الكلاسكية المُحدَثة في الغناء السوداني

 


 

 

 

Khaldoon90@hotmail.com

 

الكلاسيكية المحدثة أو ما تُعرف بال Neoclassicism ، هي تيار أو مذهب فني وإبداعي ناظم لجملة من الفنون البصرية الجميلة ، الحرفية منها والقولية والأدائية وسائر الأداب ، التي تستوحي معاييرها وخصائصها ومقوماتها الفنية والمعرفية من النماذج الجمالية الكلاسيكية القديمة. أو هي بمعنىً آخر ، نزعة لاكتشاف القيم الجمالية التي كانت سائدة في العهدين الإغريقي والروماني على التوالي ، والاستيحاء منها أواستلهامها ، ومحاولة تقليدها والنسج على منوالها.
على أن الكلاسيكية المحدثة من حيث ظهورها التاريخي ، قد جاءت – خصوصاً في السياق الأوروبي أو الغربي عموماً - بعد الرومانسية ، بل دخلت مع هذه الأخيرة في منافسة محتدمة في شتى المجالات والميادين الفنية مثل النحت والتصوير والعمارة والشعر والغناء والموسيقى وهلم جرا.
ولا شك أن تلك الكلاسيكية المحدثة ، قد توالدت واستنسخت منها كلاسيكيات محدثات أخر ، وعلى نفس النمط والملابسات تقريبا في دنيا الإبداع على مستوى العالم كله ، سواء كان ذلك بتأثير مباشر أو غير مباشر ، وبوعي أو بدون وعي حتى. ذلك بأن الإنسان من حيث هو ، يظل مشدوداً إلى الماضي برابط سحري ، ويظل يحتفظ له بهالة من التقديس والإكبار دائما وأبدا. فعلى سبيل المثال ، نجد أن أسلاف السودانيين من ملوك مملكتي نبتة ومروي المتعاقبتين 800 ق.م – 350 ميلادية مثلاً ، قد بنوا الأهرام ، بنفس طريقة ملوك الأسرات المصرية الأولى ، أي الذين سبقوهم في الوجود بألفي عام وأكثر تقريبا.
أما في دنيا الشعر العربي خاصة ، فقد لاحظ عامة النقاد والباحثين ، أن نهضة الشعر العربي المعاصر في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، قد ارتبطت هي نفسها بنمط ما من أنماط الكلاسيكية المحدثة ، كما تجلت في أشعار البارودي وشوقي وحافظ والرصافي والزهاوي ومحمد سعيد العباسي وبدوي الجبل والجواهري. وقد كانت تلك بكل تأكيد ، كلاسيكية محدثة مقلدة لكلاسيكية محدثة أخرى هو الشعر الأموي والعباسي ، الذي حذا بدوره حذو الأصل الذي هو الشعر الجاهلي.
ولكن هذا التقسيم والتحقيب للأجناس الشعرية العربية في العصر الحديث ، لن يظل صارماً وصمديا بصورة قاطعة مطلقا ، إذ ما يزال الشعراء ينظمون ، وسيستمرون ينظمون في شتى ضروب الشعر العمودي الكلاسيكي والرومانسي والتفعيلة وقصيدة النثر في وقت واحد معاً ، وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. وهكذا سيظل الشيخ إبراهيم الدلال مثلاً ، يخطر كالجمل الأورق بين روضة الحاج ونجلاء عثمان التوم إلى ما شاء الله !.
لقد خطر لي في الواقع ، أن أتلمَّس بعض مظاهر الكلاسيكية المحدثة في الغناء السوداني ، وذلك من حيث النصوص الشعرية ، والألحان ، وطرائق الأداء ، التي بدت لي شديدة الشبه والنزوع إلى النسج على منوال الأعمال " الكلاسيكية " القديمة ، كما تتجلى بصفة خاصة في ما يسمة بأغنيات " الحقيبة " ، وغيرها من النماذج التراثية العتيقة.
فمن بينك تلك الأغنيات التي تنتمي لما يمكن أن نطلق عليها " الكلاسيكية المحدثة " مثلاً ، أغنية"
يا الغرامك لى جسمي ناحل
يا المضمر مفدوح وكاحل
هذه الأغنية هي من كلمات شاعر اسمه محمد الحسن أحمد محمد صالح ، من أبناء الشمالية ولكنه كان يعيش في مدينة بورتسودان ، وهو شاعر مقل لم تشتهر له غير هذه الأغنية التي اشتهر بأدائها كل من المطربين عوض الجاك وخوجلي عثمان على التوالي رحمهما الله. والراجح أن تاريخ تأليف هذه الأغنية لا يتجاوز الخمسينيات وربما الأربعينيات من القرن المضي على أبعد تقدير ، وهي بالتالي خارج النطاق الزمني لأغاني الحقيبة 1920 – 1940م ، ولكنها بكا تأكيد تنسج على منوال الحقيبة في جميع خصائصها.
ومما ارتبط بهذه الأغنية من روايات طريفة ، أن الشاعر الكبير محمد بشير عتيق قد استنتج من أحد أبياتها أن مسرحها هو مدينة بورتسودان ، وهو قول الشاعر:
وجوز عيونو مدافع السواحل !!
وفي ذات السياق أيضاً ، تندرج تلك الأغنية الحماسية من تأليف الأستاذ عمر الحسين رحمه الله ، وأداء الفنان الكبير سيد خليفة ، والتي كانت من أيقونات الفترة المايوية في سبعينيات القرن الماضي وكل العهود في الواقع ، لأنها تمتدح قيم الفروسية والنخوة والكرم والشجاعة من دون ربط لها بشخص معين:
شدولكْ ركبْ فوق مهرك الجمّاح
ضرغام الرجال الفارس الجحجاح
يا عصار المفازة اللى العيون كتَّاح
المال ما بهمّك .. إنْ كِتِل وان راح
وكذلك أغنية الحماسة الأخرى " الفينا مشهودة " ، التي هي من تأليف الشاعر " محمد علي أبو قطاطي " وأداء المطرب الكبير " عبد العزيز محمد داؤود ":
الفينا مشهودة
عارفانا المكارم نحن بنقودا
والحارة بنخودا
ركابين عليه الماصع أب غُرَّة
نتباشر وكت نلقى الكلام حرَّا
والخواف ده مو حُر منو نتبرّا .. الخ
وسمعتُ أحد ناشئة المقلدين يقول: ركابين عليه الناصع أب غُرَّة ، فكأنه فهم أن الحصان ناصع البياض مثلا ، وليس الأمر كذلك ، وإنما المقصود أن الحصان ماصع بالميم في أوله ، أي فحل جامح وصعب القياد
ومن أغنيات الكلاسيكية المحدثة المدهشة ، أغنية من تأليف ولحن وأداء مطرب معاصر هو الأستاذ إبراهيم خوجلي. أما اغنيته تلك " الكلاسيكية " المدهشة ، التي تحيل إلى نصوص الحقيبة وجماليات لغتها المصقولة ، وقاموسها المميز فهي أغنية " جدي الخدور ":
جدي الخدور الما وعى
عطّش رويحتي وجوّعا
بى رنعتو وحسن انقسامو !!
أما أغنية الشاعر الرحل الأستاذ " عبد الله محمد زين " ذائعة الصيت " أنا ام درمان .. أنا السودان " ، فهي عندي تعتبر بحق واسطة العقد بالنسبة لمجموعة أغنيات " الكلاسيكية المحدثة " في السودان. فما أن استمعت أنا شخصياً لأول مرة إلى هذه الأغنية من أداء الفرجوني في منتصف ثمانينات القرن الماضي ، لم أشك للحظة واحدة أنها من تأليف واحد من رواد مدرسة الحقيبة مثل أبو صلاح أو سيد عبد العزيز أو إبراهيم العبادي أو عبيد عبد الرحمن ، وأن ملحنها ربما كان في الغالب " كرومة ":
أنا ام درمان .. أنا السودان
أنا الدُّر البزين بلدي
أنا البهواك سلام وأمان
وانا البفداك يا ولدي
* * *
أنا ام درمان سليلة السيف قسمت الليل وقمت صباح
أنا الولدوني بالتهليل وهلّت فوقي غابة رماح
أنا الطابية المقابلة النيل .. وانا العافية البشد الحيل
وانا القُبّة البتضوي الليل وتهدي الناس سلام وأمان
ويعود تاريخ تأليف هذه القصيدة الرائعة إما إلى أواخر سبعينيات القرن الماضي أو أوائل الثمانينيات منه ، ولكن روحها تشي بأجواء العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين كما أسلفنا. وقد كتبها الأستاذ عبد الله محمد زين وهو في منفاه الاختياري معارضاً سياسياً بلندن التي اختاره الله إلى جواره بها في عام 2007م.
ويسرنا أن نختم هذه الطائفة من تلك الأعمال الكلاسيكية المحدثة ، بأوبريت " ملحمة السودان " تلك القصيدة التي ألفها الشريف زين العابدين الهندي في عام 1981م ، ولكنها لم تخرج ملحنة ومؤداة إلى الجمهور بواسطة الفنان الكبير الأستاذ عبد الكريم الكابلي إلاَّ في حوالي عام 2010م ، وقد حشد فيها الكثير من معاني الوطنية والحض عليها ، والدعوة الصادقة من أجل التمسك بها ، بوصفها صمام امان السودان من أدواء التشرذم والشتات:
مساهر ليلك الطوّل نجومو هجوع
وغرقان في جوّه السحاب مصروع
بصارع فيك ضلام تمكّن سنينو سبوع
وأراقب فجرك الآذان زمانو سطوع
* * *
بشوفك في عيون النيل وفي الأطفال
وفي تاريخك الأخضر على الأجيال
وفي بحر الدِّمِي اللسَّعْ بِجِمْ سيَّال
وفي مستقبلاً واعد كُبار وعيال

 

آراء