السودان: قلق مشروع حيال الفترة الانتقالية

 


 

 

 

 

 

كتبنا عدة مرات، وكذلك كتب آخرون كثر، عن أهمية الفترة الانتقالية التي تعيشها البلاد الآن. كتبنا بمداد من القلق خوفا من تكرار الفشل للمرة الخامسة، لقناعتنا بأنه إذا فشلنا ربما لن تكون هناك مرة سادسة، إذ أن احتمال تفتت الكيان السوداني سيظل واردا وبدرجة كبيرة.

ولا أعتقد أن أيا منا يحتاج أن نذكره بأن فشل الفترة الانتقالية الرابعة، والتي استمرت لست سنوات، من 2005 إلى 2011، انتهت بانشطار السودان إلى جمهوريتين مستقلتين بعد أن ورثناه موحدا. وكتبنا وقلنا إن النجاح في تنفيذ التدابير الانتقالية لا يقاس بتوزيع المناصب والمحاصصات، ولا أن يتم الاكتفاء بقصر هذه التدابير على مجرد التغيير السطحي والأداء الروتيني لأجهزة الحكم الانتقالي، وكأن العمل سيستمر عاديا كما كان إبان الإنقاذ، وإنما يقاس بتنفيذ مجموعة من المهام الجسام التي طرحتها ثورة كانون الأول/ديسمبر، وقنن عمومياتها الإعلان الدستوري الحاكم للفترة الانتقالية. وقلنا إن تنفيذ هذه المهام، يستوجب علينا جميعا، القوى السياسية، المدنية والمسلحة، وقوى المجتمع المدني، التعامل معها باعتبارها مسألة مصيرية وأساسية تخاطب جوهر ما يمكن أن يحقق أملنا في التخلص من النتائج المأساوية لحكم الإنقاذ الكالح، وفي الحفاظ على وحدة بلادنا والسير بها نحو مرافئ التقدم والرقي. أما إذا لم نضع هذه الرؤية نصب أعيننا، فسنظل مجرد موهومين يحرثون في البحر.
ولعل من أكبر بواعث القلق المتمكن من ثوار ثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة، وأيضا من أرواح شهدائها، هو أن الفترة الانتقالية لا تزال عرجاء، تتعثر خطواتها، بسبب غياب المجلس التشريعي الانتقالي والمفوضيات القومية المستقلة. وأعتقد أن هاتين المسألتين تستوجبان وتستحقان تعاملا غير الذي يجري الآن، ومهما قيل من تبريرات فستظل واهية.
بالنسبة للمجلس التشريعي الانتقالي، فإن من أهم وأخطر واجباته مراقبة أداء الحكومة ومساءلتها، تحقيقا لمبدأ منع إساءة استخدام السلطة وحماية حقوق المواطنين وحرياتهم. صحيح أن السلطة التشريعية في الظروف الطبيعية، تستمد سلطتها وشرعيتها من آلية اختيارها من الشعب عبر الانتخابات، لذلك هي تعبر عن الإرادة الشعبية، وهي ممثلة ونائبة عن الشعب الذي أنتخبها. أما في فترات الانتقال، كفترتنا الراهنة، فإن السلطة التشريعية تستمد سلطتها وشرعيتها من حالة الضرورة، لذلك غالبا ما يتم التوافق على تكوينها بالتعيين. وفي هذه الحالة، ولأن الضرورة تقدر بقدرها، ولصالح نجاح الفترة الانتقالية، ولمنع أي اهتزازات واضطرابات خلال هذه الفترة الحرجة والهشة، وخاصة وأن فترتنا هذه محاطة بكل إمكانيات التصدع والانهيارات، خذ فقط مثال النزاعات القبلية الراهنة حد الاقتتال، أعتقد من الأهمية القصوى بمكان، التقيد بمجموعة من الضوابط والقواعد، أهمها:

أن تخول للمجلس التشريعي الانتقالي صلاحيات تشريعية محدودة، تنحصر في سن التشريعات والقوانين الضرورية لتجاوز ما أحدثته الإنقاذ من تخريب وويلات، ولاستعادة الدولة المخطوفة، كما يحق للمجلس تعديل وإلغاء أي قانون يتعارض مع حقوق الإنسان والحريات العامة، وكذلك سن التشريعات المتعلقة بقضايا ومسار الفترة الانتقالية، كإجازة الموازنة العامة، المصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية والإقليمية والدولية…..الخ، وكل ما من شأنه العبور بالمرحلة الانتقالية إلى الأمام. فيما عدا ذلك، فإن التشريعات الأخرى المتعلقة بإعادة بناء وهيكلة الدولة، كقضية العلاقة بين الدين والدولة مثلا، فأعتقد أن المنطق يقول إنها خارج صلاحيات المجلس التشريعي الانتقالي، ولا يمكنه البت فيها، وإنما تترك للمؤتمر القومي الدستوري.
أن تكون هناك معارضة حقيقية في المجلس التشريعي الانتقالي، لأن غياب المعارضة يعني أن يتحول المجلس إلى مسخ باهت لا سلطان حقيقي له تجاه الحكومة. أيضا، أعتقد أن هذه النقطة مهمة جدا لتجاوز ما يثار حول الإقصاء وتمكين مجموعات بعينها من أجهزة السلطة.
الحرص في اختيار أعضاء المجلس من كفاءات وقدرات حقيقية، وليس لمجرد الترضيات والمحاصصات السياسية. كذلك ضرورة الحرص الشديد على تمثيل المرأة والشباب ولجان المقاومة تمثيلا حقيقيا، وليس شكليا أو صوريا، مع التقيد بشرط الكفاءة والقدرة.
بالنسبة للمفوضيات، فهي أولا، جزء لا يتجزأ من البناء الدستوري في المرحلة الانتقالية، حسب الإعلان الدستوري. وثانيا، مناط بها إنجاز مهام أساسية ومصيرية، الفشل في إنجازها يعني فشل الفترة الانتقالية. وثالثا، هذه المفوضيات ستزيح عبئا عن كاهل الحكومة لتتفرغ الأخيرة وتركز في قضايا حياة الناس ومعيشتهم، وقضايا الحكم الأخرى. ورابعا، مهام أي من هذه المفوضيات ليست سهلة أو بسيطة، بل حتما ستكتنفها خلافات ونزاعات ربما تتعمق وتتطور إلى صراعات حقيقية داخل مجتمعنا. أنظر فقط إلى اسم أي مفوضية وسترى حجم ما ينتظرها من عمل، ومن خلافات: مفوضية السلام، مفوضية المؤتمر الدستوري وصناعة الدستور، مفوضية الحدود، مفوضية الانتخابات، مفوضية العدالة الانتقالية، مفوضية الإصلاح القانوني، مفوضية مكافحة الفساد، مفوضية إصلاح الخدمة المدنية، مفوضية المرأة والمساواة النوعية، مفوضية الأراضي… ومن زاوية أخرى، فإن تكوين المفوضيات يعني توسيع المشاركة في إدارة الفترة الانتقالية، وإعادة الكفاءات المؤهلة غير المنتمية سياسيا إلى منصة اتخاذ القرارات المصيرية مشاركة مع القوى المنتمية سياسيا وقوى المجتمع المدني.
أعتقد أن التأخير غير المبرر في تكوين المجلس التشريعي الانتقالي، وكذلك التأخير في تكوين المفوضيات، وقبل ذلك التأخير في التوقيع على اتفاق سلام شامل مع الحركات المسلحة، يدق ناقوس الخطر ويحذر من الوقوع في مصيدة فشل الفترة الانتقالية. فلثلاثين عاما مضت، ظلت الإنقاذ، بخنجر مشروعها السياسي المسموم، والقائم على أعمدة تحالف الفساد والاستبداد، ظلت تسدد طعنات نجلاء ومباشرة في جسد الأمة الغض، حتى كادت أن تعصف بحلم بناء الأمة وكيان البلاد الواعدة بالحياة الغنية بحكم تركيبتها الفسيفسائية، والتي كان، ولا يزال، يلزمها مقود مستدير يكمل اتجاه دورته ليبدأ من جديد، دون أن يميل إلى جهة أكثر من الأخرى، فهل تنجح فترتنا الانتقالية في أن تكون هذا المقود؟
نقلا عن القدس العربي

 

آراء