ان سلطة الأخطاء القاتلة والجهود المبددة، والفرص المضيعة، التي تجعل الشعب السوداني يدفع دائماً ثمناً غالياً، لتجاهل الجالسين على سدة الحكم عن تلك الوقائع، وإحجامهم التعلم من تجارب الماضي الأليمة. والخطر، بل الحقيقة أنه سيكون هناك قوى أكثر سلاحا من جيشهم، وأشد عدوانية، وتشجع على العنف وتدمر الأمال. إن الواقع الذي يعيشه البلاد، يجعل الشعب السوداني يصاب بالإحباط وهم يرون المفاوضات العقيمة الجارية بين الحركات المسلحة في جوبا، تطول دون مبرر جدي ، ومن دون أسباب مقبولة، والعودة دائماً إلى المربع الأول. ويصاب السودانيون أيضا باليأس وهم يشاهدون الدماء النازفة في دارفور ، كردفان ، والشرق، والشمالية ، وولاة الأمر يغضون النظر عن هذه القضايا الجوهرية للبلاد، ولا يتدخلون إلا بعد سيل الدماء، حيث يقود هذا السلوك إلى السير في طريق العجز والشلل في معالجة القضايا التي يجدر التصدي لها قبل التفاقم وإستخدام السلاح القاتل. هذا الوضع يذكرني بقول الشاعر: ما زلنا في غرف التقدير على سرر التخدير ننام والعام يمر وراء العام وراء العام وراء العام والأرض تميد بنا والسقف يهيل ركاما فوق ركام إن الشعب السوداني لا يعاني من فقدان الذاكرة كما يتصوره الكثيرون من أقطاب السياسة، ويتوقع منهم، تحمل مسئولياتهم عن الكوارث التي شاركوا في صنعها منذ فجر الإستقلال والتي تعيش البلاد اليوم أخطر مراحلها. ولتجنب ذلك، والمحافظة على أرضنا الحبيبة، علينا أن نضع برنامجاً لإستخدام الإمكانات المتاحة، لكن الحرمان هو الشائع، وهذا ما يزيد القلق. لدينا الكثير مما لا نستفيد منه، وهذا هو الهدر الذي يكاد يبلغ حد التدمير الذاتي. لدينا أرض زراعية وافرة خصبة، لكنها لا توفر حتى الأمن الغذائي ويخيم على البلاد سمة (المجاعة)، علما بأن السودان كان يرجى منه أن يصبح سلة غذاء العالم العربي. لدينا المياه الجوفية والسطحية، بل النيل بفروعه المتعددة، ولكن الكثير من شبكات المياه تظل خارج العمل، والعطش يسود أرجاء البلاد، والأخطر قيام سد النهضة الاثيوبي، وتفاقم مشكلة تقاسم مياة النيل الأزرق، المصدر الرئيسي لمياه النيل. لدينا عدد ضخم من المستشفيات والمراكز الصحية، لكنهم لا يوفون بخدمة الجماهير الفقيرة، والأمراض الفتاكة متفشية في السودان، بل زاد الوضع تعقيدا ظهور جارحة كارونا، وندرة الدواء، وغلائها الفاحش اذا وجد، مع هجرة الأطباء والكوادر الطبية الفنية المتخصصة، التي هي السمة السائدة في البلاد. لدينا الفقر والبطالة والعطالة وهجرة الكفاءات الماهرة ولا علاج لهم في الأفق. لدينا طاقة كهربائية تفي حاجة البلاد، بل تتجاوزها للتصدير، لكن إنقطاع التيار الكهربائي والخروج المستمر لتوربينات سد مروي عن الشبكة الرئيسية(مسلمة: لن تدخل حتى يلج الجمل سم الخياط)، والظلام الدامس هو الواقع. لدينا الكثير من المدارس والجامعات ودور العلم المختلفة، لكنها تنتج جيوشا جرارة من العطالة، والسلم التعليمي وصل أقصى درجات الإنحدار، ويوصف بالأمية المقنعة(علما بأن السودان كان يضرب به المثل في المستوى التعليمي على جميع النطاق في القارة الأفريقية والمنطقة العربية، بل عالميا). لدينا الكثير من الكفاءات العلمية النادرة في بلاد المهجر الإجباري ، ولا مكانة لها في أرض الوطن. لدينا الكثير من المال يصحبه فقر واسع الإنتشار للغالبية الساحقة للمجتمع السوداني. لدينا الكثير من ملياردات العملات الصعبة المستثمرة في الخارج، والبنك المركزي ينزف من شح الإحتياطي النقدي له مع تهاوي مريع متسارع لقيمة العملة الوطنية، وتصاعد فاحش لإسعار السلع الإستهلاكية ليزداد غلاء المعيشة. لدينا ثروة حيوانية من أضخم الثروات في أفريقيا وجهت للتصدير، مع إنعدام العناية الطبية البيطرية، وإندراس المشاريع الطبية البيطرية، والمواطن يسيل لعابه عندما يرى اللحم في الجزارة ولا يستطيع شرائه. لدينا أيضا ثروات ضخمة لا تستخدم للإنتاج بل للإستهلاك وخاصة المضاربات العقارية. لدينا جهاز مصرفي يطمئن دائما بالثقة دون أن يشرح لنا ماهيات آليات النظام المالي والإستفادة منها. لدينا الكثير من المال في البنوك وعجز دائم في موازنة الدولة وتسول المساعدات. لدينا الكثير من الثروات الدفينة المستخرجة وخاصة الذهب، ولا يعرف كيف تدار، وأين ذهبت أو بددت عائداتها بالعملات الحرة، والحال كذلك مع حقول النفط. لدينا قطاع سياحي جاذب، ولكن لا توجد خطة هادفة لإستثماره. لدينا سكك حديد، كانت الشريان الرابط لإجزاء السودان، لكنها أصبحت خردة معطلة وحلت مكان محطاتها العمارات الخاصة الفخمة، ولا يعرف أين ذهبت قيمة إصولها مع النقل النهري والبحري، والجوي، وكم بلغت، يضاف الى ذلك، أين ذهب مبلغ 30 مليار دولار قيمة اصول مشروع الجزيرة، والتي أشرف علي بيعها وزير المالية والطاقة أنذاك؟( سأتحدث عن مشروع الجزيرة والسكة حديد في مقال قادم). لدينا الطرق والكباري التي تتهاوي بين الحين والآخر، وشيدت بالفساد، بل تفتقرها غالبية مدن وأرياف الوطن. لدينا نظام إتصالات هاتفية وإلكترونية كثيرا ما تظل خارج الشبكة. لدينا الكثير من السلاح الذي لا يستخدم للدفاع عن الوطن، أنما تتزلق نحو الحروب الداخلية وتحصد دماء المواطنين. لدينا سياسيون فشلوا في كل شيء ماعدا الخطب الجوفاء، ويملكون الكثير من الشطارة وقليل من المعرفة. نعم لدينا الكثير مما لا نستخدمه، أو ننسى إستخدامه، بل الفوضى والإستبداد والمحسوبية والنزاع وأحادية القرار هما نمط الحكم السائد في السابق واليوم. نعم لقد اصبح السودان وطن ينحر، ولا ندري الضحية القادمة التي تقدم قربانا للإستمرار والكنكشة على كرسي الحكم. ما يحتاجه البلاد هو أن يضع القابضين على زمام السلطة في نصب أعينهم، أولا وليس آخرا المحافظة على تراب الوطن، بمراجعة مواقفهم وسياساتهم، وحل مشاكل المهمشين بالتراضي مع جميع شرائح هذه السودان، بل يستوجب الأمر الحصول على إجماع الإتفاق والتوافق الوطني.