روحي تُجالِس الحاردلو (1830-1916)

 


 

 

 

ربما هي (حَضْرة) مما تُخاطِر المُتصَوِفة، وربما هو نسَّامٌ عليل جَفَل من بين السَمُوم، وقصدني. أقلق مَنامي وسافر بي لملك ملوك شعراء البطانة. ما كُنت أحسب أن العُمر يرحل بي إلى الزمان الماضي. تشهق من وهَجَها المُفاجأة. وُلد الحاردلو بضع سنوات من بعد غزو الأتراك للسودان. ولدت أنا من بعد النصف الثاني من القرن العشرين. رحلت أنا إلى الماضي روحاً لا جَسداً ، ورحل هو إلى المُستقبل والتقينا. ربما رآه هو ضرباً من الخيال مُشرقاً، و أراه أنا حُلُماً مُتقلِباً. 

وجدت نفسي على سِجادة من حَصير. تتمدد هي من فوق رملٍ خَشن، وأنا في وسطها جالِس. الحاردلو نوره يشِع من حوله، وأنا أتزين بمرآه حالِماً أمام الملك الذي زين أصقاع الدُنيا بشعره الفارِه. أجده الآن وقد علاه شيب السنين. أرادت له الدنيا بعض شقاء يحلّ عليه ، وقد كان في صباه يرفل في رغد العيش وطعم الحياة الناعِم، فأخاه ناظر القبيلة.
بين غَبش الضَحويّة، وسماء تصفو من بعد ما بلَل الخريف الأرض من حولنا، ونبتت الخُضرة لتُغري أسراب الغُزلان لتجاور المَضارِبْ. وجدت نفسي أقول له:
- أأنتَ الحاردلو، محمد أحمد أبوسن؟
قال:
- الضيافة لك أولاً. استطعِم فأنا أرقبك ومن بعد نتحدث.
قلت:
- ألا تأكل معي؟
تجاهل سؤالي و قال:
- خُذ من هذا الشواء ... وذاك الثريد أيضاً.
استطعمت من الكرم الباذِخ. حمدت المولى شاكِراً وقد تبقى من الطعام ما يكفي عشرة أمثالي!. غسلت يديّ من الإبريق المجاور. من بعد الطعام المُشبِع استملَح ملِك الملوك مُجالستي، فقلت:
- أرى في عينيك فرح البوادي وحَسرة الشعراء!
قال:
- أنا من مواليد بواكير التُركية السابقة بعد أن وطئت خيولها أرضنا. من بعدهم جاء المهدي واستبشرنا خيراً. كان عمره قصيراً من بعد استرداد الخرطوم، ثم توفى. خلفه الخليفة عبد الله ود تورشين. أغلظ علينا الخليفة رحمة الله عليه. حبسني حبساً ثقيلاً لا يُشبهني ولا أستحقه ولا يشبه أهلي أو عشيرتي. تركتني الدنيا الرافلة في النعيم وجاءت العُسرة وافتقَرت من بعد غنى. يجالسني الشعراء هذه الأيام، يقرؤون عليّ من ضروب الشعر، من ( المسدار) و (المربوقة ) و( الرباعية ). أأنت منهم؟
قلت:
- لا سيدي .. أنا من زمان غير زمانك، أحب الشعر وأرغب التعلّم.
قال:
- أتُحسن المُجاراة ؟.
قلت:
- لا أحسِن.. ولكني سأجرِّبْ.
قال:
- اسمع يا ولدي،

ودَوُّ اخْباري يا عُـــــوَّادي
قولوا مَقِيلو إِنْ أَمْسا بِصْبِحْ قاضـي
شَمْباني ام نَعيمْ ضارباني بي في فؤادي
قَبَلو مِعَضَّضَّة وْشِبْرينْ مَرقْ بي غـادِي

حاصرتني المفاجأة، واستدعيت ذاكرتي أين قرأتها من قبل؟. أنني الآن قد توسطت اليَّم ولا مخرج لي، فقد غرقت المراكِب. توسلت سيد ملوك الشعراء أن ينتظر إلى الغد فلم يقبل. قال لي:
- حَدِق في عَينيَّ وقلْ أي كلام أنا أقبله منك، وإن أفلحت سأعلِمك شريطة أن تبقى معنا وأقيم لك راية بين أهلنا.
قلت له متلعثماً : .…….
شِيلِوا الخبار اللَيلَة يا عُـــوَّادي
الحُمَى العَلي بتْدُوُرْ مُمَارضاً فَاضي
سَهّمَا غَوِر فِينِي ْفَاتْ لا غَـادِي
والحَال العَلي صبْحَتْ تَسُرْ حُسَادي
تبسم هو وأنا أتصبب عَرَقاً، ثم قال :
- يلزمك الغريب المُعتَّق من كلام البوادي. تعال وعِش معنا بقية أيامك. نُسمِعك حديثاً ونُطعمك طعاماً وتشتَم ريحاً بيننا تُغنيك عن غيرنا.
قلت :
- لقد تعودتني الرفاهية، إنها ناعمة. عندنا الرائي حين تشاهده دونه السِحر. عندنا المذياع، عِفريت يسامِر الأطياف، يُشجيني ويطربني وينقل لي خبر القاص والداني. أنا ابن موائد الترف العصري. يصلح الريف لي كمهرب من ثقل الهموم إلى الراحة، ولكنني ابن الزمن القادم. إن قدمت اليكم فهو قدوم من يطلب الراحة بين الرَهَقْ والرَهَقْ. لك شكري سيدي فأنتم أهل الكرم وأبناء الكرام …
قاطعني قائلاً:
- أمِن الزمن اللاحِق أنتَ؟
ضحِكت ثم قلت:
- نحن الآن في العام ( 2005 ) من بعد ميلاد النبي عيسى بن مريم.
قهقه هو ضاحِكاً:
- ماذا تقول!. نحن الآن يا بُني في العام ( 1905 ) من بعد ميلاد السيد المَسيح. أأنت هبطت عليّ وسقطت من علياء السماء مائة عام لتُجالسني!. ربما أنت شيطان آخر من شياطين الشِعر التي ما فتئت تتقصد صفوتي.
قلت متبسماً:
- أنا مولود من بَعد رحيل ( أبَّان عُيوناً خُدُرْ )
قال لي بتعَجُبْ:
- أتظن أنهم يخرجون؟
قلت:
- أنا من الزمان اللاحِق. أبي حكى لي عن خروجهم. وأشهدْ الرائي فيه كل الوقائع.
انتفض الشيخ وقال:
- دعك من حديث خُرافة، واسمع ما أنشدت أنا في الغَزل.
قلت:
- نعم سيدي، لهذا قَدمت مجلسك فاروي ظمئي.
عندها أنشد ملك الملوك:

كَم شويَمْ لَهِنْ وَكْتاً عُدالْ ايَّامـي
شِيخْ اللَّتْبَراوِي وفيِهو ماشِي كَلامِي
بالغَبِي والبَيانْ ما بْطُلَّها الغَنَّامِــي
دي قِسْيَتْ عَلِى ناساً كُبارْ و مَسامِي

ضحكت وقلت له:
- ألم تزل تُحِن إلى المَحبة، وقد عَفَّرك المَشيب. قبلك ابن أبي ربيعة، عندما يؤرقه الحنين إلى الغزل وهو في عمر المشيب، يُحرر من جواريه بقدر أبيات غزله الشعري.
تبسم شاعرنا الحاردلو قائلاً:
- أنت لا تعرف البُطانة ولا تعرف حلاوتها. نساؤها غزلان يرفُلن في البوادي. ويا حَسرة من رأى ولم يغَنِم. الضاوية مِنهُن تنفُض عني ثِقل السنين، وأعود شاباً في ريعان صباي. أسبُقك في المسير والعدو من فوق ظهور السفائن، ولن ينصُرك شبابك الذي تتغنى به. أعطِني أذنيك بُنيَّ و اسمع الدرس الأول:
ضَرَبولو الهُبُك واتْجَمَّع البِيشــانْ
جاتْ تَقْدِلْ مِهِرَةْ كِرْجَة وَدْ عَدلانْ

ثم الدرس الثاني:
بِتْ أَلْبِي سَرَبْ قَنَّاصِي ما نَشَّاهِــنْ
مَرَقَتْ مِن كِلابْ اَلْبِي الشَّرَعْ وَشَّاهِنْ
مِنْ سَرْقْ إيدي جِيزَانْ الدُّموعْ بَشَّاهِنْ
رَقَدَنْ في الشَّلوخْ لا النَافْلَة ماقَشَّاهِـنْ
ثم الدرس الثالث:
كَبسْ الهَمْ عَليْ لِيلِي ونِهاري مْسَّرحْ
بطنْي اشِّيمطَتْ قلْبي البِفِرْ مِجَّـرَّح
الصايْدنِي كانْ صادْ الحُجارْ بِتْمَرِّحْ
لَكنْ رحمة المَولى الوَسيعَة تْفَــرِّحْ
صرخت فَزِعاً:
- أرحَمني يا مولاي …الرحمة الوَسيعَة تْفَرِّحْ .

عبد الله الشقليني
8 مايو2005


alshiglini@gmail.com

 

آراء