في حكايتنا مايو: رد على مقال هل اشترك الحزب الشيوعي في التخطيط لانقلاب مايو 1969؟

 


 

 

 

 

يا شموساً في دروب الليل اشعلت النهارا

نحن شلناك وساما وكتبناك شعارا
نحن صرنا بك يا مايو كبارا
هذا مقطع من اغنية (في حكاياتنا مايو) وشاعرها هو محجوب شريف وملحنها ومغنيها هو الفنان محمد وردي، وهو عمل بالمقاييس الفنية البحتة من الاعمال الفنية الرائعة، من ناحية الكلمات واللحن والأداء المميز لوردي مع الكورس.
عبرت هذه الكلمات عن العاطفة الجياشة للشيوعيين تجاه مايو في عهدها الأول ولنسميها (مايو الحمراء)، وهو شعور لا يدع ادنى مجال للشك في قوة ارتباطهم الوجداني مع هذا الانقلاب العسكري الذي اطلقوا عليه اسم ثورة. واستعادوا بها كما قال محجوب شريف في القصيدة نفسها (بطاقتنا التي ضاعت سنينا). ولكن كما قيل في سالف العهد والأوان أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فقد كان عمر هذه الوردة الحمراء قصيراً لهم، وضاعت البطاقة مرة ثانية وربما إلى الابد، وأكلت الثورة بنيها.
دار الزمن دورته وظهر في الساحة انقلابيون من الضفة الأخرى أي الضفة اليمنى للنهر أو ضفة اليمين وتنظيماته الاسلامية، ولم ينكر هؤلاء انهم قادوا انقلابا تخطيطا وتنفيذا، وكان تساؤلهم الموجه لليسار هو: كيف تنكرون علينا الفكر الانقلابي وانتم السباقون لذلك؟ لذا كان احد هموم الشيوعيين ومفكريهم هو نفي هذا التهمة ومحاولة تخليص الحزب من اوزارها وآثامها.
في هذا السياق وضمن الجهد المتصل لنفي صلة الشيوعيين بانقلاب مايو كتب الاستاذ تاج السر عثمان في هذا الموقع مقالا بتاريخ 27/5/2020 بعنوان (هل اشترك الحزب الشيوعي في التخطيط لانقلاب مايو 1969؟). والأستاذ تاج السر تمتاز كتاباته بالرصانة ويميل نحو الموضوعية وطرح ما يرى انه حقائق. وتخلو كتاباته من النفس (الثوري) الذي يخضع هذه الحقائق لجانحات الفكر ويلويها حسب ما يريد الشخص ان يراه لا لما حدث حقيقة.
وقبل ان ندخل في صلب الموضوع لابد من الإشارة إلى أن هذا الرد يرتكز على ضرورة التفريق بين مواقف الحزب الاستراتيجية ومواقف الحزب التكتيكية، فقد يحدث احيانا بعض التناقض بينهما، لكن القول الفصل هو دائما للاستراتيجية. وعلينا في كل الأوقات توجيه البوصلة للمواقف الاستراتيجية.
سنزعم هنا ان الموقف الاستراتيجي للحزب لا يمانع في قبول فكرة الانقلاب العسكري، لكن بشرط ان يكون ضمن رؤيته هو، وسنحاول رفد هذا الزعم بما يتوفر من ادلة مستقاة مما كتب الشيوعيون انفسهم.
وحتى نفهم موقفهم من مايو على حقيقته لابد من الرجوع لانقلاب نوفمبر عام 1958، والذي يقول الشيوعيون انهم رفضوه وعارضوه ، لكن من واقع وثائقهم سنرى ان الرفض والمعارضة لهذا الانقلاب جاءت لأن الانقلاب بالصورة التي حدث بها لا يلبي تطلعاتهم. ولم تكن المعارضة مؤسسة على مبدأ جوهري هو أنه انقلاب على سلطة شرعية منتخبة.
فقد ذكر الاستاذ تاج السر في مقال له بعنوان (الحزب الشيوعي السوداني وتجربة انقلاب مايو 1969 ويوليو 1971)، المنشور بمجلة الحوار المتمدن العدد 2442، بتاريخ 22/10/2008، الآتي نصه:
(وفي 18 نوفمبر 1958 أصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي بيانا بعنوان ً 17 نوفمبر انقلاب رجعي ً ، جاء في ذلك البيان ما يلي :
إن الانقلاب الذي جري صباح 17 نوفمبر لم يكن متجاوبا مع مطالب شعبنا ومصالحه ، ولم تكن ثورة الجيش هي جزء من التحولات الوطنية الديمقراطية ضد تحكم الإقطاعيين والاستعماريين بل كان تسليما سلميا للسلطة من يد عبد الله خليل لقيادة الجيش تماما كما فعل اسكندر ميرزا في الباكستان ..
ويواصل البيان ويسأل ما هي طبيعة هذا الانقلاب ؟ً جري الانقلاب تحت إشراف القيادة الرسمية للجيش ولم تقم به هيئة مناوئة من الضباط كما جري في مصر والعراق(.
ويواصل البيان: ً الأغلبية الساحقة من ضباط الجيش هم جزء من البرجوازية الصغيرة في بلادنا ولهم اتجاهات وطنية ومتأثرين بالفعل بالحركة الجماهيرية .. ً .
ويختتم البيان بطرح البرنامج التالي لمقاومة الانقلاب :
1- يجب أن يضع حزبنا شعار حكومة وطنية تتألف من القوي الوطنية وضباط الجيش .
2- يجب أن يضع حزبنا أمام القوي الوطنية من الضباط في الجيش أهمية النضال ضد الحلقة الرجعية إلى قادت الانقلاب والوقوف سدا منيعا ضد تدبيراتها واستبدالها بقيادة وطنية متجاوبة مع مطالب الشعب الأساسية).
ثم عدد البيان هذه المطالب ومنها:
) قيام حكومة وطنية لتنفيذ هذه الأهداف من المعسكر الوطني والصف الوطني من ضباط الجيش بعد التخلص من الحلقة الرجعية التي قادت انقلاب 17 نوفمبر ). انتهى الإقتباس.
ويتناول الاستاذ تاج السر بصورة موضوعية ناقدة ما يراه خللا في بيان الحزب حيث يقول:
(وبالتأمل في هذا البيان – وفي السياق التاريخي – بعد هذه المدة الطويلة نلاحظ الآتي :
1- عارض الحزب الشيوعي انقلاب 17 نوفمبر بوصفه انقلابا رجعيا ، ولم تكن المعارضة نتيجة لموقف مبدئي من أي انقلاب أو ديكتاتورية عسكرية تصادر الديمقراطية سواء كانت رجعية أو تقدمية .
2- لم يطرح الحزب القضية المباشرة بعد وقوع الانقلاب وهي استعادة الديمقراطية والحريات الأساسية ، ولكنه طرح برنامجا يمكن وصفه بأنه ضوء أخضر لأي انقلاب تقدمي يطيح بالحلقة الرجعية التي باشرت انقلاب 17 نوفمبر ..
لم يحدد الحزب الأداة للإطاحة بالانقلاب مما يشير إلى احتمال الإطاحة بالنظام بانقلاب عسكري ينفذ البرنامج أعلاه . ( بعد فشل أربعة انقلابات عسكرية في مارس 59 ومايو 59 ونوفمبر 59 ... حدد الحزب الأداة للإطاحة بالانقلاب – الإضراب السياسي في أغسطس 1961 .
وربما كان موقف الحزب هذا مستمدا من تحليلات لانقلابات ذات وجهة وطنية وتقدمية وأنجزت تحولات وطنية ضد الإقطاع والاستعمار كما حدث في انقلاب 23 يوليو 1952 في مصر ، وانقلاب العراق في 1958 . والتي تم تأييدها باعتبارها نظم تقدمية وطنية / مناهضة للاستعمار .
أي أن طبيعة الانقلاب هي التي تحدد الموقف منه : المعارضة إذا كان رجعيا ، والتأييد ( المشروط وغير المشروط ) إذا كان وطنيا أو يساريا . أي أن الحزب وقتها لم يبلور موقفا نظريا ومبدئيا متماسكا للدفاع عن الديمقراطية ومعارضا للتفكير الانقلابي من حيث المبدأ سواء كان رجعيا أو تقدميا ، انطلاقا من حقيقة بديهية وهي أن مصادرة الديمقراطية يستحيل معها إنجاز أي تحول وطني ديمقراطي .. ( هذا الموقف تم بلورته لاحقا(. انتهى هذا الاقتباس الطويل.
بيت القصيد لدينا هو ما ذكره الاستاذ تاج السر: (أن طبيعة الانقلاب هي التي تحدد الموقف منه.. إلى آخر ما جاء في الاقتباس)، وهذه في رأينا هي استراتيجية الحزب، أما ما عداها من مواقف فهي تعتبر تكتيكات حزبية تتغير بتغير المواقف والملابسات المحيطة بها، ويمكن ان تجد احيانا بعض التكتيكات المتضاربة نتيجة لتغير المواقف والملابسات المحيطة ، لكنها تصب جميعا في نهاية الامر في خدمة الهدف الاستراتيجي.
على ضوء ما ذكرنا نعود لمايو وموقف الحزب منها، فقد كانت الاجواء السياسية قبل مايو في غاية السوء بالنسبة للحزب بحيث بدا الحزب وكأنه قط محاصر في زاوية، وقد عدد الاستاذ تاج السر بعضا منها في مقاله " الذكرى 51 لانقلاب 25 مايو 1969 " ولخصها في: ( تقويض الديمقراطية وخرق الدستور بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، وانتهاك استقلال القضاء وحكم القانون، والاتجاه لمصادرة الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية باسم الدين والدستور الإسلامي المزيف، وفرض ديكتاتورية مدنية باسم الإسلام ومحاولة إلغاء الجمهورية البرلمانية وفرض الجمهورية الرئاسية بترشيح الهادي المهدي رئيسا للجمهورية مما عمّق حرب الجنوب والانقسام في المجتمع، وفشل الحكومات الائتلافية بعد ثورة أكتوبر في حل مشاكل الجماهير المعيشية والاقتصادية وحكم الردة علي الأستاذ محمود محمد طه.. الخ، من الأسباب التي عددناها في المقال السابق).
ورغم هذا الجو السياسي المحبط للحزب، يرى الاستاذ تاج السر أن الحزب قرر أن يتوسد حبال الصبر وان يمضغ العلقم في سبيل رؤية زهور الديمقراطية تتفتح، ويفوح اريجها على مستقبل البلاد، ونعتقد ان الصواب قد جانبه في هذا الرؤية، وحتى يتضح لماذا نرى ان الصواب قد جانبه، سنتناول هنا الاسباب التي سردها الاستاذ تاج السر ونعلق على كل واحد منها:
اولا:
يقول الاستاذ تاج السر:
لخصت وثيقة "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" ( التقرير السياسي الصادر من المؤتمر الرابع في أكتوبر 1967 ) تجارب النضال ضد ديكتاتورية الفريق إبراهيم عبود ، وجاء فيها أن الحزب قد توصل الي الاضراب السياسي في 1961 م بعد فشل الانقلابات العسكرية في 1959 التي انهكت الحركة الجماهيرية والمعارضة العسكري(
وتعليقنا على هذه النقطة هو:
ان سلاح الإضراب الذي توصل له الحزب كان مجرد تكتيك اقتضته ضرورات المرحلة، بعد فشل عدة محاولات انقلابية، والحقيقة ان الحزب لم يتوصل للإضراب السياسي كسلاح عام 1961 بل جرب هذا السلاح قبل ذلك، ونعود مرة أخرى للأستاذ تاج السر ونذكره بما كتبه في مقاله (تجربة فشل الديمقراطية الأولى في السودان (1953- 1958)، المنشور بمجلة الحوار المتمدن العدد 6555 بتاريخ 5/5/2020:
(من جانب آخر تصاعدت الحركة الجماهيرية التي رفعت راية الوحدة ومقاومة التدخل الاستعماري باسم المعونة الأمريكية، وإلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات، وتشكلت جبهة واسعة داخل وخارج البرلمان، ووصلت المقاومة ذروتها في الإضراب العام التاريخي الذي دعا إليه اتحاد العمال وتمّ تنفيذه يوم 21 أكتوبر 1958، وصحب ذلك الإضراب مظاهرات لا مثيل لضخامتها وتماسكها اشترك فيها العمال والمزارعون والطلاب وصغار التجار، وبدأت الجماهير العاملة تبرز كقوة داعية للديموقراطية والوحدة والتقدم. كما ارتفعت شعارات الوحدة وسط الجماهير المعادية للاستعمار ولحكم اليمين."
إذن جرب الحزب سلاح الإضراب بداية، ثم عاد له بعد فشل الانقلابات العسكرية التي حسب قوله (انهكت الحركة الجماهيرية والمعارضة العسكرية). ويجب ألا نمر مرور الكرام على جملة (المعارضة العسكرية) التي وردت في وثيقة " الماركسية وقضايا الثورة السودانية" ، فكيف سيعارض العسكر بعضهم بعضاً؟ هل سيكون ذلك بالمظاهرات والندوات والأناشيد ومؤتمرات الحوار الوطني؟ كلا وإنما سيكون حوارهم بحد السيف وعلى ايقاعات سنابك الخيل، هذا التعاطف مع المعارضة العسكرية؛ والإنهاك الذي تعرضت له؛ يفيد ان الحزب لا يرى باساً في ذهاب عسكريين ومجيء عسكريين آخرين في محلهم، ويؤكد استراتيجية الحزب في التعامل مع العسكر (أي أن طبيعة الانقلاب هي التي تحدد الموقف منه). وليس الرفض لجوهر الفكرة بكاملها.
ثانيا:
ذكر الاستاذ تاج السر النقاط التالية:
1- رفض عبد الخالق محجوب الدعوة للانقلاب العسكري بالرد في صحيفة "أخبار الاسبوع" على مقال أحمد سليمان الذي كتبه في صحيفة "الأيام" في 1968 الذي كان دعوة صريحة للانقلاب العسكري .
2- جاءت دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في مارس 1969 التي أكدت الرفض للتكتيك الانقلابي والتي جاء فيها:
"أكد تكتيك الحزب الشيوعي أنه لا بديل للعمل الجماهيري ونشاط الجماهير وتنظيمها وإنهاضها لاستكمال الثورة الديمقراطية ،وليس هذا موضوعا سطحيا عابرا فهو يعني أن الحزب الشيوعي يرفض العمل الانقلابي بديلا للنضال الجماهيري الصبور والدؤوب واليومي وبين النضال الجماهيري يمكن أن تُحسم قضية قيادة الثورة ووضعها بين قوى الطبقة العاملة والشيوعية ، وهذا هو الأمر المهم لمستقبل الثورة الديمقراطية في بلادنا. إن التخلي عن هذا الطريق واتخاذ تكتيك الانقلاب هو إجهاض للثورة ونقل لمواقع قيادة الثورة في مستقبلها وحاضرها إلى فئات أخري من البورجوازية والبورجوازية الصغيرة".
3- رفض المكتب السياسي الانقلاب العسكري في اجتماعه في 8 / 5 / 1969.
وتعليقنا على هذه النقاط هو:
كل هذه المواقف المذكورة اعلاه تندرج تحت الإطار التكتيكي، فلن يكون عبد الخالق ساذجا لدرجة أن يؤيد قيام انقلاب في رد على مقال صحفي. حتى وان خلط احد أعضاء الحزب الكبار ما بين الموقف الاستراتيجي والموقف التكتيكي. ثم تهور بإعلان ذلك.
ونفس الشيء ينطبق على دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في مارس 1969، واجتماع المكتب السياسي في مايو 1969، فلن يقامرا بإعطاء أي ضوء اخضر لأي انقلاب عسكري من أي نوع، فهذا النوع من الدورات والاجتماعات تكون مشهودة ومتابعة من وسائل الإعلام كما هو معروف، وكل ما يقال ويكتب فيها يكون عرضة للتحليل الدقيق والدراسة المتأنية من قبل الخصوم.
كما أن المكتب السياسي لأي حزب لا يقرر قيام انقلاب من عدمه، فمسائل الانقلابات تخضع للسرية التامة وتقوم بها جهات محدودة العدد داخل التنظيم وداخل دائرة ضيقة للغاية.
وحتى التنظيمات اليمينية الإسلامية ذات الخبرة الاقل في الشؤون الانقلابية – قياساً بخبرات اليساريين – لا ترتكب خطأ مثل هذا، فانقلاب الإنقاذ في يونيو عام 1989، كان المخططون له ستة اشخاص فقط. و انقلاب هاشم العطا عام 1971، لم يقرره المكتب السياسي للحزب الشيوعي ولا اللجنة المركزية، وتأييدا لما نقول نسوق ما هو منشور في موقع الحزب الشيوعي وتحت عنوان: (الذكري 47 لانقلاب 19 يوليو 1971)، بتاريخ 19/7/2018 كتب الاستاذ تاج السر عثمان: ( أشارت دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في سبتمبر/ نوفمبر 1971م، إلي أن 19 يوليو يتحمل مسؤولية شرف تنظيمها الضباط الأحرار، ومساهمة الحزب الشيوعي تتمثل في تأييدها، وضرورة استخلاص دروسها لتطوير عمل الحزب الثوري في المستقبل، كما تحمل الحزب كل مسؤولية التأييد من: استشهاد، وسجن، وتشريد من العمل وقمع..الخ).
إذن وفقاً لهذه الرواية أن شرف التنظيم قام به الضباط الأحرار ولا وجود للمكتب السياسي للحزب ولا لجنته المركزية في اتخاذ قرار الانقلاب علانية، ربما كان الأمر تم بصورة سرية ولذا تحمل الحزب ما ترتب على ذلك من نتائج.
في نقطة أخرى ذكر الاستاذ تاج السر:
)في رواية المرحوم الجزولي سعيد لكاتب هذا السطور، تمّ اجتماع بين العقيد جعفر النميري مع عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ ومحمد إبراهيم نقد في منزل بالخرطوم (2) ، طرح فيه النميري فكرة الانقلاب، و كان الرد رفض الحزب الشيوعي لفكرة الانقلاب الذي ستكون له آثار ضارة علي العمل الجماهيري).
هذا ما ذكره الاستاذ تاج السر، لكن هذه الواقعة أي الاجتماع مع العقيد النميري تؤدي إلى إثارة عدة اسئلة:
1- لماذا اختار النميري الحزب الشيوعي تحديدا ليطرح عليه فكرة الانقلاب؟
والسؤال الثاني الذي سنطرحه وهو الأكثر خطورة:
2- اليس من واجب الحزب وهو يرى هذا الخطر الوشيك الذي يهدد النظام الديمقراطي ويقوض الدستور ان يقوم بإبلاغ اجهزة الاستخبارات الحكومية وينبهها الى ما يحاك في السر من تآمر على الديمقراطية؟
3- اليس من الأولى به ومن باب الحيطة والحذر؛ حتى لو لم يقع انقلاب؛ ان يحثها على أخذ أهبتها وعمل الاستعداد اللازم إن كان حريصاً فعلاً على النظام الديمقراطي مهما كانت عيوبه وعيوب المشاركين فيه؟
4- الا يعتبر صمت الحزب نوع من التواطؤ والتستر على جريمة سوف تقع؟
وقد وقعت بالفعل.
ونترك هذه الاسئلة لنشاهد كارثة أخرى تورط فيها الحزب، فقد أورد تاج السر في دفاعه وهو يريد ان يقول ان عبد الخالق كان من الرافضين للانقلاب المتوقع، ولكن استاذنا تاج السر (جاط) الموضوع وانطبق عليه قول القائل (اراد أن يكحلها فعماها)، يقول الاستاذ تاج السر:
( في رواية حسن التاج عن اللحظات الأخيرة التي سبقت انقلاب 25 مايو التي كان فيها مع عشاء مع عبد الخالق محجوب، انه حضر لعبد الخالق كل من بابكر كرار رئيس الحزب الاشتراكي الإسلامي ، ونائبه عبد الله زكريا، ومحمد عبد الحليم، القومي العربي، الضابط السابق في الجيش المصري ومدير عام بنك مصر في السودان، وطلبوا منه أسباب رفض الانقلاب المتوقع، أوضح عبد الخالق: أن الحزب الشيوعي ضد الانقلابات للوصول للسلطة لأنها تلغي دور الجماهير، كما انه من ينقلب يتم الانقلاب عليه ، كل انقلاب داخله انقلاب.
يواصل حسن التاج : وجاء طارق آخر للباب وأخطر عبد الخالق بأن الجماعة صمموا وعملوها دا جعفر نميري، وسيدخلون أم درمان، وطلب التأييد، وكرر له عبد الخالق راي الحزب ( رفض الانقلاب)، واذا نجح الانقلاب سيكون القرار للمكتب السياسي(.
تعليقنا على هذه المعلومات كما ذكرنا بانها كارثة حقيقية، وفي الحقيقة شهادة خطيرة، إن صحت، فكيف يقبل الحزب الشيوعي وجود شخص غير سوداني يتفاوض معه حول اسباب رفضهم لانقلاب من المحتمل وقوعه؟؟؟ كيف يقبل السكرتير العام للحزب تدخل جهة اجنبية في امور تخص نظام الحكم في البلاد؟
وتطلب التأييد لهذه الجهة أو تلك؟ وما علاقة مدير بنك مصر في السودان بالأمور السياسية والشؤون الداخلية السودانية؟
لو كان هذا الشخص صحفياً وتناول شأن الانقلاب (بعد وقوعه) مع عبد الخالق ولماذا رفض أو لماذا أيد فسيكون الموضوع عادياً جداً، ولا توجد أدنى ذرة من الغبار عليه.
في نفس السياق علينا ملاحظة الجملة التالية (وكرر له عبد الخالق رأي الحزب (رفض الإنقلاب) وإذا نجح الانقلاب سيكون القرار للمكتب السياسي)، والتساؤل هو: هل للمكتب السياسي قرار غير قرار الحزب؟ ومن الذي يقود الاخر؟ نقول أن الأمر لم يكن أكثر من تضارب تكتيكات، فقد اعلن عبد الخالق لهم رفض الانقلاب تحسباً لتبعات فشله، وحينها لم يتبين الخيط الأبيض من الخيط الاسود ، فلما جاء الطارق الآخر للمنزل وقد بانت الألوان واخطره بنجاح الانقلاب وان الجماعة صمموا وعملوها، انتقل عبد الخالق للموقف التكتيكي الثاني وهو ترك الباب موارباً لقطف ثمار النجاح فاختار ترك الأمر للمكتب السياسي ليقرر الخطوة التالية. هذا ما كان من أمر عبد الخالق.
نعود للأستاذ تاج السر والذي واصل السير في سبيل التنصل من انقلاب مايو وقرر انه لابد من تقديم متهم، إذ لا يمكن ان تقيد هذه الجريمة ضد مجهول، فكان هذا المتهم هم القوميون العرب.
ذكر الاستاذ تاج السر عن ( شهادة مولانا بابكر عوض الله في رده علي افادة أحمد سلمان في جريدة "أخبار اليوم" بالعدد 3429 ، أكد بابكر عوض الله وهو من القوميين العرب المدبرين والمشاركين في انقلاب 25 مايو الذي حاول فيها أحمد سلمان أن يربط بين الحزب الشيوعي وحركة ( انقلاب) مايو، أشار بابكر عوض الله الي الآتي:
1- الضباط الذين قاموا بمايو كانوا يرفضون أي ارتباط بأي حزب بما فيه
الحزب الشيوعي(.
2- الحزب الشيوعي كان أبعد الأحزاب عن الحركة ( الانقلاب من كاتب السطور)، وكان ضدها ، وهذا ما دفعني نهار 24 مايو بعد تسجيل كلمتي التي أُذيعت الي الذهاب الي المرحوم عبد الخالق محجوب عن توجهات الحركة، التي ترفض الانتماء للحزب الشيوعي أو الارتباط به ، فثار عبد الخالق ثورة عارمة وقال لي: عايزين ترجعونا لحكم العسكر تاني، والله لو أعلنتم الارتباط بالحزب الشيوعي دون غيره لرفضناه، ونحن الآن سائرون في الطريق الممهد للديمقراطية والتي لا تستند لأحزاب طائفية) انتهي الاقتباس.
نعلق على هذه النقطة بالقول: علينا أن نلاحظ أن الضباط هم الذين يرفضون ومعهم كامل حركتهم، ولكن هل كان الحزب الشيوعي يرفض ذلك الارتباط؟ كلا بدليل أنه شارك في مجلس قيادة الثورة بثلاثة اعضاء هم المقدم بابكر النور سوار الدهب، والرائد فاروق عثمان حمد الله، والرائد هاشم العطا، واربعة وزراء هم موريس سدرة وزير الصحة، ومحجوب عثمان وزير الإرشاد القومي، وفاروق ابو عيسى وزير شؤون الرئاسة وجوزيف قرنق وزير التموين.
وعلينا أن ننتبه لجملة غريبة ذكرها عبد الخالق وهي: (ونحن الآن سائرون في الطريق الممهد للديمقراطية والتي لا تستند لأحزاب طائفية)، هذه الجملة غريبة لأن الديمقراطية الليبرالية لا يهمها كثيراً نوع الحزب طالما أنه حزب شرعي، لا يهمها إن كان طائفياً أو مهنياً أو جهوياً أو حتى لو كان حزب مشكل من (اولاد الحي) أو من مرتادي الخمارات البلدية، ما يهمها هو عدد الاصوات التي ينالها الحزب وعدد مقاعده في البرلمان، ومقدرته على تشكيل الحكومة اما منفردا أو مؤتلفا مع آخرين.
والسؤال: ما هو يا ترى نوع هذه الديمقراطية التي لا تستند لأحزاب طائفية التي كانت بذهن عبد الخالق؟
ويورد الاستاذ تاج السر في رحلة بحثه عن متهم شهادة محمد احمد محجوب وفيها:
( في رواية محمد أحمد المحجوب في "كتابه الديمقراطية في الميزان" أشار الي أن بعد الانقلاب تحققت من أن الانقلاب العسكري الذي أطاح حكمي ، قد خُطط له بالاشتراك مع عبد الناصر ، فقد علمت أنه استقبل ثلاثة سودانيين في القاهرة ، ورتب المؤامرة بواسطة رجاله في الخرطوم ، وقد اعتبرت ذلك طعنة في الظهر) ويمضى الاستاذ تاج السر في تحليل هذه الرواية بالقول:
(الواقع أن بابكر عوض الله كان عضوا في حركة القوميين العرب مع عدد من الضباط الذين نفذوا الانقلاب والأعضاء المدنيين كانوا ينتمون للقوميين العرب، مما يؤكد رواية المحجوب، أن انقلاب 25 مايو خطط له ونفذه بشكل رئيسي القوميون العرب(.
نختم هذا الرد بالقول أن المسؤولية في انقلاب مايو 1969م لا تقع على من خطط أو من نفذ فقط ولكن على من شارك ايضا واوجف بخيله وركابه.
ولو قبلنا بالقول ان الحزب الشيوعي ما خطط ولا نفذ الانقلاب وكان له من الرافضين فكيف يفسر لنا بسط جناحيه على مايو في عهدها الأحمر، وكيف يفسر لنا مسيرات التأييد الحاشدة وأولها كان في الثاني من يونيو عام 1969، وقد حشد فيه الحزب الشيوعي ما حشد لإخراج الموكب بأضخم صورة ممكنة.
كيف يفسر لنا شعر محجوب شريف:
انت يا مايو الخلاص
يا جدارا من رصاص
يا حبالاً للقصاص
اعتراف الحزب بتحمل مسؤولية انقلاب عام 1971 (التصحيحي)، خطوة في الطريق الصحيح، يستفاد منها أن الفكر الانقلابي ليس غريبا على الحزب، وأن الحزب رأى في انقلاب هاشم انه شيوعي كامل الدسم ورأى انه يمثله.
نخلص في نهاية هذا الرد إلى أن الاحزاب العقائدية في السودان تتبنى الفكر الانقلابي، ويشمل ذلك تنظيمات الاخوان المسلمين، والتنظيمات اليسارية، وفيها الشيوعيون والبعثيون والناصريون، فقد انكر الشيوعيون مايو 1969م ولكنهم اقروا بانقلاب يوليو 1971م، ونفذ البعثيون انقلابات في سوريا والعراق، وأتي عبد الناصر إلى الحكم بعد تنفيذه انقلابا في مصر عام 1952م.
وعلى هؤلاء جميعهم قبل ان يبشروننا بديمقراطية موعودة الاعتراف بالماضي الانقلابي مع الجهر بالتوبة. حتى لا نبقى دائرين في فلك (الشينة منكورة).


nakhla@hotmail.com

 

آراء