حتى د. النور حمد يتحاشى استخدام مصطلح العلمانية!!

 


 

 

 

عندما بدأت مفاوضات السلام بجوبا عاصمة جنوب السودان بين الأطراف السودانية في أكتوبر 2019م. قدمت الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال، ورقتها التفاوضية التي تضمنت "العلمانية" كأنسب نظام للدولة السودانية. وحتى الآن تتمسك الحركة بتضمين "العلمانية" في أي اتفاق سياسي قادم، كوّن العلمانية في نهاية المطاف، هي أحد أشكال التعبير عن نضج التجربة السياسية والإنسانية، ومكسب إنساني وحضاري عام، لم يتحقق إلا بعد تجارب مريرة وتضحيات جسيمة، شهد فيها العالم حروباً أهلية وطائفية، وتاريخاً من الاضطهاد باسم الأديان والمذاهب وولخ.

مرّ تسع اشهر تقريبا منذ بدء المفاوضات في جوبا، وما زال وفد الخرطوم يتهرب من الرد على الورقة التي تقدمت بها الحركة الشعبية سيما المتعلقة بمطلب "العلمانية"، بالرغم أن بعضا من الوفد الخرطومي في لقاءاتهم الإجتماعية وغير الرسمية مع وفد الحركة بجوبا، كانوا يؤكدون على أن النظام العلماني هو الحل الأنسب للسودان، لكنهم كانوا ايضا يقولون انهم لا يفضلون تضمين المصطلح صراحة في اتفاق السلام كوّن العلمانية لها حساسية شديدة في القواعد الشعبية.
تخيلوا معي هذا الكلام! -نحن مع العلمانية، لكن الشارع عنده حساسية شديدة تجاه كلمة العلمانية.. بالله أي شارع يقصدون.. هل يقصدون الشارع الذي ردد وما زال يردد شعار (كل كوز ندسو دوس ولا يحكمنا الإسلاميين تاني)، أم أي شارع يقصدون!!؟
إذن كما هو واضح منذ البداية، كان وفد الخرطوم يراوغ ويلف ويدور حول قبول "العلمانية". يرفضونها في الجلسات التفاوضية الرسمية، ويقبلونها في جلساتهم الخاصة، ويشيدون بمطالب ومواقف الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال.
أيضا ما زاد الوضع تعقيدا وغموضا وخلطا حول مفهوم الدولة العلمانية في منبر جوبا، وفتح بابَ الجدل على مصراعيه، هو موقف الأحزاب الشمالية -سيما اليسارية منها. هذه الأحزاب مع النظام العلماني وضده في نفس الوقت. كما أن النخب السودانية خاصة الشماليين منها، وجدت صعوبةً كبيرة في تحديد موقفها صراحةً من النظام العلماني.. فهل السبب هو الجُبن السياسي أم ماذا؟.
نعم، معظم النخب السودانية، ترقص حول مصطلح "العلمانية" دون تحديد موقفها بالواضح ما إذا كانت تطالب بالدولة العلمانية في السودان أم لا.
من هذه النخب مثلا، المفكر السوداني د. النور حمد، الذي قال قبل أيام من كتابة هذا المقال لـصحيفة الجريدة السودانية، "إن سيطرة العسكريين على الفترة الانتقالية كرست للنهج الإنقاذي الإسلاموي المتاجر بالشعار الديني.
وقال حمد، يخطئ من يظن ان هذه الثورة قد قامت لسبب آخر غير أبعاد سيطرة أقلية دينية على المجال العام بالادعاء الكاذب بتحكيم الشريعة وهو ما لم نر له أي مظهر جدي يذكر طيلة ثلاثين عاما.
واشترط للوصول إلى سلام مستدام مع الحركات المسلحة باقرار مدنية الدولة وأردف اذا أردنا دولة ديمقراطية تقوم على المواطنة المتساوية فلا بد أن تكون الدولة مدنية وهذا هو ما نادت به الثورة ولن يحدث سلام مستدام مع قوى الكفاح المسلح إلا بإقرار مدنية الدولة "واكد أن مدنية الدولة ليست في مقابل عسكريتها كما يشيع البعض، وانما تعني حمايتها من أن تقع في يد أي أقلية لها فهمها الخاص، مثلا اقلية فهمها للإسلام أن تفرضه على القطاع الأكبر من المسلمين وتقصي به غير المسلمين".
وتابع "إذا لم نملك الشجاعة لتجاوز تصور إمكان إقامة خلافة إسلامية أو دولة دينية في هذا العصر فينبغي ألا نحلم بأي استقرار سياسي أو تقدم في أي منحى من مناحي بناء الدولة الحديثة الفاعلة".
عزيزي القارئ..
الدكتور النور حمد، رجل معروف بالوضوح في كتاباته وآراءه ومواقفه الثابتة تجاه مجمل القضايا السودانية، إلآ أنه كسائر النخب السودانية الشمالية هنا، استخدم مصطلح "الدولة المدنية"، بدل "العلمانية"، في اللقاء المشار إليه، وهذا الاستخدام، انما يضعه مع المتزمتين والمتاجرين بالدين في خانة واحدة، ذلك أن مصطلح الدولة المدنية المستخدم حاليا، ظهر مع ما عرف بالربيع العربي. ويعرف الكثيرون هذه الدولة بأنها دولة "تحقق جملة من المطالب المتعلقة بالمواطنة المتساوية وبالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وغيرها من المطالب المتصلة بحاجة الشعوب العربية إلى التطور والتنمية، وتستمدُّ قانونها من الشريعة الإسلامية والقرآن الكريم".
وتطبيقا للتعريف أعلاه، يقول أحد الدعاة في مصر: (نريد دولة مدنية تطبق الشريعة الإسلامية).
ويقول آخر: (أن السلفية مع الدولة المدنية، ولكن لا يجوز أن يتولى رئاسة الدولة مسيحي أو امرأة).
إذن الدولة المدنية التي تلوكها الألسن في الدول العربية وفي السودان، هي تلك التي تعنيها الدعاة الإسلاميين بالقول (نريد دولة مدنية تطبق الشريعة الإسلامية)، وهي ذات الدولة التي يطالب بها السلفيين بالقول (أن السلفية مع الدولة المدنية، ولكن لا يجوز أن يتولى رئاسة الدولة مسيحي أو امرأة).. فهل هذه هي الدولة التي يبشرنا بها الدكتور النور حمد بالقول ( إذا أردنا دولة ديمقراطية تقوم على المواطنة المتساوية فلا بد أن تكون الدولة مدنية؟).
يقول أحد الكذابين في مقارنته بين العلمانية والمدنية. إن العلمانية والمدنية كلاهما ضد الدولة الدينية. لكن العلمانية ترى أن الدين لديه شكل معين للدولة، وبالتالي يجب فصله عن الدولة. بينما المدنية ترى أن الدين ليس لديه شكل للدولة، وبالتالي يتم التعامل معه كقضية اجتماعية وثقافية.
ويستمر هذا الكذاب المنافق، قائلاً: (العلمانية تدعو للمساواة أمام القانون. وتعني المساواة فرض قانون واحد على الجميع. والتشريع والقوانين في العلمانية يجب فصلها عن الدين. بينما في الدول المدنية تحترم الاستحقاق الديمقراطي. وبالتالي يجوز للأغلبية الفائزة تعديل القوانين مع مراعاة حقوق الأقلية والحفاظ على الشكل المدني للدولة).
على كل حال. العلمانية، شرط لدخول الحداثة، وشرط لتحقيق الديمقراطية ودولة المواطنة المتكاملة.. وفي ظل هذه الدولة العلمانية، تعلو قيم الحرية والمساواة والعدالة. بينما مصطلح الدولة المدنية، لا نجد له موقعا في علم السياسة، لكن له وجود مكثف في أذهان الإسلاميين وخطابهم السياسي، وفي أذهان النخب السودانية الخائبة الفاشلة التي تجر البلاد للوراء كلما ارادات الانطلاق للأمام. نخب جارفة معها الآمال والطموحات الكثيرة.

bresh2@msn.com

 

آراء