رأب الصدع في تجمع المهنيين السودانيين
اطلعت على الملامح العامة لمبادرة رأب الصدع داخل تجمع المهنيين السودانيين، تحت شعار: وحدة تجمع المهنيين وحدة لقوى الثورة. وجاء في مطلع المبادرة أن جماهير ثورة السودان المجيدة ترى في التجمع رمزاً لقدرتها في اقتلاع نظام الإنقاذ، وأيقونة لفرادة هذه الثورة المجيدة، لذلك وجب أن يظل قوياً موحداً ومستقلاً، في هذه الفترة الاستثنائية من عمر ثورتنا المجيدة.
أما نقاط المبادرة، فتتلخص في محورين، محور بعيد المدى، يوضح الإطار العام لحل المعضلات التي تواجه التجمع ويجيب عن الأسئلة المعقدة التي تواجه مصيره، وتحدد علاقاته المتباينة وفقا لرؤية يضعها التجمع بصورة جماعية، بمشاركة أجسامه المكونة كافة، على أن تُبحث تفاصيل هذا المحور في مؤتمر عام للتجمع، يستند على تجربة التجمع، وتقدم فيه اوراق تفصيلية يعدها مجموعة من الخبراء تناقشها مكونات التجمع وتقدم توصيات بشأنها. والمحور الثاني، قريب المدى ويهدف لعلاج المشكلة الآنية.
في البدء، أعتقد أن جموع ثوار ديسمبر/كانون الأول ينظرون إلى «تجمع المهنيين السودانيين» كقائد فعلي لحراكهم في الشوارع، منذ أن التقط، وبوعي ثوري وإدراك عميق، نبض اللحظة التاريخية واستجاب لها، فتصدى لقيادة الحراك، متخذا به منحىً تصاعديا، ووفق موجهات قيادية حكيمة، أكسبته ثقة الآلاف التي كانت تهدر في الشوارع. ومن جانبنا، نرحب بشدة بهذه المبادرة الحكيمة، ونشيد بالمجموعة القائمة عليها. فهي تعكس روح الثورة، وتتماشى مع تجاربنا التي تقول إن الخلافات في التحالفات متوقعة، ولكن المحك الثوري يكمن في معالجة هذه الخلافات، ومن داخل التحالف نفسه. فكرة أو فلسفة تأسيس تجمع المهنيين، والتجمعات النقابية عموما كما شهدنا أيام حكم النميري إبان الإنقاذ، تبلورت كرد فعل ثوري للهجمة الشرسة التي نفذتها تلك الأنظمة الشمولية يهدف تدجين الحركة النقابية، وطمس استقلاليتها وتحويلها إلى أبواق للنظام. وهذه الفلسفة تقوم على ذراعين، ذراع استعادة الحركة النقابية من قبضة النظام الشمولي وتحقيق استقلالها، وإعادة تكوين النقابات والاتحادات الشرعية للقيام بدورها الأساسي في حماية العاملين، وذراع المساهمة الفعالة في النشاط الثوري لاستعادة الديمقراطية، وإنجاز مهام الفترة الانتقالية وحمايتها. ومن الواضح أن العلاقة بين هذين الذراعين جدلية، وكل منهما يتفاعل مع الآخر، وتتكامل مهامهما. وتجارب التحالفات الواسعة في السودان تقول، إن هذه التحالفات يصعب استقرارها وترجمة نوايا التحالف وتوجهاته إلى نشاط ملموس وفعًال، دون برنامج عمل تسهم كل أطراف التحالف في صياغته والالتزام بتنفيذه، ثم مراجعته وتطويره عند كل منعطف. وأعتقد أن التوافق على قانون النقابات وإعادة تشكيلها ديمقراطيا، إضافة إلى حماية الديمقراطية والفترة الانتقالية، يشكلان جوهر برنامج عمل تجمع المهنيين، والانخراط فيه، وفق ترتيب للأولويات متوافق عليه بين كل أطراف التجمع، يحقق استقرار التجمع كتحالف واسع.
الخلافات حول هيكلة التحالفات وقيادتها ليست جديدة، وليست بدعة، وفي ذات الوقت ليست عصية على الحل. ومن تجارب التحالفات في السودان، يمكننا استخلاص مجموعة من المبادئ العامة، يمكن الاستناد إليها، وليس بالضرورة نقلها وتطبيقها كما هي. فمثلا، لا أعتقد سينشأ خلاف عند تكوين المجلس العام، أو القيادة العليا، أو هيئة القيادة، فهذه بمثابة الجسم المشرّع لسياسات وبرامج التحالف، وبالضرورة أن تتكون من ممثلين لكل الأطراف المنضوية للتحالف. لكن، لا يمكن لمثل هذه الأجسام أن تقود النشاط اليومي للتحالف، لذلك غالبا ما تكوّن قيادة تنفيذية من عدد أقل تحقيقا لمبدأ الفعالية والكفاءة. وهنا من الممكن أن تنشأ الخلافات حول من سيمثل الآخرين في هذه القيادة التنفيذية؟
وهذه مسألة يمكن حلها بتحديد صلاحيات القيادة التنفيذية بدقة وعدم السماح لها باتخاذ أي قرارات سياسية أو تشريعية، وبإعمال مبدأ الإحلال الدوري بحيث لا تستأثر أطراف محددة بالقيادة التنفيذية طول الوقت، وبخلق مكاتب أو أمانات تنفيذية تشارك فيها كل أطراف التجمع…الخ. لكن، القانون الأساسي في كل ذلك هو التوافق والتراضي وعدم إعمال آلية الانتخاب. فالتحالفات لا تتم فيها انتخابات لاختيار قيادتها، لأن فكرة التحالف قائمة على تراضي أطراف متساوية الأوزان داخل التحالف، غض النظر عن حجم أوزانها خارجه. وبداهة، أن آلية الانتخاب تعني توزيع مكونات التحالف إلى مجموعات موالية لهذا أو ذاك، وهذه تنسف فكرة التحالف من أساسها.
وحتى عملية اتخاذ القرار داخل التحالف، لا بد أن تخضع لفلسفة التراضي المؤسسة للتحالف. ففي القضايا السياسية والمبدئية، مثلا المشاركة في الحكومة أو تحديد موقف من القضايا الدستورية كقضية الدين والدولة..الخ، لا يمكن اتخاذ قرار وفق قاعدة التصويت والأغلبية، وإنما الآلية الوحيدة الممكنة هنا هي التراضي أو التوافق. ففي مثل هذا النوع من القضايا، قطعا لن تخضع الأقلية، ولكنها يمكن أن تتوافق أو تتراضى على حل مشترك. لكن، أيضا يتم تعريف هذا التراضي وفق نسبة معينة، مثلا إذا اعترض تنظيمان أو ثلاثة من مجموع 25 تنظيما مكونا للتحالف، يعتبر تراضيا. وتاريخيا، هذا الفهم ظل موجودا في عدد من التحالفات داخل وخارج السودان. أما التصويت، فيمكن فقط بالنسبة للقضايا الإجرائية والتنظيمية البحتة.
هناك دروس هامة أخرى من تجارب التحالفات، يمكن أن تستصحبها المبادرة، منها: 1- تنوع أشكال العمل وتعدد منابره تحت مظلة التحالف، مع أهمية انخراط كل المكونات في هذه الأشكال. 2- التريث في اتخاذ القرارات حتى تتم مناقشتها من كل مكونات. 4- تشجيع مناقشة المفاهيم المختلف عليها، والتوحد حولها. 5- ضبط التصريحات والابتعاد عن كل ما يقدم إشارات سالبة للجماهير، أو التصريح بموقف تجاه القضايا الكبيرة، قبل مناقشته في التحالف. 6- أي من مكونات التحالف يمكنه أن يمارس نشاطا مستقلا، دون أن يتقاطع ذلك مع نشاط التحالف.
فلندعم هذه المبادرة، إذا ما أردنا فعلا تحصين ثورتنا ضد الانتكاس، وحتى يعود تجمع المهنيين قائدا بذراعيه، النقابات وحماية الثورة.
نقلا عن القدس العربي
//////////////////////