نعم -كان الزبير باشا تاجر رقيق وعميلاً وأشياء أخرى يا كمال الجزولي

 


 

 

 

يقال إن ترسيخ الوعي العام والدعوة إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة والمساواة، والدفاع عن قيم الحرية وحقوق الإنسان، وربط المجتمع بعملية النهوض الفكري والحضاري ووولخ، من أهم أدوار المثقفين والنخب. إلآ أن النخب السودانية اخفقت بشكل فظيع في القيام بدورها والدعوة للتغيير السياسي والاجتماعي وولخ، حيث تعيش تلك النخب خاصةً اليوم بمعزل عن التحولات التي أفرزتها الثورة السودانية، وآثرت اتخاذ مواقف نخبوية جبانة بناءً على رؤى وأفكار منفصمة عن الواقع.

نعم، في الوقت الذي نجحت فيه الثورة الشعبية السودانية على الأقل في ازاحة النظام الذي حكم البلاد ثلاثين عاما.. وفي الوقت الذي تحتاج فيه هذه الثورة لدعم النخب والمثقفين -بالآراء والأفكار وولخ، حتى تنجح وتحقق أهدافها وشعاراتها. خرج إلينا كمال الجزولي (المحامي)، بمقال منشور على موقع سودانايل تحت عنوان (هل صحيح أن الزبير باشا كان تاجر رقيق!؟).

عزيزي القارئ..
مضمون مقال كمال الجزولي، يوضح بجلاء، أن المثقف السوداني يعيش فعلا أزمة خانقة تحول دون قدرته على تحمل مسؤولياته حيال قضايا شعبه والمساهمة بآراء وأفكار ايجابية فعّالة، من شأنها أن تزرع الأمل والثقة والاطمئنان في نفوس (السًّوادنة) الذين سئموا الاخفاقات والتدهور على كل الصعد والمجالات.
حفيد الزبير باشا كمال الجزولي (الناس في شنو والجزولي في شنو)، ترك كل المشاكل التي تعاني منها البلاد في الوقت الحالي، وتفرغ تماما لطرح سؤالاً غبيا عن جده الذي يعرف العالم اجمع والسودانيون بصفة خاصة، بأنه كان أشهر تاجر رقيق عرفه التأريخ السوداني.
سؤال لا يبدو فقط غبيا، إنما فعلا سؤال غبي، إذ ما الفائدة من طرح هذا السؤال بعد أكثر من مائة عام على وفاة هذا التاجر الذي لم يكن فقط تاجر رقيق، بل كان مخبرا وعميلا وأشياء أخرى؟
وبينما يتشكك الجزولي في التأريخ الذي كُتب عن جده، إلآ أنه لم يقل للقراء الأكارم، إذا لم يكن الزبير باشا تاجرا للرقيق، فبماذا كان يتاجر!، هل كان يتاجر بالمخدرات مثلا، أم بماذا!، لأن الرجل كان (تاجر حاجة!)؟
يقول كمال الجزولي في معرض دفاعه عن جده النخاسي الآتي:
منذ مدَّة وهذا السُّؤال يهشُّ على ذهني، خشية أن نكون، بسبب تقاعسنا البحثي الغالب، وركوننا إلى السَّائد المتوارث، قد فرَّطنا في قيمة هذا الأثر من تاريخنا!
إلتمست الإجابة في بعض المصادر، ولدى الكثير من المشتغلين بالثَّقافة عموماً، وبالعلوم السِّياسيَّة والتَّاريخ على وجه الخصوص، فلم أقع على بيان قاطع أطمئنُّ إليه. على مستوى المصادر وجدتُّ أقواها وأوضحها دفاع الصَّحفيَّة البريطانيَّة فلورا شو، عن الزِّبير، عبر مقالاتها لمجلة «مراجعات معاصرة Contemporary Review»، عام 1887م، والتي جُمعت، لاحقاً، في كتاب، وذلك من خلال استنطاقها له حول سيرته، في منفاه بجبل طارق، حيث لم تُخفِ تعاطفها معه، بينما نفى هو، نفياً باتَّاً، تهمة النَّخاسة التي ألصقت به! أمَّا من شافهتهم بالسُّؤال فقد لاحظت أن بعضهم ما ينفكُّ يُواري، طيَّ الإجابة، شيئاً من حتَّى (!) بينما تسارع الأغلبيَّة إلى الرَّدِّ بالإيجاب! وعندما أعود أسأل عن الدَّليل، يهــزُّون أكتافهـم، قائلين إن هـذا، على أيَّة حـال، هو ما يعتقـده الجَّمـيع!
والجزولي إذن، وفي سبيل تبرئة جده عن التهمة التي الصقت به كما يقول في الجزئية اعلاها من مقاله. بحث كل المصادر، وطرق كل الأبواب لايجاد الإجابة التي يريدها هو، لكنه كما يقول، عندما يسأل عن الدليل، (يهزون أكتافهم، قائلين إن هذا، على أيًّة حال، هو ما يعتقده الجًّميع!).. والجزولي بهذا القول، انما يذهب إلى أن التأريخ المكتوب عن نخاسة جده، لا دليل على صحته، بل مجرد اعتقاد من الناس بأن الزبير باشا كان نخاسا!!.. (شوفتو الناس في شنو والجزولي في شنو؟).
الجزولي أيضا ولتعضيد أوهامه في دفاعه عن جده النخاسي، اقتبس مقتطفا من كلمة المرحوم عبدالخالق محجوب في مؤتمر المائدة المستديرة 1965م الذي قال فيه:
"بعض إخواننا هنا (أي في المؤتمر) يسموننا أحفاد الزِّبير باشا، ونقول لهم، بصراحة، نعم نحن أحفاد الزِّبير باشا، فنحن لا نتهرَّب من تاريخنا، ولكنَّا ننظر إليه بموضوعيَّة ناقدة في غير ما مرارة، نستمدُّ منه الدُّروس، ونستقي منه العبر، فتجارة الرَّقيق التي تتحدثون عنها كانت مشروعة من المستعمر الأوربِّي، ولمصلحته، وهي وصمة عار عليه في تلك العقود، وعار علي كلِّ من نفَّذها .. ولكنَّا نُذكِّر من لا يرون سوي الجَّانب المظلم من تاريخنا .. أن أحفاد الزِّبير يتغيَّرون، ويتطوَّرون .. وقد لفظوا الاتِّجاهات المحافظة، ونشأت بينهم منظمات حديثة ديموقراطيَّة متقدِّمة، ووصلوا إلي أن يكون بينهم حزب شيوعي!"
المرحوم عبدالخالق محجوب في المقتطف اعلاه، كان أكثر جرأةً وتسامحا مع نفسه ومع الآخرين، عندما قال ""بعض إخواننا هنا (أي في المؤتمر) يسموننا أحفاد الزِّبير باشا، ونقول لهم، بصراحة، نعم نحن أحفاد الزِّبير باشا، فنحن لا نتهرَّب من تاريخنا، ولكنَّا ننظر إليه بموضوعيَّة ناقدة في غير ما مرارة، نستمدُّ منه الدُّروس، ونستقي منه العبر".
وإذا كان عبدالخالق واقعيا ومتسامحا، إلآ أن الكاتب كمال الجزولي لم يكن كذلك، إذ اعتبر مقتطف عبدالخالق غير كافي لإقناعه بالتوقف عن طرح مثل هذه الأسئلة الغبية بالقول: (إنتهى المقتطف المطوَّل من عبد الخالق، دون أن يُسكِّن عطشي، أو يروي غليلي. فالشَّهيد، من ناحية، لم يقطع، لا بإثبات التُّهمة، ولا بنفيها؛ كما وأنه، من ناحية أخرى، ليس مؤرِّخاً، إنَّما مفكِّر سياسي؛ وهو، من ناحية ثالثة، قائد حركي لحزب يقوم على برنامج يسعى لتوسيع القبول به".
إذن من خلال رد الجزولي لمقتطف عبدالخالق، يتضح أن الرجل لا يبحث عن الإجابة الصحيحة لسؤاله، لأن الإجابة موجودة في كتب التأريخ، بل يبحث عن الإجابة التي تبرئ جده من جريمة النخاسة.
تقتضي الواقعية أن نقّر ونعترف دون لف ودوران، أن الزبير باشا رحمة، كان تاجر رقيق كبير، استعان به محمد علي باشا لاصطياد (الرقيق)، واحضارهم إليه لتسفيرهم الى بلاد ما وراء البحار والمحيطات للخدمة والعمالة المجانية. هذا هو تأريخ الزبير باشا رحمة. هذا التأريخ لم يكتبه الغرابة أو النوبة أو الجنوبيين أو ناس شرق السودان، إنما هذا التأريخ كتبه الجلابة أنفسهم.. فلماذا يتشككون في تأريخ كتبوه هم بأيديهم؟
التاريخ ماض لا يمكن عودته أو تكرار ما حدث فيه، سواء كان ذلك مقبولا أو مرفوضا. أما الحاضر فصناعة أهله وهم المسؤولون عنه يحسنون فيه أو يسيئون. لكن لا بأس من مراجعة الماضي وقراءته كما يجب أن تكون القراءة والمراجعة، قراءة مستقلة دون تزييف وتزوير، وليس مقبولا أن يأتي من يتبرأ من ماضيه السيء وينزع إلى غيره ويبحث عن مرتكزات أخرى لعلاج ضعفه وتأخره، لأن هذا إنما يعكس حاضره التعيس وليس وصفا لماضيه.
إن تأريخنا السوداني (ايوة تأريخ بتاعنا نحن)، بكل تأكيد، تعرض ويتعرض دائما لمحاولات الإبادة أو التشويه لأغراض سياسية واجتماعية وثقافية من الفئة المسيطرة على البلاد، وأن هذا الأمر حصل ويحصل مرارا وتكرارا.. لكن من حسن الحظ أن هذه التشوهات تم اكتشافها الآن، ويمكننا في المستقبل القريب تفحص التأريخ بشكل أكثر دقة، وبمعزل عن روايات المنتصرين ومعاونيهم الذين زيفًّوا وزوًّروا كل شيء حسب مزاجهم وأهواءهم.
نعم، تزوير التأريخ في السودان لم يعد احداثا فردية وقليلة، لكنه صار ممارسة يومية حية، ولو راجعنا هذا التأريخ مراجعة مستقلة ونزيهة، لخرج من هذا التأريخ المنقح بخفي حنين هؤلاء الذين درجوا بشكل وقح وسمج وبكل الطرق والوسائل تشويه هذا التاريخ. هؤلاء المزوراتية اسرفوا في تزوير التاريخ وصدقوا هذا التزوير وادخلوه في المناهج التعليمية وولخ، وعلموا به جيلا بعد جيل، وبسبب هذا التزوير وصلنا إلى ما عليه السودان اليوم من الوضع المزري.
إن المسئولية تقتضي على الأستاذ كمال الجزولي واصحابه من المثقفين والنخب السودانية -خاصة الشمالية، الاضطلاع بدورهم المحدد في تنوير الرأي العام وتقريبه من عمق قضاياه المصيرية وهمومه اليومية على كل المستويات، ومواجهة الحكام الجدد بأسئلة محرجة ومستفزة تدفعهم دفعا إلى إعادة النظر العاقل والمتعقل في أولويات الشارع السوداني، وترك الفارغة، لأن الوضع في السودان لا يحتمل سجالا عقيما وطرح الأسئلة الغبية التي تفتح جروحا قديمة.

bresh2@msn.com

 

آراء