مذكرات مرتضى أحمد إبراهيم عن منصور خالد
المهندس "مرتضى أحمد إبراهيم " و الدكتور" منصور خالد "، و الدكتور " جعفر محمد علي بخيت " و" الدكتور محمد عبد الحي" و الأستاذ " جمال محمد أحمد " ودكتور" أبو ساق" ودكتور "حسن عابدين " و" إبراهيم منعم منصور"، وسلسلة غيرهم من أصحاب الكفاءات، استجارت بهم السلطة الانقلابية في 25 مايو 1969 ليسندوها بإشغالهم الوزارات، في وقت انقسمت عواطفهم، ما بين أن يقدموا ما في وسعهم من معارف، في شق طريق أفضل للوطن وفق رؤاهم، ودعمهم نظام دكتاتوري، يتخذوا بما يستطيعون من سطوة مستحقة للعمل العام، ومن جهة ثالثة بالطموح الشخصي لرد دَيّن الوطن، ولكن من تحت عباءة نظام حاكم غير ديمقراطي، جاء من إعسار نظام ديمقراطي لم يزل على بداوته وعشوائيته وقبليته المُفرطة، ليس بقادر على استحداث رؤيا التجديد لإدارة وطن ودفعه نحو التطور، وطن متنوع الشعوب والأعراق والثقافات، مكنوز بثروات مطمورة لا يعرف أحد أفقاً لها، وبين أن يسوِّقوا لنظامٍ: جاء بليل العسكر لا خبرة لديهم، ولا أحد يعرف لأصحابها رؤى، حين بدأوا حياتهم السلطانية.
*
تلك قصة وللأسف متكررة في تاريخ معظم الدول الأفريقية، ولم تزل متداولة في وطننا السودان. ولم يزل كثير من المتعلمين عندنا لا يفرقون بين الوظيفة الفنية والوظيفة السياسية، لأن الوظيفة السياسية تُرسّخ النظام الحاكم، وهي صورة مفضوحة لكيف يصعد الوزراء، بوعي أو بدونه، فإنهم يدعمون النظام العسكري، ويقيمون له أسسا في مصائر الشعوب. لن يذهب الواحد منهم ساعة اعفائه لبيته دون مساءلة تاريخية: لم فعل ما فعل؟ هل هو إرضاء لطموح فردي، وخبرة سياسية لمن لا تتيسر له الظروف، أم هي قفزة نحو الهاوية؟. وسيظل تلك الأسئلة تراوح مكانا دون إجابات شافية.
(2)
المهندس مرتضى أحمد إبراهيم، الحائز على زمالة المهندسين الألمان و الحائز على زمالة المهندسين البريطانيين، ومن تاريخه أذ تم تعيينه مهندسا مقيما لمحطة ضخ الحاج عبدالله، ثم مهندسا مقيما لمشروع محطة توليد الكهرباء من خزان سنار، ثم الخبير في برنامج الأمم المتحدة للتنمية. وبعد انقلاب 25 مايو تم تعيينه وزيرا للري إلى انقلاب 19 يوليو1971.
*
لم أزل أذكر المهندس مرتضى أحمد إبراهيم، إذ عملت بمكتبه الاستشاري بشارع البلدية بالخرطوم كمتدرب هندسي، أثناء تصميم المكتب لسينما مغلقة تحت الإشراف المباشر للمهندس صلاح جارالله، وموقعها بمنطقة الخرطوم بحري عام 1975. ثم تمّ تعيين المهندس مرتضى أحمد إبراهيم، بعد ذلك كمستشار هندسي للصندوق الكويتي للتنمية العربية, وغادر السودان للكويت، ولم أقابله من بعد إلى حين رحيله عام 2011. ومذكراته ( الوزير المتمرد) صورة مبسطة لإنجازه كمهندس وخبراته وكوزير للري: مشروع الجمّوعية ومشروع سوبا ومشروع السوكي، ومشروع الرهد، و الأخير سار في طريق التنفيذ، إلى أن أوقفه النميري فجأة، وتلك من المشروعات الرائدة خلال فترة وزارته، إضافة لأسرار نظام انقلاب 25 مايو 1969، وكافة الإضاءات وإخفاقات التي صاحبت مسيرة 25مايو. وحده الأستاذ فاروق عبد الرحمن عيسى وهو دبلوماسي سابق يقيم في لندن، الذي اعترض على ما ورد بشأن منصور خالد في اعتراضه على أن مرتضى قد بصق على منصور حين إداء القسم، في حين أنه ذكر فعل ذلك أثناء اجتماع تعديل مجلس الوزراء الأول، عندما لمس قدر التآمر على أقدار الرجال، أن فريق من الإعلام جاء بأمر منصور خالد ليصور التعديل الوزاري. في حين أن اتهام بروفيسور عبدالله علي إبراهيم لدكتور منصور خالد بعمالته للمخابرات الأمريكية، التي لم يستطع إثباتها.
*
ولكن المهندس مرتضى أشار بصورة سالبة عن شخصية الدكتور منصور خالد، بأنه رجل المؤامرات والملق هو وعمر الحاج موسى- الذي كان يشغل وزير الإعلام بعد التعديل الوزاري الأول في حكومة انقلاب 25 مايو- وهو يوضح وجها آخر من مصداقية التعبير الذي تحدث عنه منصور في كتبه: ( نحن الذين صنعوا الدكتاتور) الذي اعترف به منصور في الإقرار بفشل النُخبة، وفي محاولته أيضا غسل شخصيته من تاريخ العمل الوزاري مع الديكتاتوريين. نورد بعضا من تلك المثالب في الآتي من المقال.
(3)
(مذكرات مأمون أحمد إبراهيم) صفحة 109:
{عندما دخلت إلى مبنى رئاسة القوات المسلحة. قابلني منصور خالد خارجا. بعد التحية والسلام سألته عن مكتب الرئيس، إذ كنت ذاهبا إليه لأعرف حقيقة ما يجري من قتال في الجزيرة "أبا". فنصحني منصور ألا أذهب قائلا أن الرئيس مشغول بإدارة المعركة ومتوتر الأعصاب ولا يظنه يرغب في استقبال أحد. فلم أهتم بما قاله إذ أني كنت أحتقره لتطبيله وتأليهه للرئيس، وواصلت سيري نحو المكتب. دخلت عليه مسلما وجلست أمامه. ولاحظت فورا أنه يعبث بتثقيب غطاء الجوخ الأخضر الذي على مكتبه بواسطة فتاحة الخطابات الحديدية بعصبية واضطراب. فقلت له " أيه يا ريس الحكاية؟" رد قائلا " حكاية أيه؟؟ قلت " الحرب دي طالت والناس بتسألنا عن الحاصل" فرد في غضب وانفعال " أنتو فاكرين الحكاية دي لعب. ديل ستين ألف مقاتل مسلح". قلت: ديل يطلعوا مين؟ قال: " الأنصار. أنتم فاكرنهم حاجة سهلة. دا جيش. قلت " جيش بتاع مين وأنصار أيه. ولا إنت عاوز تخوفني. دا كلام تقوله ياريس. وأنت القائد. أحسن نقول الحقيقة للناس لأن الشائعات مالية البلد. وضررها أكبر وأخطر من الستين ألف أنصاري". وظل ينظر إليّ في استخفاف، بل أظنه لم يكن يستمع إلي .فالهلع والخوف كانا يملآن قلبه وكل ما يحيط به. ولم يكن يود أن أواصل حديثي معه بل شعرت بأنه يفضل خروجي. فودعت وخرجت. والشك يملأني. في قدرته وتماسك أعصابه. وحسن تقديره في وقت الشدائد. حتى في مجال عسكريّته. وقد علمت فيما بعد أنه كان ينوي الدخول في مساومات مع الأنصار. لولا ضغوط وتدخلات حَسمت الموقف. كما كان لقيادة أبو القاسم محمد إبراهيم للمعركة وحسمها في عنف، الأثر الكبير في إنهاء مقاومة الأنصار بهروب زعيمهم الهادي المهدي. وما تبع ذلك من هجوم فاشل للأنصار في ود نوباوي بأم درمان.}
(4)
ورد في ص 106من المذكرات السابقة:
أذكر بعد عودتي من عنتبّي أن قالت لي شقيقتي فاطمة، محتجة على تعيين الدكتور منصور خالد وزيرا للشباب والرياضة، بأن هناك قولا بأن منصور خالد عميل للمخابرات الأمريكية، وأنه منذ أن كان طالبا في الجامعة كان موضع ارتياب، فقلت لها ربما هداه الله وعاد إلى رشده ، إذ أني سمعت بأنه كتب مقالا يهاجم فيه حل الحزب الشيوعي، فردت علي قائلة " ليس هناك شخص سيء يصبح طيبا. ولكن بإمكان الطيب أن يتدهور ويسوء". في اليوم التالي ذهبت إلى مكتب رئيس الوزراء وهناك وجدت الدكتور منصور خالد جالسا أمامه ويتحدث إليه، ولم أكن أعرفه . وعندما لاحظ السيد بابكر ذلك قام بمهمة التعريف. وبدا لي بأن الدكتور منصور خالد الذي كان يعمل في منظمة اليونسكو حلت به نفس الظروف التي وقعت فيها عندما استدعيت من عملي مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية، وربما كان يطلب إعفاءات جمركية لسيارته وممتلكاته الشخصية عندما يحضرها إلى السودان. لهذا أشار عليه السيد بابكر عوض الله بأن يذهب معي إلى جانب من مكتبه الكبير لأحدثه في الأمر. فعلنا ذلك وفي حديثي مع الدكتور منصور سألته عن كيفية إنهائه لعمله مع اليونسكو. فقال لي أنه اتفق معهم على أن يقبل المنصب الوزاري، فإذا حدث أمر ما وتغير الوضع أو أعفي من منصبه يعاد إلى وظيفته معهم حيث أنه غير واثق بأن هذا الوضع سيستمر طويلا، فنظرت إليه في احتقار. وعندما سألني ماذا فعلت أنا عندما أنهيت عملي في عنتبّي. قلت له أني أنهيت كل صلة لي بعملي السابق وأني مع هذا الوضع قلبا وقالبا، وإذا راح في داهية فأنا ذاهب معه في ستين داهية ولن أدبر لنفسي مخرجا خاصا بي قبل أن أبدأ في العمل أو حتى أفكر مجرد تفكير بذلك. ومن يومها لم أجد في نفسي سوى الاحتقار.
(5)
ورد في ص117- 118 من مذكرات السابقة:
دخلت القاعة الكبيرة وكان الجميع جالسين. ووجدت مقعدا خاليا بالقرب من الأخ والصديق عبد الكريم ميرغني وزير التخطيط جلست عليه. تحدث السيد بابكر عوض الله قائلا" إن الثورة دائمة الحركة، والثورة لا تعرف التوقف والسكون والثوار في درب الثورة يتبادلون المواقع من أجل الثورة وتقويتها ودعم مسيرتها. ومن هذا المنطلق تخليت عن رئاسة مجلس الوزراء للأخ الرئيس القائد ليصبح رئيسا للمجلسين، لتتوحد القيادة وتنتظم الخطوة للأمام". ثم تحدث بعده النميري شاكرا له مواقفه الشجاعة وتفهمه للثورة وأهدافها، ومتطلباتها في كل مرحلة. ثم شكر الوزراء الذين تقرر إعفاؤهم، وتمنى لهم التوفيق في مناصبهم الجديدة. ثم رحب بالثوار الذين دخلوا المجلس مؤكدا ولاءهم ودعمهم للمسيرة كما اقتضت بذلك المرحلة الجديدة. تحدث بعده الدكتور محي الدين صابر وزير التربية والتعليم مؤيدا التعديل ومؤكدا أنها خطوة في الاتجاه الصحيح، وفي أثناء ذلك لاحظت الدكتور منصور خالد وزير الشباب والرياضة ، الذي كان يجلس في المقعد الملاصق لمقعد عبد الكريم ميرغني من الجانب الآخر ، يومئ لرجال الإعلام في جهازي الإذاعة والتلفزيون للدخول إلى القاعة الاجتماع، كما لاحظت أيضا أنه أخرج ورقة من جيبه. ثم وقف فجأة وذهب إلى النميري وسلمه الورقة. وهنا وضحت لي المؤامرة كاملة.
عاد منصور خالد وجلس في مقعده. في تلك اللحظة لم أستطع أن أتمالك مشاعري وتملكني غضب شديد. تأكد لي بأن هناك طبخة تم إعدادها، وأنا وغيري من الذين لا يعرفون العمل في الظلام غير فاطنين لها وإننا أصبحنا " طراطير" معهم. ما كان مني إلا أن وقفت فجأة، ودون طلب الإذن بالحديث التفت أولا نحو مقعد منصور، وانحنيت نحوه وبصقت في وجهه. ثم انتصبت واقفا وبدأت حديثي في غضب وانفعال شديد مخاطبا النميري وبابكر عوض الله قائلا:" يعني الحكاية كلها مطبوخة. وأنا غير داري بما يدور من حولي. فجأة يتصل بي الأخ أبو القاسم هاشم يطلب مني الحضور إلى اجتماع هام، ولا يخبرني بموضوع الاجتماع، وعند وصولي يأخذني جانبا ليخبرني بما اتخذ من قرارات خطيرة وبأن الجميع موافقون ومتفهمون لما حدث، ويطلب مني ألا أثير أي مشاكل. ثم أحضر إلى هنا لأسمع حديثا عن مسيرة الثورة وما تتطلبه من تغيير لمواقع الثوار. ويخرج هذا ويدخل ذاك ولا أدري لماذا حدث ذلك. ويقال لي بأن السبب هو الثورة ومسيرتها. إنتو فاكرين أنا طرطور، ولا نحن في نادي كورة. يعني لما أطلع من هنا ويسـألني الناس، لماذا خرج هذا ودخل ذاك، أقول لهم إنها الثورة وتغيير المواقع؟؟ أنا كنت فاكر إننا إخوة ورفاق. نعمل يدا واحدة لخدمة البلد والناس، أما إذا كانت الحكاية مؤامرات ومناصب توزع، وقرارات تتخذ دون علمي ومشورتي، فأنا لست في حاجة لمنصب وزير. وأنا أيضا خارج مع الخارجين. ثم التفت إلى الأخ الدكتور طه بعشر وزير العمل، وقد كان من الذين أخرجوا من الوزارة، وكانت لي به صلة العمل المشترك عندما كان رئيسا لاتحاد الطلبة السودانيين بالمملكة المتحدة، وكنت أمينا عاما للاتحاد في أوائل الخمسينات. قلت له " وإنت يا بعشر، أمحتاج أنت لكي يوظفوك سفيرا؟ أما لديك في مهنتك في الطب ما يكفي لملء يديك؟ ثم انجرت باكيا من الحزن والأسى والغضب لما شاهدته وسمعته في هذه المسرحية السخيفة. ولا بد لي هنا أن أذكر بأني مريض بالسكر ولهذا فأنا سريع الغضب وشديد الانفعال. وعلى الفور وقف الصديق عبد الكريم ميرغني وضمني إليه مواسيا وأقعدني في محبة وود. ثم طلب احضار كوب ماء " اشرب يا مرتضى". وكان الصمت يهيمن على القاعة والحاضرين. وفجأة وقف النميري وقال مخاطبا الاجتماع " يا جماعة لقد حان موعد سفري ( وكان يومها مسافرا في أول رحلة له بعد الانقلاب في 25 مايو إلى خارج العاصمة تلبية لدعوات من الأقاليم). لننس ما حدث. ولينفض الاجتماع ولنلتقي مرة أخرى للتشاور والبحث. ثم ودع وخرج. وانتهى الاجتماع إلى لا شيء. وعاد رجال الإعلام ومعداتهم دون أي أخبار أو بيانات. وملأت المرارة قلوب أهل المكيدة والتآمر.
(6)
بعد حوالي شهر من اجتماع القصر الذي فشل في إقرار التعديل الوزاري، دعا مجلس الثورة كل وزير على حده لمناقشته في أمر التعديل الوزاري المزمع إجراؤه. وكلفت لجنة جلس فيها النميري وبعض أعضاء المجلس لمناقشة الوزراء في إبعاد هذا أو إدخال ذاك. وعندما جاء دوري وجلست معهم كان الجو وديا للغاية. وأذكر سؤالي عن أسباب إخراج الدكتور طه بعشر من وزارة العمل، أجابوا بأن العاملين في الوزارة غير راضين عن أدائه لتردده وعدم حسمه الأمور. فقلت لهم يعني يصبح العاملون هم الذين يراقبون الوزير، ويحكمون على أدائه وليس العكس ؟ دا كلام دا؟ ولم يكن لديهم سبب آخر سوى أنهم يريدون إخراجه لإدخال شخص آخر مكانه. وفي النهاية حوّل الأخ بعشر ليصبح وزيرا للصحة بدلا من الدكتور موريس سدرة، الذي كان محسوبا على الحزب الشيوعي. وكان إبعاد الشيوعيين أو من كانوا محسوبين عليهم من الدوافع المعروفة للتعديل الوزاري. وعندما سألتهم أيضا عن أسباب إدخال الضابط محمد عبد الحليم في مجلس الوزراء وزيرا للدولة، رد النميري بأن محمد عبد الحليم له صلة قوية بمصر، وفي كثير من الأحيان يحمل رسائل إلى الرئيس جمال، ولهذا فمن اللائق أن يوضع في مركز يناسب المهمات التي توكل إليه، فقلت له" يعني يا ريس عاوز واحد مراسلة بدرجة وزير؟" فضحكوا جميعا. هكذا تم التعديل الوزاري الأول لحكومة مايو بعد هذه المداولات التي كانت بمثابة ظاهرة لإثبات حسن نوايا العسكر وتأكيدهم لمبدأ المشاركة والشورى في الأمور الهامة مع زملائهم المدنيين. ومع ذلك كنت متأكدا من أن هناك مؤامرة ذات أهداف بعيدة تمت حياكتها في مجالس الليل من قوى خفية داخلية وخارجية. بعد ذلك أصبح النميري رئيسا للزوراء وأصبح السيد بابكر عوض الله وزيرا للعدل، ودخل عدد من أعضاء مجلس الثورة وبعض ضباط الجيش ممن كانوا قد أحيلوا إلى المعاش في السابق، من أمثال عمر الحاج موسى الذي حلّ محل محجوب عثمان في وزارة الإعلام.
عبدالله الشقليني
5 يونيو2020
alshiglini@gmail.com