يا حانة مفروشةٌ بالرمل يا مكحولة العينين يا مجدولة من شعر أغنية يا وردة بالليل مسقية بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت يا مملوءة الساقين أطفالا خلاسين يا بعض زنجية يا بعض عربية وبعض أقوالي أمام الله
محمد المكي إبراهيم
(1) لم تكن هي مريم اليتيمة التي توفي والدها عمران، وهي في بطن أمها حنة بنت فاقوذا. فكانت أمها لا تستطيع تربيتها لكبر سنها. فكان كل شخص يريد أن يحظى بكفالتها فعمران أبو مريم كان معلمهم ومن درّسهم دينهم وذا أفضال عليهم. فهي لم تكن مريم المجدلية التي ظهرت في لوحة الفنان الإيطالي ليوناردو دا فينشي، إلى جوار السيد المسيح في العشاء الأخير. ولم تكن من هذا القبيل أو ذاك.
(2) لم أصدّق ما تصفحته عيناي من وصف بليغ ومفصل، يكاد العرق يطفُر من وجهي وأنا قارئ ، وأجد ما يمنعني من حُجب الكلام، حتى كدت ألفظ ( ما أنا بقارئ). جاء ذكر مريام، كأنها لاعبة مهرها كيد القلوب، على صهوة فرس جامح، لن تلحق به لو ركبت بُراق مسرى النبوة ذات ليل. سرق الكاتب الدبلوماسي جمال محمد أحمد في سفرة ( عرب وأفارقة)، من ليل قمة الرؤساء الأفارقة 1963، وكأنها وصف خرافة في الأساطير. مريام دبلوماسية لرئيسها أحمد سيكوتوري، عندما كان رئيساً لغينيا بعد استقلالها. تتلاعب بالوظائف والموظفين، فهي امرأة أمن وأسرار، وهي دبلوماسية من منازلهم، وهي غاوية للرجال، مطموسة الشهوة، نبيلة النظر والمُحيا، هي بعض أقوال الوصاف أمام الله. * أرفدت مريام رافدا جديدا على الدبلوماسية، لها في التاريخ مسمى آخر، متنوعة الأهواء، فيها شيء من حتى. وقصر مشيّد على قوس مشدود على نشوة الرجال، حين تغرر بهم اللحظة الهاربة. هنا للخيال وسامته في بطن الحكاية، وللقص رقعة كفكفها الحنو وسكب ماء باردا على الجروح، وخطّها قلمٌ من نسيج قدم التاريخ. يحكي سلطان المرأة على قلوب الرجال. مناصفة بين عقل يفكر ونُذر تميل أمطارها على رغبات الرجال، عندما تهمين عليهم نزوة من نزوات واقع مزدحم المشاغل والأعمال، يرغب المرء أن يفر منه فرار الذي يعشق الراحة من سفرٍ غلاب متعب، يهد جبال النفس. سطّر جمال محمد أحمد صفحات حفّها سيرة امرأة، كما يحف النيل بطيوره المغردة عند الصباح. وصف جمال محمد أحمد، جانبا من يوم قضاه كدبلوماسي، رافق الوفد الرئاسي للقمة الإفريقية عام 1963 في أديس أبابا. أفرد فيه لمريام صفحات مضيئة بعتمة، تختلط بالغموض والوضوح وبعض الخفايا العظام، تختفي فيها الصور المُشتهاة ، وتنبع من كلمات وصفه صورة أخرى لرفاق المهنة في تداعيهم، بطبيعة ما اعتادت تواريخ الدبلوماسية عبر تاريخها أن تتحدث. جزء من المتابعة اللصيقة، بوسائل ترصد الأنثى حين تغامر. يشتد ساعد الأحداث ، تغفو ثم تنوم ملئ جفونها.
(3) نقتبس من سِفر جمال محمد أحمد ما ورد بشأن مريم في يوم من أيام قمة رؤساء أفارقة في أديس أبابا عام 1963:
{قال " الأفريقي متعته المرأة .. الإفريقية شغلتها الرجل" . قلت " هذا ينطبق على الناس في كل مكان" قال" الفرق أن الإفريقي لا يخفي هذه الخلة، لا يحسبها سرا من الأسرار، يمارسه في الخلوات والحُجرات بعيدا عن أعين الرقباء". عرفت من فرحته أن في الأمر امرأة. وما أبعدت في ظني. * خرجنا للحديقة الكبيرة أمام وخلف فيلا الرئيس نكروما، على طريق تقود لمدخل إضافة الإمبراطور لمداخل اللجنة الاقتصادية حيث تعقد جلسات المؤتمر، ولدى الباب تلقتنا مريام، أسرع كوفي يُعرفني بها، فقالت وقُلت في نفسٍ واحد: " التقينا"، وقال "متى؟ ، " قالت مريام " نحن الكادحون هُنا منذ أسبوعين، أنتم الكُبراء جئتم أمس". وأحنت رأسها في عبث عابث " يا سيدي المستشار". قلت وقد جزعت من ألا أشركها الحديث، يستأثران به دوني " وأعدنا لكم فكركم. هيأنا لكم كل الذي ينبغي أن تقوله". وأمسك بكفها وكفي أنا صديقنا كوفي، لنفسح الطريق من على الباب، وسار ممسكا بنا للصالة الطويلة خلف القاعة الكبرى، وهو يُلاحينا يحدثنا عن رجل الإعلام، يصوغ أفكار الرؤساء والوزراء. كلمات هي التي تبعث الحياة في الأفكار. إنهم المبدعون، لا نحن الذين نقضي الليالي لنستقر على رأي. الكلمة تخرج الرأي ضوء ينير إن أردت، ومسخا من القول تنساه بعد سماعه أو قراءته. وجلست مريام على أريكة وقربها على مقعد جلست، ووضعت مريام ملفا كان في يدها على الشطر الآخر في الأريكة يجلس عليه كوفي، حين يعود من المقهى. وكان قد ذهب إليه. * قالت لي مريام، وقد ابتلع الزحام كوفي " السلام عليكم". سألتها إن كانت تعرف أكثر، فقد سمعتُ هذه التحية مرات منها، قالت آسية حزينة أنّى لها. كانت تروح " الزاوية " الخلوّة. تجلس على حصير تردد ما يقرأ عليها المُرابط من آيات القرآن{ بسم الله الرحمن الرحيم، قُل أعوذ برب الفلق ...} قرأتها في عناءٍ ولحن، وكانت تختلف لمدارس الفرنسيين فتسمع عن القرآن وبالعربية، تتحرّق لهذه اللغة التي تُحدثها عنها معلمتها الفرنسية، وعن حضارة حملتها هذه اللغة القرون في أحشائها، وثقافة غالبت جحافل القهر. ولا سبيل لمريام إليها. تغار من معلمتها وعلى ذاتها تتحسر. كانت بهذه اللغة الفاتنة أولى. عيناها في عيني تُطيل النظر. وقفت الحدقتان. أحسّ برشقات توجع القلب. أقول كلاما لا يفيد عن أزمة القرآن وأزمات لغته. مريام في الذي بان لي من بعد، ما كانت إفريقية شُغلتها الرجل، وإن كانت أنوثتها حولها تلفها تجعلك تذكر:" وعبدناك يا جمال وصغنا .."، نعت على المرابطين خمول ذهنهم. ما أجهدوا أنفسهم ليعرفوا الذي يقرأون. حفظوا القرآن كله عن ظهر قلب، عنهم حفظت هي ولدّاتها القليل الذي تيسر، لتصلي. نعت على المرابطين. أنها فئة أغوتها فرنسا، اتخذتها درعا لغاياتها الاقتصادية والثقافية، وأنستها الذي كان من أمر أسلافها بعيش فتات، وكان عيشا رافها إن قسته بعيش أهلها في " التكلات" وفي الصحراء. * زاد الضيق مريام حسنا. أثارها ما تقول. أمسكت كفي بكفها اللدن وأصابعها الناعمة في أصابعي، صرفني أساها عن مفاتنها الآخذة، ولمحت كوفي يقترب في يديه صينية وأحسست بأني أعمل على فكاك، وأنها تعمل على ارتباط أوثق، ومضت في حديثها وكوفي يضع أمامها قهوتها وأمامي قهوتي، وأخذت من على الأريكة، جلس جنبها كوفي وهي تقول لي على مسمع منه، إننا نحن العرب نستحي من أننا مسلمون. مالنا أمر. استخذينا - وهذه كلمتها- أمام سيف وثقافة أوربا. وأكثر المسلمين، سامحني، مخاطبة إياي استخذاء العرب المسلمون في القارة الإفريقية أعزّ نفرا ونفسا. كان المسلم الإفريقي يهاجم الأوربي لأنه يعرف تاريخ رفضهم له، يخشى الأوربي أن تعود أيام أشياخهم الحاج عمر، والشيخ توري مثلا. كان صديقي كوفي يستمع، كله أذن تصغى، قال مازحا إنه يعرفني منذ كانت هي صبية "حاذري". إنه ذئب، طوقتني مريام بذراعها. كنا قريبان. هي على الأريكة وأنا على المقعد. قربها. قالت "استغفر الله" . كان لحنا. كان خير كلام. ما كانت تجزع له، لا يصرفها عن عملها السياسي ما يقول واحد، أي واحد، عن عذوبتها. ذاك تعرفه، وسمعته مرات ومرات في كل عاصمة إفريقية، صحبت فيها رئيسها سيكوتوري واثقة، " ليست لشيء آخر الليلة تسهر". ما عناها هذره عن الذئب. ما كانت في الذي رأيت، إلا طروبة للذئاب، أنثى كاملة. خياره لكن. * بدأ الأسى على عينيها وهي تقابل في ذهنها بين المسلم الإفريقي والمسلم العربي، وكرهت الضعف أمام كوفي، أهاجها ما تقول " هزت رأسها تطرد ما ازدحم فيه، لتعود لحديث السياسة ، تسأل عن الذي كان يدور بيننا في فيلا الرئيس وعن الذي عرفنا، سمعنا في لقاءاتنا مع الوفود الأخرى. ما كان في حديث السياسة ما تخجل له، تخفيه. أوجزنا لها الذي انتهينا إليه، وبان الرضا على وجهها، وقالت أنها انتهت لهذا الذي انتهينا إليه... وظفرت به مريام على صعيد آخر، غير الصعيد السياسي، وما كنت أعرف أنها تهوى الفرائس. تجمع الرؤوس المتدحرجة من على أكتافها، كما كان يفعل بالرؤوس هولاكو. تجلس على قمتها تضحك. كما يفعل نيرون، يغير أنغام نأيه كلما بقر بطنا من بطون أصحابه وأعدائه سبعٌ من السباع في الكلوزيوم. كان كوفي يسمع لا تفطن. عيناه لا تستقران في حدقتيهما. ترعاهما مريام بعين مغمضة وأخرى أهدابها عليها مسدلة، وأضواء النيون في الصالون الكبير، أبهر من ضوء الظهيرة، تبيّن كل شيء أضعافا مضاعفة في الحجم. في جوف مريام غريزة عابثة بشهوات الرجال، أدركت أن صديقي كوفي واحد ممن يرون كل فستان امرأة هلوك. راحت تمتع نفسها بلعبتها بأشباهه من أهل الشبق الغافل. رأى صديقي ساقين ممتلئين لا أعرف كيف تأتى لمريام أن تمدهما مدا على ثيابها الممسكة، وتستقر عليها عينا كوفي. فتقفز على عجل تهز خصرها، وتجلس على نحو يرى فيه كوفي عجزا لا يراه في بلاده ذات العجز الركام. كانت مريام "ريا الروادف غادة الصلب". رأى ما خيل له أنه صغير لا يملأ كفيه إن هو أمسك به، ولم تتح له مريام أن يسير مع خياله. أقبلت عليه، فإذا هو أمام صدر يعتدي على كل عرق فيه، ثديان ينفرجان عند قميص يجهد نفسه يمسكهما عليه، يلهث من نفورهما وثورتهما عليه، ولمثل هذا اصطنع الرجل القميص واصطنعته المرأة. ساترا لقبحه حافظا قيما على محاسنها، وكان قميص مريام "خلطة" من ألوان إفريقيا البهيجة، تزيدها بهجة "قصة" باريس. مريام خلاصة لقاء الحُسن الإفريقي بالصنعة الأوربية. * عفريت بداخلها تلذه عذابات الرجال، وما كانت واحدة من اللائي يقضين أحسن أوقات المساء والليل في حديث لا يغني. مريام تعرف أن الأرض تحت أقدامها ثابتة. تختار من ترى فيه كفاءة لها في الذكاء والشهوة، وكان كوفي ابن حضارته وأنف اكستر راغم. ما رأي حضارة مريام إلا حين سمعها تقول لي شيئا مما قاله هو عن ثقافة وحضارة العرب، لا تجيئهم في القارة إلا عبر ترجمات يختارها العاشقون لهذه الحضارة والثقافة، والإخلال كتب يكتبها المختصون للمختصين، عسيرة على من لا يعرف الأوليات. فرغت من نهم عفريتها العابث، أشبعته إشباعا يتلوى تحت أقدامها كوفي، أسير عجز مريام. أقبلت نحوي تقول في حياء لا أثر لصنعة فيه، إن وفدها سيسعد حين يسمع منها الذي انتهينا إليه من رأي، واعتدلت هي قائمة" السلام عليكم" ومشينا ثلاثتنا نتفرق.}