه، وأيتام المسلمين والناس. ويتميّز سلوك البار بالمداومة على الصّلة؛ بالزيارة وبشاشة الوجه، والاستمرار في بذل المعروف، والإنفاق على الأرحام والمعارف، والإيثار على النفس. وقد جعل الرسول الكريم البرّ في مقابل الإثم في نصوص عديدة، مرّة باطمئنان النفس إلى الحلال الطيب، الذي لا شبهة فيه فقال: " البر ما اطمأنت إليه النفس" }
أبو الهيثم محمد درويش
(2)
ربما حزِن هو في قبره، إن علم أنني أكتب عنه. خير المقال عنه ألا نذكر اسمه. يكبرني بثماني أو تسع سنوات. يذكّرني دائما بالراحل والدي، ولكنه كان ميسور الحال. صبوح حين تلقاه، وبالبشر يستقبلك. عرِف التجارة وحذق أسرارها والمخابئ الدفينة في كهوفها، ورزقه مولاي سعةً في المال وبسطةً في الرزق . له في المنطقة الصناعية ببحري مصنعا للكراسات المدرسية، تسع طلبات العاصمة والأقاليم. يملك محجرا لاستخراج خام الرخام، ويقوم بتصديره لإيطاليا، ثم يقوم باستيراد الرخام الايطالي مع الكتالوجات، ثم يتاجر فيه.
عرفّني إليه الراحل " عبد السلام أحمد الطيب عبد السلام" في بداية تسعينات القرن العشرين، وكان عبد السلام مثله في التُقى والصلاح وبسطة اليد، رحمهما المولى وأجري مياه جنانه من تحت مرقديهما.
(3)
بعد أن انقضى عقد ايجار المكتبة البريطانية في أم درمان جوار المجلس البلدي، و بعد الصيانة أقام المكتبة وساحتها كمكتبة عامة لاستذكار ونهل طلاب العلم بديلا للمكتبة الأهلية في أم درمان، التي كانت في حي البوستة. ودار المكتبة فسيحة رحُبت في المساءات بالندوات العامة في ظل العداء السلطوي ضد الثقافة ، أذكر مرة حضرت محاضرة عن التنويم الإيحائي ومعها نماذج من قدرة المحاضر ( أبو حراز) على التنويم. وهي بالطبع محاضرة مدهشة.
عيّن رجل البر للمكتبة مختصين في إدارة علوم المكتبات، يقضون دوامهم المسائي من الخامسة إلى العاشرة. وكان في أثناء زياراته كل مرة لمصر، ينتدب مختصا منهم في علوم المكتبات، ليسافر معه ليغطي فجوات المكتبة والنواقص، بأسفار وكتب باللغتين العربية والإنجليزية، يرى هو أهميتها في كافة العلوم والآداب: الروايات والفلسفة والدين والاجتماع والاقتصاد والعلوم بتعددها والقانون والفنون.. إلخ. عيّن للمكتبة والندوات مجلس أمناء، يدير شئون الدار. وترك لنفسه بابا شماليا يفضي لمكتبه وأضيافه الخاصين في زاوية بعيدة في ركن المكان، ملحق بها حمام.
أسهم في إيواء طلاب وطالبات الجامعة الأهلية بأم درمان بالمجان لمدة عامين، إلى أن اكتملت مباني الجامعة ورحلت إلى موقعها غرب أم درمان. لم تكن الإدارة تدفع ايجارا أو رسوم الخدمات، كان يدفع عنها تلك الرسوم. وبعد ذلك طوّر المبنى ليسع سكنه الخاص شرق سجن أم درمان القديم، بتشييد طابق أول فوق الطابق الأرضي، مع بناية في الجهة الشرقية من ثلاث طوابق. قام شخصي بالتصميم والإشراف.
(4)
جئت يوما مُبكرا لمكان محل تجارته في ( شارع العناقريب) بأم درمان، وكان ميعادي معه في التاسعة صباحا. وحين اقتربت من مكان دكانه، وجدت صفا من الفقراء والمساكين يتمدد من داخل مكتبه إلى الطريق. وعلمت حينها أنه كان يعطي كل فرد ورقة من فئة خمس وعشرون قرشا، وكانت توفر ثلاثة وجبات للفرد، في ذلك التاريخ، قبل أن يبدأ العمل.
لما رآني غضب غضبا شديدا إلى أن تغيرت سُحنة وجهه، لا لشيء، بل لرؤيتي له حين يستفتح الصباح بعطائه للفقراء. وبذلت له الأعذار إذ أنني جئت صدّفة لعرض واجهة ملونة مرسومة للفخار الأزرق تصورته لسقف الطابق الأول من مسكنه. وحينها ثار غاضبا للمرة الثانية، وقال: - تعال ركّب لي هلال أزرق فوق طاقيتي دي! حينها علمت أنه يشجع فريق المريخ. أدركت أني لم أفهم أي شيء في تشجيع كرة القدم، وأنا لم أشجع فريقا. فطمأنته أن ذلك مقترح لعرضه عليه، وسوف آتيه بفخار أحمر. فقلت: - إنت مولانا، وخايف الله، مالك ومال كرة القدم؟ فرد غاضبا: - ما شُغلك!
(5)
استدعاني "عبد السلام" يوما، بأن أحضر صباحا لأن بعض التجار في سوق أم درمان اشتروا قطع في الحارة (12) الثورة- أم درمان لسكنهم، ويرغبون في تصميم وتشييد مسجد مواجه لشارع الشنقيطي في الحارة. وبدأت المعلومات الأولية عن المشروع. وحين عرف رجل البر بموضوع المسجد، تبنى الموضوع وأسهم في المشروع بأكثر من 90% من تكلفته. وصار هو شبه مالك للمشروع وتكفل بمراجعة التصاميم كمالك له الحق في الرأي، مؤمنا أن عمل الخير يتعيّن أن يكون فيه شريكا، وقد أشرف على المشروع منذ بدايته إلى منتهاه.
(6)
ذات يوم زرت دكانه صباحا، وعلمت سبب غيابه، إذ تم استدعائه بواسطة جهاز الأمن. فعجبت، وهو رجل متديّن وهو رجل يتعين أن تكسبه، والسلطة تبشرنا بإقامة شرع الله فما دخله مع أجهزة الأمن!، و ليس له انتماء حزبي. وحضرت لزيارته بعد انتهاء دوام عملي الرسمي، ولم أجده فقلقت. في المساء زرت مكتبه لأتفقده، وأخبرني مرافقه الصدوق - وهو من السودانيين ذوي الأصول الهندية- قائلا:
- الحاج فكّوه قبل 4 ساعات، وهو جاي، أرجو انتظاره في المكتب.
بعد قدومه لمكتبه شرح لي الأمر. واتضح أن جهاز الأمن سأله عن الشيوعيين وإقامتهم ندوات في ساحة مكتبته. و شرح لهم مسئولية مجلس الإدارة في الموافقة على النشاطات الثقافية، وليس لديه أية مسئوليات تجاه الندوات. وإن المنتمين للسلطة هم المتحدثون في غالب الأيام. وأوضح لهم أنه سوف يتبرع للحكومة بسبعة ملايين جنيه. وأخبرني أنهم فرحوا بالخبر !. وقال لي مبررا تبرعه:
- أنا أعرف أنك تكون زعلان من خبر تبرعي كما ظهر في التلفزيون، أنا رجل غير حزبي ولا أهتم بالسياسة، أنا رغبت النأي بنفسي عن المعارك مع الحكومة. أنا رجل أعمال، وهؤلاء يمكنهم فعل أي شيء، فهم لا يخافون الله!. اللهم اكفنا شرّهم. * أجرى عملية قلب مفتوح في مستشفى بلندن قبل أكثر من عشر سنوات، وتوفي بعد العملية. اللهم ارحم روحاً صعدت إليك منذ زمان و لم يعد بيننا و بينها إلا الدعاء. اللهم ارحمه و اغفر له و انظر اليه بعين لُطفك و كرمك يا أرحم الراحمين. اللهم ارفع درجته في المهديّين واخلفه في عقبة الغابرين و اغفر لنا و له يا الله و أفسح له في قبره و نور له فيه.
عبدالله الشقليني 24 أبريل 2020
مسجد الحارة (12) الثورة - أم درمان- على شارع الشنقيطي