الخمور بين التربية والقانون
صحيفة التيار 16 يوليو 2020
(1)
عاش السودان منذ انهيار الدولة المهدوية في عام 1898 وإلى سبتمبر 1983 حالة من الاستقرار النسبي. ولم يكن هناك أي جدل حول مسألة تعاطي المشروبات الكحولية. لم تحظ هذه القضية بأي اهتمام، لا من المؤسسة الدينية الرسمية، التي كانت تقف على الدوام إلى جانب مختلف السلطات، ولا من الطرق الصوفية، ولا من عامة المواطنين. باختصار، لم تكن قضية تعاطي المشروبات الكحولية تحتل أي أولوية فيما تجري مناقشته من قضايا في المجال العام. فالبيئات السودانية، المختلفة، منذ الممالك الكوشية القديمة، وإلى يوم الناس هذا، عرفت صناعة الخمر في البيوت، بصورةٍ من الصور. بل ظل تناول المشروبات الكحولية ممارسًا بلا انقطاع، عبر التاريخ الإسلامي، بل وفي بلاط الخلفاء أنفسهم. (راجع كتب شوقي ضيف عن العصر الأموي والعصر العباسي). كما أوردت كتب الأحاديث، بأدلةٍ متواترةٍ، وبوضوح لا لبس فيه، أن النبيذ كان يُشرب حتى في صدر الإسلام. فموضوع شرب الخمر في الإسلام موضوعٌ جدليٌّ مختلفٌ عليه.
تطبيق الشريعة ومنع الخمور قضية جرها إلى دائرة الجدل السياسي، في السودان، تنظيم الإخوان المسلمين. فهي تمثل في نظرهم وسيلةً سهلة الامتطاء، سريعة الإفضاء إلى كرسي السلطة. لكن، بعد أن وصلوا إلى السلطة، وجلسوا في كراسيها ثلاثين عامًا، لم يطبقوا، ولا حكمًا شرعيًا واحدا. لم نر أيادٍ تُقطع، رغم السرقات التي تحدث كل يوم، ولا زانٍ أو زانيةً رُجما، ولا قاطع طريق جرى قطعه من خلافٍ، وصلبه. حين كان نميري حاكمًا، وقفوا وراءه بشدة في تطبيق العقوبات الحدية على الفقراء، ليحتمل هو وزرها، من سبتمبر 1983، وحتى سقوط نظامه في أبريل 1985. كان الهم هو الوصول إلى كرسي السلطة، وما أن وصلوه تركوا الشحن الديني الذي شحنوا به البسطاء، حول تطبيق الشريعة، يتبخر في الهواء. وهاهم الآن، بعد أن أُبعدوا عن السلطة، يعودون، كرَّةً أخرى، إلى عادتهم القديمة في إثارة البلبلة.
لا يختلف جَرُّ موضوع الخمر إلى دائرة الجدل السياسي، عن الحملة المفتعلة الخسيسة، التي أدت إلى حل الحزب الشيوعي عام 1965، وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان، ومحاكمة الأستاذ محمود بالردة عام 1968. أسلوب الحملتين واحد، وهو إثارة العاطفة الدينية لدى البسطاء، حتى يعموا عن رؤية واقعهم المجتمعي الحقيقي الذي يعيشونه. وهو واقعٌ ظل قائمًا دون أي تغيير، لآلاف السنين، ولم تستطع ولا الدولة المهدية، بكل نزعتها الطهرانية المفرطة، وحشرها أنفها في خصوصيات الناس، أن تغيره. على سبيل المثال، كان القائد المهدوي، النور عنقرة، يشرب خمره في بيته، الذي لا يبعد ميلاً من بيت الخليفة عبد الله. (راجع: مذكرات يوسف ميخائيل).
يقول الواقع التاريخي للشعوب السودانية، أن الناس ظلوا يصنعون، في كل أقاليم السودان، "الشربوت" و"الدكاي" و"المريسة" و" العسلية" وغيرها من المسميات، في المنازل، خاصةً في المناسبات. كما لم تخلُ، عبر التاريخ، قريةٌ أو مجموعة قرى متجاورة من أماكن لصنع وبيع الخمور البلدية. هذا واقع بالغ القدم، ولن تغيره القوانين المتعسفة، وجهالات المتشددين الدينيين، الذين لا يعرفون حرف الإسلام ولا روحه. هذا الواقع، يغيره الوعي، والتعليم، والتربية الدينية الصحيحة الحكيمة الموزونة، التي تتجه إلى ترفيع الشعور بالمسؤولية الفردية، وبالالتزام الداخلي بصحيح القيم. محاولة منع شرب الخمور بالقوانين لا تختلف في فشلها من محاولة خفض سعر الدولار بالقبضة الأمنية. فالضائع في هذا اللغو الباطل هو الحكمة. (يتواصل).
(2)
من الملاحظات اللافتة للكاتب الكبير الطيب صالح قوله: رغم أننا قطر هامشي في منظومة الأقطار العربية والإسلامية، وليست لنا آدابٌ مكتوبةٌ، ولا آثارٌ يُعتد بها في بنية الحضارة الإسلامية، إلا أنا، رغم ذلك، حاولنا مرتين، ادعاء أن لنا دورًا مركزيًا في العالم الإسلامي، بل وفي العالم أجمع. قام الإمام محمد أحمد المهدي بثورته العظيمة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحقق إنجازين عظيمين على المستوى الداخلي، هما: تحرير القطر من المستعمر المصري، التركي، ومنح السودان حدوده الجغرافية الشاسعة. غير أن المهدي توهّم أن دعوته ودولته تحتلان موقعًا محوريًا ينبغي أن يلف حوله جميع العالم. ألغت المهدية العمل بالمذاهب، كما ألغت الطرق الصوفية، وكفَّرت كل من لا يؤمن بمهدية المهدي، وجعلت من منشورات المهدي وراتبه مرتكزا جديدًا للعقيدة، يَجِبُّ كل ما قبله. وبناءً على تصور أن المهدية رسالةٌ إلهيةٌ إلى الناس أجمعين، سيرت المهدية الجيوش لفتح مصر والحبشة. ووثب في الربع الأخير من القرن العشرين، الدكتور حسن الترابي وجماعته إلى السلطة بانقلاب عسكري. جاعلين من فكرتهم ودولتهم منصة ينطلق منها البعث الاسلامي ليعم مشارق الأرض ومغاربها. ولم يتعظ الدكتور الترابي ورهطه من التجربة المهدوية. فانتهت تجربتهم إلى كوارث متلاحقة ودمارٍ فظيعٍ فاق كل ما جرى في الحقبة المهدوية.
مصر هي موطن الأزهر، أعرق الجامعات الإسلامية. وتركيا هي مركز الخلافة الإسلامية العثمانية، حتى الربع الأول من القرن العشرين. غير أن هذين القطرين لا يحرمان صناعة الخمور، ولا الاتجار فيها، ولا تعاطيها. أما جمهورية باكستان الإسلامية فتمنع تعاطي المسلمين لها، ولا تمنع أن يتعاطاها غيرهم من أهل الديانات، وبها مصنع للخمور. أما ماليزيا وإندونيسيا فتسيران على نهج تركيا ومصر والمغرب وتونس والجزائر ولبنان والعراق وسوريا والأردن، أي نهج السماح بلا قيد. وتختلف درجة السماح قليلًا في دول الخليج. فسلطنة عمان والإمارات وقطر والبحرين، تسمح باستيراد الخمور وتقديمها في الفنادق، وبعض المطاعم. وفي هذه الدول منافذ لشراء المواد الكحولية، لكنها لا تبيع إلا لمن يحمل تصريحًا حكوميًا. لذا يستغرب المرء في تحريض عبد الحي يوسف للجيش للإطاحة بالحكومة المدنية، بدعوى أنها تهدم الدين. لماذا يا ترى يصمت عبد الحي، عن تقديم نفس الطلب للجيش التركي ليطيح بأردوغان؟
أرجو ألا يظنن أحدٌ أن سبب عدم تشدد هذا العدد الكبير من الدول الإسلامية، يعود لقلَّةٍ في المعرفة بالدين، أو تنكُّرٍ لأحكامه. في كل هذه البلدان علماء أجلاء. بل إن علماءنا تتلمذوا، عبر التاريخ، على علماء الأزهر منذ أيام السلطنة الزرقاء. السبب في تقديري، هو المعرفة بمقاصد الدين، وتوخي الحكمة في التشريع، وفهم الواقع العملي القائم. يضاف إلى ذلك، أن الأحاديث والوقائع المروية في أمر الخمر ورد في بعضها ما يؤكد أن العقوبة تنصب على السُّكْر، وليس على مجرد الشرب. وكما هو معلوم، فإن روايات الأحاديث وروايات الوقائع التاريخية، وردت بصورٍ مختلفة، تصل حد التعارض، أحيانًا. فالفقهاء المتشددون يعتمدون منها ما هو أكثر تشدُّدًا فيجعلوا منه تشريعًا عاما. أما المعتدلون فيميلون إلى النصوص والوقائع التاريخية التي تبتعد عن التشدد والغلواء. وسوف أورد نماذج من هذه الروايات المختلفة في عمود الغد، ومع ذلك، تبقى للحديث بقية. (يتواصل).
(3)
ذكرت في العمود السابق، أن الفقهاء صنفان: صنف متشدِّد وآخرٌ معتدل. يميل الصنف المتشدد إلى العنت، والمعتدل إلى اليسر. يضاف إلى ذلك، أن روايات الأحاديث النبوية والوقائع التاريخية الإسلامية، يقع فيها الاختلاف. وقد يجد المرء حديثًا مرويًا بعدة صيغ، أو رواية لحادثة بعدة صيغ، تخلق اقدرًا من الاختلاف في المضمون. وسوف أورد نماذج لهذا في ذيل هذا المكتوب. أيضًا، من المعروف تاريخيًا والموثق، أن جمع الأحاديث جرى بعد أكثر من قرنٍ من بداية التاريخ الهجري. لذلك، فإن درجة الموثوقية العالية التي يمنحها المشتغلون بالفقه للأحاديث، ليست بالتماسك كما يظنون، ويظن كثيرون. وقد كثرت في الفترة الأخيرة الآراء الداعية إلى أخذ روايات الأحاديث بحذرٍ شديد، خاصة حين تتعارض مع نصوص القرآن، ومع المعقولية اللائقة بدينٍ رباني. وقد ذهب البعض إلى ضرورة الاستناد إلى القرآن بوصفه النص الأوثق، الذي ينبغي أن يكون المرتكز النهائي، حين تستشكل الأمور. وعمومًا، فإن العصر الذي جرى فيه تدوين الأحاديث لم يكن عصر تقوى، كصدر الإسلام، وإنما كان عصر ملك عضوض، أصبحت أهواء السياسة حاضرةٌ فيه بشدة.
أكثر من ذلك، يورد بعض الباحثين أن هناك أحاديث صحيحةً تنهى عن كتابة أحاديث النبيّ، مطلقًا. فقد روى أحمد، ومسلم، والدارِميّ، والترمذيّ، والنسائيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عنّي شيئاً إلاّ القرآن، فمَنْ كتب عنّي شيئاً غير القرآن فليمحه". الشاهد، أن الظن بأن الأحكام المستنبطة من جانب الفقهاء هي أحكامٌ نهائية غير قابلة للمراجعة، أبدًا، ظنٌّ غير صحيح.
من أمثلة الروايات المختلفة للأمر الواحد، ما رواه أبو موسى الأشعري من أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه هو ومعاذًا إلى اليمن. قال أبو موسى: قلنا يا رسول الله إن بها (أي اليمن)، شرابين يُصنعان من البر والشعير، أحدهما يقال له المزر والآخر يقال له البتع، فما نشرب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشربا ولا تسكرا". أما الرواية المغايرة فقد ورد فيها أن النبي قال لهما: "اشربا، ولا تشربا مُسكرا". فرواية "اشربا ولا تسكرا"، أباحت لهما الشرب بشرط ألا يسكرا. أما الرواية الثانية فتقول: اشربا ولا تشربا مسكرا" وفي هذه غرابة. لأن السائلين ما سألا إلا لأنهما يعلمان أن هذين الشرابين مسكرين. ولذلك، كان رد النبي الكريم، "اشربا ولا تسكرا". فهذه الرواية أكثر تماسكًا من الأخرى التي قالت: "اشربا ولا تشربا مسكرا". فهما لم يسألا عن مطلق شراب، وإنما سألا تحديدًا عن شرابين، مسكرين، باسميهما.
أيضًا، من الأدلة على أن العقوبة إنما تنصب على السكر، ما جاء في سنن البيهقي من: "أن رجلا أتى سطيحةً لعمر، فشرب منها فسكر، فأتي به عمر فاعتذر إليه، وقال: "إنما شربت من سطيحتك"، (أي من نفس وعائك). فقال عمر: "إنما أضربك على السكر"، وضربه عمر." حاول هذا الرجل أن يُعفى من العقوبة لكونه قد شرب من نفس الشراب الذي يشرب منه عمر. فرد عليه عمر بأن السبب في معاقبته ليس مجرد الشرب، وإنما السكر. وهذا واضح جدًا في قول عمر: "إنما أضربك على السكر". واجبنا اليوم أن نجتهد، لا أن نستسلم كليًّا للأقدمين. (يتواصل)