عبد الخالق محجوب/ صورة أخرى (1927-1971)

 


 

 


 

 

لم يسع لنا أن نفيض في توضيح الصورة التي صاحبت بشر يسابق تاريخ حياته القصير نسبيا، بأعماله السياسية والثقافية والحزبية، في بلد تضربه تناقضات تاريخية وجغرافية واثنية وسياسية ميّزت سكانه، تاريخ زراعة أهله الغالبة وبدوه الرحّل ومثقفيه التُعساء. وكان عبد الخالق يدعو دوما إلى أن يقوم الحزب بتطهير نفسه من الأفكار اليمينية، والتطهير من الشخوص الذي تلتبس فيهم اليمينية. لم يكن نزوع العبقرية في شخصيته تنبئ بنشوء شاعر مبدع أو مغني شهير أو قصاص مبدع. بل حصر همّه أن يكون سياسيا، وتلك هي المعضلة.

*
بروفيسور عبدالله علي إبراهيم يقول: هو أستاذي، مع أنه لم يكمل تعليمه الجامعي!. أصيب بمرض من أمراض التخلف مثل التجاني يوسف بشير أو مصطفى بطران، ولكنه تعالج في مستشفى القصر العيني بالقاهرة. حاولنا المهندس أحمد عوض خلف الله- نسأل الله أن يرفعه- فقال: هو دفعتي في الثانوية، وفي الفصل الثانوي الأخير كان يدرّسنا، وما ظني أنه يذاكر مثل الطلاب الذين يتقاتلون في سبيل الالتحاق بكلية غردون سنة 1946، ورغم ذلك تحصّل على ثمانية درجات من تقدير الامتياز في كافة العلوم التي جلس لامتحانها. نصحه أحد أساتذته بالرحيل إلى مصر لتلقي تعليم أفضل. فذهب لمصر ودرس علوم الفلسفة الماركسية من الكتب الإنجليزية، ولحق بكورس الكادر لهنري كورييل، وكان عبده دهب قد سبقه. ترجم كتابا للناقد الروسي الماركسي بليخانوف ( الفن والحياة الاجتماعية) سنة 1952. عاد إلى السودان وقد اكتمل وعيه الثقافي والسياسي. واختار طريقه.

*
جلّ حيرته كيف ينظر هو للاشتراكية الديمقراطية، التي توافق حياة أهل السودان الثقافية، فيجد منْ يتبعون العسكر هم أغلب المنقسمين عن الحزب، ويقولون بالديمقراطية الجديدة. فكان التعقيد الشديد لتفكيره عند قيام انقلاب 25 مايو1969، واشتد عندما انقسم الحزب الشيوعي، واشتدّ أكثر عندما تسيد اثنين من الشيوعيين العسكريين مجلس ثورة حركة انقلاب 19 يوليو 1971. ففجع في رفاقه الذين اضطر للتضحية بحياته من أجل استقلالية حزبه.

*
لعبد الخالق ميّزة لم تكن معروفة لصحابته، وأبناء جيله وأغلب أعضاء حزبه. فقد كان ضيفا كل أسبوع في مزرعة ود البيه في حلفاية الملوك، كل جمعة يجالس مجموعة من شعراء الهمباتة، كودْ ضحوية ورفيقه طه محمد أبو زيد المعروف بـ ( طه الضرير) و ودْ عثمان ود التركاوي( أب ترمه ) وعلي أحمد علي، و(كيقة) ودْ عمران والخضر( ودْ فكاك)، وعثمان ودْ علي (ترتر). وكانوا جميعا من أصدقاء الراحل ود البيه، يستمع لمسامرة الهمباتة وذلك ليتعرف على كيفية صناعة الشعر لدى البدو، وليتعرف على أصول الهمبتة: منشأها وأخلاق هؤلاء الهمباتة ومحرّماتهم، وكيف ينفقون أموالهم على الفقراء من العامة. كان مغرم بالمعرفة للمجتمعات السودانية من عيون مصادرها، ومن ثمة رؤية عجائبها.

*
سرد المهندس مرتضى أحمد إبراهيم - الذي كان وزيرا للري منذ أول الانقلاب إلى 19 يوليو 1971- أن مجلس قيادة الانقلاب قد تسلم وثيقة من السيد عبد الخالق محجوب يرفض فيها التأميم والمصادرات ويطالب بإعادة الممتلكات إلى أصحابها أو اللجوء إلى القضاء إن كان هناك ما يثبت إجرام أصحابها، وعدم تأميم البنوك بل يوصي بدخول الحكومة في شراكة مع المساهمين والتخلص من أصحاب الأسهم الأجانب بشراء أسهمهم بطريقة عادلة وقانونية حتى لا نستعدي الجهات الأجنبية ذات المصلحة. رفض مجلس الثورة المذكرة وكان النميري أكثرهم حماسا ضد المقترحات.


(2)

حضرتُ مجموعة من ليلاته السياسية في الستينات، وآخر محاضرة له شهدتها كانت في دار اتحاد جامعة الخرطوم في سبتمبر 1970، وكنا حينذاك طلاب في السنة الأولى الجامعية. تحدث حينها ثلاث ساعات متواصلة وهو يحمل ورقة صغيرة فيها رؤوس أقلام، وكانت كلها مبينة لاختلافات الحزب عن مسيرة مايو الانقلابية.
وقدمه للجماهير التي تقاطرت لدار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، الطالب وقتها الخاتم عدلان . تحدث عن استقلالية موقف الحزب الرافض لفكرة الانقلاب العسكري وقد صنفه نهج الانتهازية اليمينية أو ما يسمى بالبلانكية،( وهي ظاهرة جماعة قليلة يمسكون بالسلطة ويطبقون الاشتراكية من أعلى السلطة إلى قاعها الأدنى حيث الشعب ) كما يقول فلاسفة النهج الماركسي. ورفض قرارات التأميم المصادرة التي قام بها العسكريون دون مشورة مجلس وزرائهم. كان بعد انقسام حزبه يرى أن الثورة متجددة لتنظيف نفسها من التيارات اليمينية في حزبه. لقد كانت أزمة الحزب الشيوعي عند قيام انقلاب 25 مايو شديدة الأثر على لجنته المركزية. وقد رفض أغلبية العسكر ائتلافهم مع الحزب، فقد كانوا يفضلون تعيين الشيوعيين كأفراد.


(3)
تقول سيرته أنه نأى بحزبه عن حزب البلاشفة في الاتحاد السوفيتي السابق والحزب الشيوعي لجمهورية الصين الشعبية، وقد انقسم من الحزب جناح القيادة الثورية عام 1964. جلستُ في لقاء ضمّني مع الراحل دكتور أحمد شامي والدكتور محمود الطيب مع الشاعر صلاح أحمد إبراهيم. وتحادثنا في موقف الحزب الشيوعي من نظام 25 مايو في سبتمبر 1970. وكان واضحا أن موقف الشاعر صلاح أحمد إبراهيم، متضامنا مع جماعة معاوية سورج وأحمد سليمان وآخرين. وأوضح صلاح ميله للاشتراكية الأفريقية التي ابتدعها جوليس نايريري في تنزانيا. ولم يتورع صلاح في وصفه عبد الخالق بأنه قيادي دكتاتور في الاجتماعات!. وهذا مؤشر احتدام النقاش الذي قاد لانقسام الحزب.

*
أول كُتيّب قرأته لعبد الخالق عن قضية جنوب السودان عام 1963. وكان بالنسبة لي وأنا في المدرسة الوسطى رأي جديد، في لغة الطرح وعقلانية التناول والمحتوى المعرفي. جاء عبد الخالق لمحاضرة أقامها أحد الأعمام في الستينات من القرن العشرين، وقد حاول ذلك العم أن يميّز موقفه عن الحزب الوطني الاتحادي، الذي كان يؤمن به الكثرة. وحاول عبد الخالق أن تكون المحاضرة أسئلة وأجوبة، وتركها محاضرة حرة. رغم الحضور المحدود، فقد كان الرجل جذابا في حديثه، منطقيا في كل ردوده. وقد كان مرشح الحزب في منطقة أم درمان جنوب، وكانت تشمل أحياء أم درمان من بيت المال وإلى حي بانت في الجنوب. وفاز في الدائرة على منافسه الاتحادي أحمد زين العابدين.


(4)

مذكرات المهندس مرتضى أحمد إبراهيم ( وزير الري السابق) حول النميري
صفحة 182-183:
{سمعت من السيد بابكر عوض الله ونحن نجلس معه في ذات يوم في الشهور الأولى لانقلاب مايو، إذ قال أنه كان في اتصال سري مع الضباط الذين كانوا يخططون للانقلاب وكان حلقة الوصل معه هو الرائد فاروق حمد الله، الذي كان آنذاك خارج القوات المسلحة بسبب إحالته للمعاش لأسباب سياسية. وذكر السيد بابكر بأنه كان يجتمع مع حمد الله في مكان ما في الخرطوم بحري. وأنه في ذات مساء وهو ينتظر لقاء حمد الله، أن هجم عليه رجل وضربه بعصى ظنا منه أنه في انتظار لقاء مع فتاة. وذكر أيضا أن حمد الله جاءه قبل وقت قصير من ميعاد تنفيذ الانقلاب، وأخبره بأن الضباط قرروا أن يكون هو قائد الثورة بعد الاستيلاء على السلطة. فرفض بابكر وأشار عليه بأن يجدوا ضابطا كبيرا ليقود الانقلاب والثورة لأن الجيش لن يقبل قيادة مدني لعملية عسكرية ولا يمكن أن يكون زعيما لهم. وعاد حمد الله مرة أخرى وأخبره بأنهم يقترحون الضابط محمد الشريف الحبيب، فقال له ما لقيتم واحد أحسن من الشريف الحبيب، إذ أنه متهم باستغلال مركزه والحصول على أموال، وذهب عندما كان قائدا للقيادة الجنوبية. وفي أوائل مايو أي قبل الانقلاب ببضعة أسابيع، جاءه حمد الله ليخبره بأن اختيارهم وقع على العقيد جعفر نميري الذي جاء إلى الخرطوم في إجازته السنوية من مدينة جبيت في شرق السودان، حيث كان قائدا للمدرسة الحربية هناك، وأن النميري معروف بأنه مستعد لينضم لأي مجموعة تخطط لانقلاب ولا تهمه مبادئ أو أفكار، فهو رجل مشاغب بطبعه وتستهويه أي مطاحنة أو عراك. فوافق بابكر على الاختيار. وهكذا قاد النميري انقلاب مايو، إذ أن الذين كانوا من وراء التخطيط هم خالد حسن عباس وأبو القاسم محمد إبراهيم وزين العابدين محمد أحمد عبد القادر وآخرين، وكان هؤلاء قادة القوات التي كانت تعسكر في خور عمر خارج مدينة ام درمان، حيث جاء النميري في ليلة 25 مايو ليقودها إلى الخرطوم للاستيلاء على السلطة.}


(5)
مذكرات المهندس مرتضى أحمد إبراهيم ( وزير الري السابق) حول النميري
صفحة 183:
رواية النميري عن ليلة 25 مايو:
{سمعت من النميري وهو يحدثني عن عبد الخالق محجوب، أنه ذهب إليه في بيته في أم درمان بعد منتصف ليلة 25 مايو، وأخبره بأنه ذاهب إلى خور عمر، ليقود القوات التي ستدخل الخرطوم في الساعات الأولى من الصباح، للاستيلاء على السلطة، وإبعاد الأحزاب الرجعية التي أطاحت بثورة أكتوبر ومبادئها قائلا" وبهذا أعطيتك الخيار إذ بإمكانك أن تبلّغ الحكومة وتقضي على الثورة أو تحضّر الحزب الشيوعي لكي يدعمنا، لأننا قادمون لنحقق مبادئ الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، حدثني بذلك عندما اشتد الخلاف بين الحزب وحكومة مايو وقبل اعتقال السيد عبد الخالق وإبعاده لمصر منفيا هناك.
وقد كان الاتفاق بعد انتصار الثورة أن تكون رئاسة مجلس الثورة، دورية شهرية بين أعضائه ولكن بعد نجاح الانقلاب وبعد أيام، اتفقوا على بقاء الرئاسة لنميري بصورة مستديمة. وبعد التغيرات والتعديلات التي حدثت في السنة الأولى ومطلع السنة الثانية للانقلاب، حين بدأ النميري يدعم قبضته على السلطة ويتخذ القرارات دون مشورة مجلس الثورة أو الوزراء ، بدأ التذمر يظهر بين بعض أعضاء مجلس الثورة وعلى الأخص الفرسان الثلاثة أصحاب القوات التي حققت الانقلاب، والذين كانت تربطني بهم صلات ود واحترام وزمالة في دعم كلمة الحق والعدل.}


(6)

آخر مرة شاهدتُ عبد الخالق، لمحته بعد انفضاض لقاء الرائد هاشم العطا أمام القصر نهار 22 يوليو 1971، كان يركب الفلكسواجن. وقد كان الناس يهنؤونه بعد انقضاء الخطاب الجماهيري في الواحدة بعد ظهر يوم 22 يوليو 1971. وقد عجبت أنه لم يدعو لاجتماع اللجنة المركزية لحزبه طوال ثلاثة أيام!.


(7)

قال الملازم مدني علي مدني في مقابلة صحافية، وهو من الذين اشتركوا في انقلاب19يوليو 1971، وهو في نظري أراه أكثر صدقا وأكثر موضوعية، لأنني حضرت تلك الأحداث المأساوية، وكنت في السنة الأولى الجامعية، عندما أُغلقت جامعة الخرطوم في 11 مارس 1971:
{كثر الحديث عن حركة 19 يوليو العسكرية، والتي اشتهرت بحركة الرائد هاشم العطا وأدلى حولها " كل من هبّ ودبّ " بدلوه زوراً وبهتاناً، وقليل هم من تحدثوا عنها بشيء من الموضوعية ولا أقول كلها .
أولاً ،
أود هنا أن أنفي نفياً قاطعاً لأي دور، رئيس أو مباشر، للحزب الشيوعي السوداني - كحزب- في التحضير أو التخطيط أو التنفيذ لهذه الحركة، لقد قال الشيوعيون: أن حركة 19 يوليو لا شرف ندعيه ولا تهمة ننكرها. وهم في هذا - أيم الله- لصادقون .
كنا قبل التحرك - أو علي الأقل البعض منا - ضد إذاعة الرائد هاشم للبيان الأول. ولأننا كنا نؤمن بأن الشارع، لا محالة، سيمتلئ باللافتات الحمراء. لأن شيوعية هاشم وانتمائه لا يخفى علي أحد.. وهذا ما حدث. في حين أننا كنا في أمس الحاجة لدعم الشارع السوداني كله بمختلف تنظيماته واتجاهاته وميوله السياسية، علي الرغم من أننا طرحنا وبشكل واضح بإيمان لا يتطرق له الشك، شعار " سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية " وهي ماعون واسع يسع الجميع .
ثانياً،
الضابط الذي أوكل إليه مهمة إطلاق سراح الدكتور مصطفى خوجلي " - فقط - لأننا اخترناه ليكون رئيساً للوزراء، قام، وبتصرف فردي من عنده، بإطلاق سراح الشيوعيين دون غيرهم من بقية المعتقلين من الأحزاب الأخرى، الأمر الذي زاد من نقمة الشارع علينا .
ثالثاً،
أخطاء عسكرية قاتلة قام بها بعض الضباط، وبصفة فردية أيضاً، عجلت بسقوط الحركة وسهلت القضاء عليها ومهدت، لمن كانوا يتربصون بالحزب الشيوعي الدوائر، لينحروه في رابعة النهار .
رابعاً،
تأملوا معي هذه الأسماء، وفيكم من يمت لهم بصلة القرابة، أو ساكنهم في الحي، أو زاملهم في الدراسة أو العمل... هل هم شيوعيون ؟؟ المقدم أحمد حريكة، المقدم صلاح الدين فرج، المقدم حسين بيومي، المقدم يحي عمر قرينات، الرائد مبارك فريجون، الرائد إبراهيم سيد أحمد، الرائد شرف الدين إسماعيل، النقيب محمد المصطفى الشهير بـ "الجوكر"، النقيب محي الدين ساتي، النقيب عبد الرحمن مصطفى خليل، النقيب عباس عبد الرحيم الأحمدي، النقيب صلاح السماني الكردي، النقيب محمد أحمد محجوب "ود المحجوب"، الملازم مأمون عبد المجيد علي طه، الملازم عبد الرحمن حامد، الملازم الشيخ مصطفى، الملازم مأمون أحمد الصديق دار الصليح، الملازم عثمان حسن يوسف... كل هؤلاء حوكموا بالتجريد من الرتبة، والطرد من القوات المسلحة والسجن لمدد مختلفة. فلأي سبب يضحّي هؤلاء من أجل حزب لا ينتمون إليه أصلاً ولا يأتمرون بأمره ؟؟. إن دوافع وطنية بحتة دفعت كل هؤلاء ليساهم كل منهم بقدر ما استطاع في الخروج بالبلاد من المأزق الذي أرادت أن تدخلها فيه مايو.}


عبدالله الشقليني
19 يونيو 2020


alshiglini@gmail.com

 

آراء