{الأنبياء من عامة الناس. لكنك بواسع كرمك، صببت الأكسير على نحاس كينونتهم}
جلال الدين الرومي
** يشكل نشوء الإسلام وانتشاره ظاهرة تاريخية فريدة. ودراسة العصور السالفة هي مهمة شاقة على الدوام، تقتضي البحث الشامل المُدقق لكشف الغطاء عن أوجه الحوادث جميعا وإلقاء الضوء عليها، والتحقق من سببها أو أسبابها. مما جعل دراسة الإسلام يسيرة وفرة الروايات الموثوقة، فلم تعد ثمة عقبات لا يمكن للباحث الحذِر أن يذلّلها، شريطة أن يكون قادرا على التفكير بموضوعية وعلى أن يظل بعيدا عن التحيّز والتحامل. فمن الأمور الأساسية أن ينفض الباحث عن لوح عقله تلك الأفكار المتوارثة المغروسة.
و كتاب علي الدّشتي عن السيرة النبوية الذي كتبه عام 1974، ليس نتاجا للبحث المعمق، ولكنه منهاج متميز، بل هو محاولة لرسم خطوط عريضة، بل وبالغة العمومية للنقاط البارزة في ثلاثة وعشرين عاما من السيرة النبوية. لكنها تختلف من حيث المنهاج عن تراث السيرة النبوية كما عهدنا من كتب السلف. الكاتب الإيراني علي الدّشتي، يحاول في هذا الكتاب أن يقدم دراسة جديدة ومخالفة للكثير من الدراسات التي سبقتها عن السيرة النبوية ونشوء الإسلام.
(2)
علي الدّشتي ( 1896- 1982) :
من المعتقد به أن المحبة بين الناس تتطور، وتتقدم إلى القداسة، التي لا تقيم وزنا على محبة الناس بموازين العدالة، لا الطريق الذي تسلكه، بل مزيج من عقل المجتمع الجمعي الذي يركن للتهويل والتضخيم. فالتاريخ الديني هو تاريخ المعتقدين، وهو غير التاريخ الواقعي. فالكارهين والمحبين هم يحملون داء التضخيم والتعظيم وبهار السحر على سيرة الأنبياء. فكلما بعدنا تاريخيا عن رحيل النبي، كلما نهضت الحكايات من قاع الأذهان، واختلطت الخُرافة بالقصة الحقيقية. ونثر المجتمع وإرث العقول الباطنة الغبار على الحقائق التاريخية.
ربما كان تصوّر "محمود محمد طه " حول حياة النبي في خاصة نفسه، هو مجرد استبطان صوفي، من أن النبي قد وجد مجتمع المدينة غير قادر على العيش في التسامح الذي سمحت به الآيات القرآنية المكّية، فتراجع المجتمع عن الإسماح، فصارت حياته الخاصة هي الدّين في رسالته الثانية، وفق تصور" محمود محمد طه"، عندما هاجر النبي إلى المدينة. ولكن حياة النبي تغّيرت منذ حطّ مهاجرا بالمدينة، ولم يعد النبي في مسلكه الشخصي يقنَع بحياة التسامح، بدليل غزواته التي تعدت ستة وعشرين غزوة، وما اغتنى النبي وأصحابه من حروب الفيء، لو عاش التسامح في خاصة نفسه ما كان يكون له ذلك. وكذلك من تعدد زوجاته وغَيرتهن في تنقيص حياته الشخصية، حتى أفرد القرآن سورا تتناول تلك القضايا الخاصة، وهو ما كشفت عنه بشريّته من الآيات القرآنية التي ترد تباعا. لقد ابتعد ببشريته عن التسامح وتغيّرت طباع النبي. فقد تنبه لمغريات مجتمعه من حياة الغزو واقتناء الأسلاب بملك يمين الحرب.
لقد تحدث الدكتور" طه حسين" عن أن الذكر الحكيم، يمثل صورة صادقة لمسلك النبي وحياته، وتدخل النصوص القرآنية لإلقاء اللوم عليه من حين لآخر، تكشف أسرار حياته الشخصية. ويتحدث دكتور" يوسف الصديق" عن استغرابه لماذا طُمر الرجل و مقتنياته الشخصية، وحرمنا من سيرة هذا النبي العظيم الذي ما كتبت سيرته إلا في العصر العباسي؟، حتى جاء ابن إسحاق في نهاية العهد الأموي وبداية العهد العباسي ليكتب عن سيرة النبي، وتبعه ابن هشام في تلخيص السيرة النبوية التي كتبها ابن إسحاق. كان للصحابي "علي بن أبي طالب" قرآن يتتبع على أسبقية آيات النزول والحوادث الخاصة بذلك، وليس السوّر الطوال مع الطوال والقصار مع القصار، كما هو المصحف الذي جمعه الصحابي عثمان بن عفان. وكلا المصحفين غير موجود، وتوجد سور من الآيات القرآنية التي وردت في القرن الثاني الهجري.
(3)
يقر جميع لدراسين الأوائل للإسلام بأن النبي محمدا كان بشريا عاديا ما خلا تميّزه الروحي. وهذا ما تؤكد عليه: الآية 110 من سورة الكهف { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد...}. حتى علماء أهل السنة لا يرون أن العلم المطلق، صفات جوهرية من صفات النبي محمد، أن ربه اصطفى للنبوة رجلا محبوّاً بصفات بشرية كالعِلم والفضيلة بمقادير رفيعة تفوق المعتاد. إذ تبين: الآية 52 من سورة الشورى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا..}. وهو ما تنطوي عليه الآية التي ترد بعد هذه مباشرة، وهي الآية من سورة الأنعام بكل وضوح وحيوية، تورد الآية التي ترّد على أولئك الذين سالوا النبي معجزة: الآية 50 من سورة الأنعام{ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم بالغيب ولا أقول لكم أني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إليّ...}. وفي الآية 188 من سورة الأعراف التي تشير إلى النبي { قل لا أملك لنفسي نفعا و لا ضرّا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}. كان يؤمن بمكامن ضعفه البشرية أحسن الإدراك، ويعترف بها صراحة. أما صدق النبي وأمانته فيتجليان على نحو رائع في الآيات 1-11من سورة عبس:
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَن جَاءَهُ الأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى*أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}. وهي صورة من شفافية النبي وروحه حين تتواضع أمام خالقه. (4) إن رغبة النبي في أن يكسب إلى صفه أعيان قريش، وفي أحد الأيام أتى مسلم يُدعى عمر بن قيس بن أم كلثوم إلى النبي، فجعل يقول " يا رسول الله ارشدني " وعند النبي رجل من عظماء المشركين كان مشغولا بدعوته. فجعل النبي يعرض عن الأعمى ويقبل على الآخر. فنزلت السورة النبيلة عبس. وفيها تأنيب واضح للنبي. وفي الآية 55 من سورة غافر{ فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبّك وسبّح بحمد ربك بالعشيّ وَالإِبْكَارِ} فهذه الآية تنسب الذنب للنبي، وعليه فإن إيمان المسلمين اللاحقين بعصمة النبي، تأتي في تناقض مباشر مع النص القرآني. وكذلك الثلاث آيات الأولى: من سورة الانشراح 1-3 {ألم نشرح لك صدرك* ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك} وكلمة الوزر تحل محلها كلمة الذنب في الآيتين الأوليتين من سورة الفتح: الآية 1 من سورة الفتح{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا* ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما}. وفي الآيتين الأوليتين من سورة الفتح { إنا فتحنا لك فتحا مبينا* ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما}. كان النبي يعلم أنه عرضة للذنب، ولم يدّع لنفسه ما يدعيه الآخرون من عصمة ومرتبة تفوق مرتبة البشر. وذلك يرتقي بمكانة النبي الروحية أعظم الارتقاء عند كل من يعقل ويفكر. عادة ما ينفر البشر من اللجوء إلى ما لديهم من ملكة عقلانية، والارتكاز بدوافع من التقى والحماس، بالإيمان بعصمة النبي، ثم راحوا يشدّون الآيات القرآنية الواضحة، نحو تفسيرات بعيدة آملين أن يثبتوا تلك العصمة. كلما بعُدت الشقة في الزمان والمكان عن وفاة النبي، كلما أرخى المسلمون لخيالهم العنان. وسورة الفرقان 7{ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق..}. و سورة الأنبياء 34{ وما جعلنا من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون}. وسورة آل عمران 144{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل }. و سورة القلم 4 { وإنك لعلى خلق عظيم }. وقد كرر القاضي عياض والقسطلاني ، راحوا يذكرون القصص التي تلوي عنق الحقيقة. وسورة طه 131{ ولا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا...}. وفي سورة الأنعام52{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء...). وسورة الحجر 94 { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين }. وسورة الأحزاب 1{ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين}. وسورة الأحزاب 37{ وإذ تقول للذي انعمت الله عليه أمسك عليك زوجك، واتقِ الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه..} فقد راقت زينب بنت جحش للنبي، لكنه حين جاء زيد طالبا الإذن بطلاقها نصحه بألا يفعل ذلك وأن يمسكها. وبنصيحته فإن النبي قد أخفى رغبته الداخلية فيها. لكن الله قال له إن كتمان رغبته في أن يطلّق زيد زينب، إنما هو بسبب خشيته أن تتناوله ألسنة الناس بسوء، في حين كان عليه أن يخشى الله وحده. وسورة التحريم 1{يا أيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك...}. وسورة التحريم 3{ وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا...} ولا بد أن يذهل كل قارئ للقرآن، إذ يقع على مثل هذه الشؤون الخصوصية في كتاب مقدس ومدوّنة أخلاقية، تصلح لجميع البشر وجميع العصور!. فهل يليق أن يتضمن النص القرآني مثل كلام النساء هذا؟ ألا ينزل المفسرون بالله خالق الكون إلى مستوى ناشر للفضائح والإشاعات!. على أية حال فإن موضوع الثلاث آيات الأولى من سورة التحريم، لهو من نوع الجدال أو الخلاف الشائع بين الزوج والزوجة. والآية 4 من سورة التحريم{إن تتوبا إلى الله فقد صغّت قلوبكما وإن تظّاهرا عليه فإن الله هو مولاه..} سورة الفاتحة وآياتها لا يمكن أن تكون هي كلمات الله، فمن الواضح أنها كلمات محمد، لأنها لم تبدأ بـ (قل): مثل سورة الإخلاص { قل هو الله أحد..} أو سورة الكافرون { قل يا أيها الكافرون} والآية 110 من سورة الكهف { قل إنما أنا بشر مثلكم } فمن غير المنطقي أن يقول الله جلّت قدرته في سورة الفاتحة{ اهدنا الصراط المستقيم ...}
(5)
( 23 عاما دراسة في السيرة النبوية) ترجمة: ثائر ديب 287 صفحة الناشر : بترا للنشر والتوزيع - سوريا دمشق- الطبعة الأولى 2004 ** ولد علي البّشتي عام 1896 في قرية دشتستان القريبة من ميناء بوشهر، على الخليج وكتاب كتابه باللغة الفارسية عام 1974. عقب نشأته درس علوم الفقه والدراسات الإسلامية، وكذلك درس اللغة العربية وقواعدها وآدابها وبلاغتها، فضلا عن تضلعه في الفارسية. اطلع على الكتب الإنكليزية والآداب الفرنسية، لديه كتب وأسفار فكرية وفلسفية متعددة، وقد سجن أيام الثورة الإيرانية وقبلها عام 1946، هاجر لفرنسا ثم تمّ تعيينه سفيرا في مصر ولبنان، ثم تم تعيينه وزيرا للخارجية لفترة وجيزة في حكومة حسن علاء. ثم تمّ تعيينه عضوا في مجلس الشيوخ الإيراني. وتوفى عام 1982.
(6)
كثيرون الذين كتبوا في السيرة النبويّة منذ ابن إسحاق، الذي هو أول من كتب عن السيّرة النبويّة بعد مضي 120 عاما من وفاة النبي. وقد استعجب دكتور" يوسف الصديق" عن كيف قُبر هذا الرجل وقُبرت معه كل مقتنياته، ولم يمارس بنو أمية المباحث حول قراءة القرآن، بل دأبوا على تلاوته دون المضي النقدي. وقد قام ابن هشام في سيرته الذي يختصر كتاب سيرة ابن إسحاق. وكثير من رواة السيرة النبوية، تظلل كتاباتهم النقل عن سابقيهم. وتمدّدت الذاتية بالإعجاب والتضخيم الصوفي، ونبأت المعجزات وخرجت تأويلا من القرآن، رغم ملامة الذكر الحكيم لمسلك النبي البشري، في عدد لا يحصى من الآيات القرآنية.
تأثر النبي، حسبما يورد علي الدّشتي، في شبابه بكثرة من الكتابيين، وأهمّهم ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحوريرث وزيد بن عمرو بن نفيل.
قسم المؤلف كتابه إلى عناوين أهمها: سيرة النبي، والمعجزات، بشرية محمد، التغير في شخصية النبي، السلطة، النبي والنساء، الماورائيات، السحر والجن، الحياة بعد وفاة النبي، الخلافة، والسعي إلى المغانم، بعد وفاة النبي.
(7)
من مراجعه: آيات القرآن الكريم، فهي مرآة صادقة عن حياة النبي، ومن مراجعه الشيخ نجم الدين داية وهومن شيوخ المتصوفة، وكتاب الفارسية لمحمد باقر مجلسي وكتاب بحار الأنوار من مجامع الحديث الضخمة ويقع في 102 جزء، الأصل العربي من كتاب الطبري، كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وكتاب بستان السر لمحمود الشبستري، كتاب محمد حسين هيكل عن السيرة النبوية، والجامع لمحمد الترمزي، وكتاب الطبقات لمحمد بن سعد، ومسند أحمد بن حنبل، وكتاب أنوار التنزيل لعبدالله بن عمر البيضاوي، وكتاب محمد بن عمر الزمخشري - الكشاف عن حقائق التنزيل، وكتاب أبو حامد الغزالي إحياء علوم الدين وتهافت الفلاسفة والمنقذ من الضلال، عبد الوهاب الشعراني وهو صوفي، كتاب أبو العباس القسطلاني- مذاهب التفسير الإسلامي، مراجع أبو الحسن الخياط، وابن حزم وأبو الحسين بن الرواندي، وكتاب ثيودور نولدكه، ومحمد بن إسماعيل البخاري وصحيحه، وابن هشام وكتابه السيرة النبوية، وطه حسين في الشعر الجاهلي وعلى هامش السيرة، ونصير الدين الطوسي وكتابه الأخلاق النصيرية، و"أميل درمنغم " عن كتابه حياة محمد، ومحمد حسين هيكل وكتبه حياة محمد و أبوبكر وعمر، وأبو عمر الواقدي وكتابه المغازي، ومحمد بن جرير الطبري وكتابه تاريخ الرسل والملوك وكتاب جامع البيان في تفسير القرآن.