مساعدات ميتة (2) .. ترجمة معز محمد نور

 


 

 


نواصل في هذا الجزء الثاني من المقال ترجمة فقرات من كتاب مساعدات ميتة للدكتورة دمبيسا مويو، وتوقفنا في الجزء الأول عند الحديث عن أجندة المساعدات في الثمانينات....

أجندة المساعدات في التسعينات: المسألة متعلقة بالحوكمة
بحلول نهاية الثمانينات، بلغت ديون البلدان النامية ما لا يقل عن تريليون دولار، وكانت تكاليف سداد هذه الديون هائلة. في الواقع، اصبحت الفوائد كبيرة لدرجة أنها أدت في النهاية إلى الحد من تدفق المساعدات إلى البلدان الفقيرة، بل وأدت إلى تدفق عكسي للأموال من البلدان الفقيرة إلى الغنية والتي وصلت إلى 15 مليار دولار سنوياً بين عامي 1987-1989. من وجهة النظر التنموية، كان لذلك تأثير سلبي كبير على التنمية، حيث كان النمو الاقتصادي في أفريقيا في حالة تدهور مطرد، ومستويات الفقر آخذة في الارتفاع، ورائحة الفساد تتفاقم أكثر من اي وقت مضى. واعتبر الكثيرون هذه النتيجة على أنها إنهيار مريع لنموذج التنمية القائم على المساعدات، الأمر الذي ساهم في تغيير السياسات خلال معظم فترات التسعينات.
بعد أن رأى المانحين فشل خمسين عاماً من سياسة المساعدات، ألقوا باللوم في مشاكل أفريقيا الاقتصادية على القيادة السياسية والمؤسسات الضعيفة.
في الوقت الذي بدأت فيه الكثير من دول آسيا وامريكا اللاتينية السير بقوة على طريق التنمية، فإن العديد من البلدان الأفريقية كانت خاملة، وفي بعض الحالات تراجعت اقتصادياً.
وفي هذا الوقت، توصل مجتمع المانحين إلى فكرة أن معظم دول أفريقيا جنوب الصحراء تفتقر للحكم الرشيد اللازم لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام. والحكم الرشيد هو تعبير ملطف يعني ضرورة وجود مؤسسات قوية وذات مصداقية، بجانب الشفافية وسيادة حكم القانون، ومكافحة الفساد المستشري.
خلال النصف الأخير من القرن العشرين وحتى التسعينات، كانت الحرب الباردة قد وفرت للدول الغنية مبررات سياسية لتقديم المساعدات حتى للأنظمة والطغاة الأكثر فساداً في افريقيا. من عيدي أمين في شرق القارة إلى موبوتو سيسي سيكو في غربها، ومن منغستو في أثيوبيا إلى صموئيل دو في ليبيريا، فإن المنافسة بين هؤلاء الرؤساء ليكونوا أكثر وحشية تجاه شعوبهم واكثر تبذيراً ولا مبالاة باحتياجات بلدانهم، لم يقابلها سوى استعداد المانحين الدوليين لتقديم المزيد من الأموال لهم لتحقيق أحلامهم.
وعلى الرغم من هذه البيئة الفاسدة، استمر الجميع في تقديم القروض. ولكن رداً على الانتقادات المتزايدة للممارسات الملتوية والمضللة والاحتيالية، أصبح المانحون يضعون شروط لتقديم المساعدات. على سبيل المثال، تعهد البنك الدولي بمواصلة تقديم المساعدات، بشرط أن تستهدف أموال المساعدات إصلاح نظام الحكم، بهدف تحسين الخدمة المدنية والبيروقراطية الحكومية.
ولا تزال مسالة الحكم في قلب أجندة المساعدات إلى اليوم. ومع ذلك، يظل السؤال قائماً حول ما إذا كانت هذه الاستراتيجية لها أي آثار طويلة الأجل. هل تم تدريب الأفارقة على الأخلاق والحكم الرشيد في الجامعات الغربية؟ نعم. هل تم تنفيذ إصلاحات جذرية بهدف تحسين الشفافية والكفاءة؟ نعم، على الأقل على الورق. ولكن يظل الجدل قائماً حول ما إذا كان لكل هذه الأشياء أي تأثير حقيقي في البلدان التي اختارات ولا تزال الاعتماد على المساعدات.
إلى جانب الحكم، ظهر هوس الغرب المتزايد بالديمقراطية في الدول النامية. حيث كان تطبيق الديمقراطية هو الملاذ الأخير للدول المانحة، المحاولة الأخيرة لإثبات أن المساعدات يمكن أن تنجح، وستنجح، إذا كانت الظروف السياسية ملائمة. إن أجندة النمو في الستينات فشلت في تحقيق النمو والحد من الفقر، وكذلك فشلت أجندة السبعينات التي ركزت على الفقر، واجندة الثمانينات التي ركزت على الاستقرار الاقتصادي والتعديل. لذلك، بعد ثلاثة عقود من نماذج التنمية المتمحورة حول المساعدات، تم ترك الأمر للديمقراطية الغربية لإنقاذ الموقف. حيث كانت وجهة النظر ترى أن الديمقراطية هي الطريقة التي يمكن بها أن تنمو وتتطور البلدان، وأنه إذا تم نقل روح ومؤسسات الديمقراطية إلى الدول الأفريقية، فإن هذه الدول ستبدا اخيراً في التقدم والازدهار.
ولكن، كما يتضح لاحقاً، فإن أي تحسينات في الوضع الاقتصادي لأفريقيا قد تحققت إلى حد كبير بصرف النظر عن الديمقراطية وليس بسبب الديمقراطية.
بحلول نهاية الحرب الباردة في عام 1991، لم يعد الاتحاد السوفيتي يمثل تهديداً، ولم تظهر الصين بعد كبطل لقصة التنمية الأفريقية. لذلك، بينما كانت سياسة المساعدات في الماضي تحكمها إلى حد كبير مطالب الحرب الباردة، لم يعد المانحون الغربيون ملزمون الآن بمثل هذه الاعتبارات السياسية، حيث يمكنهم الآن أن يختاروا متى ولماذا ولمن يقدموا المساعدات، هذا إن قدموها.
تميزت فترة التسعينات بموضوعين. أولا، هيمنة الوكالات الدولية وظهورها كجهات مانحة رئيسية، وكانت معظم مساعداتها تقدم في شكل منح والتي مثلت أكثر من 90% بحلول عام 1996. ثانياً، فتور حماس المانحين خلال الجزء الأخير من هذا العقد. فمع ذهاب المبرر الجيوسياسي لتقديم المساعدات، انخفضت نسبة الأموال التي تخصصها الدول المانحة كمساعدات، وتضاءل حجم المساعدات المقدمة لأفريقيا بشكل كبير. وبالنسبة للعديد من البلدان النامية، وبشكل رئيسي في آسيا وأمريكا اللاتينية، حلت تدفقات رؤوس الأموال الخاصة إلى حد كبير محل المساعدات، أي مع تراجع حجم المساعدات زاد حجم رؤوس الأموال الخاصة. ولكن على عكس المناطق الأخرى، لم تشهد أفريقيا زيادة في رأس المال الخاص مصاحبة لانخفاض تدفقات المساعدات.
خلال التسعينات، ظهرت وجهة نظر أخرى حول فشل التنمية الافريقية. تقول وجهة النظر الجديدة إن الديون هي التي تعيق تقدم أفريقيا. وأنه بصرف النظر عن الفساد المستشري و غياب الحكم الرشيد والعملية الديمقراطية الحرة والعادلة، إذا تم تحرير افريقيا من ديونها فقط بضربة واحدة، فإنها يمكن أن تصل أخيرا لذاك الهدف بعيد المنال – الازدهار الاقتصادي. وبهذا المعني، فإن الخطأ هو خطأ الغرب، لأن الغرب هو الذي تدين افريقيا له بمليارات الدولارات. تسربت وجهة النظر هذه إلى معادلة التنمية. وقريباً سينضم لها الجميع.

أجندة المساعدات في الألفينات: صعود المساعدات الباهرة
في عام 2000، اصبحت أفريقيا بؤرة الشفقة في العالم، حيث إنتشرت الحفلات الخيرية والمناسبات والإعلانات لرفع الوعي لدى الشعوب، ونجحت حملات إستدرار عطف الشعوب هذه ليس في إيصال محنة أفريقيا إلى عامة الشعوب فحسب وإنما ايضاً اعلنت عن ميلاد عصر الأخلاق.
وهكذا، تم تعبيد الطريق لجيوش من النشطاء الأخلاقيين، مثل نجوم الغناء والسينما والمشاهير والخيريين، والذين كافحوا من اجل ارسال المزيد من المساعدات إلى افريقيا. وإلغاء الكثير من الديون. ولكن، حتى بعد إلغاء ديون بمليارات الدولارت، إلا أن إلغاء الديون من جهة، واستبدالها بكميات كبيرة من المساعدات الجديدة، من جهة أخرى، يعني ظهور ديون جديدة وإعادة نفس السيناريو.
وظهر الكثير من النجوم والمشاهير ونشطاء المساعدات وهم يحاولون تقديم المشورة والنصح و وضع حلول لمشاكل افريقا. ويبدو أن المانحين الغربيين بعد أن أعياهم الفشل أصبحوا يتطلعون بشكل متزايد إلى اي شخص للحصول على إرشادات حول أفضل السبل للتعامل مع مأزق أفريقيا.
ولكن نادراً ما يرى المرء المسؤولين أو صانعي السياسات الافارقة المكلفين بالتنمية يقدمون رأياً حول ما يجب القيام به، أو ما قد ينجح بالفعل في إنقاذ القارة من الانحدار. لقد تركت هذه المسؤولية الهامة للفنانيين والنجوم من خارج افريقيا، مما سبب الحيرة والاستياء للعديد من الافارقة. وكانت احدى النتائج الكارثية لذلك هو غياب الحوار الصادق والنقدي والجاد لمزايا وعيوب المساعدات.
في نهاية الأمر، يكاد يكون من المستحيل الاعتماد على تجربة التنمية الأفريقية القائمة على المساعدات والقول إن المساعدات قد نجحت. لقد كانت النتائج الشاملة لنموذج المساعدات مدمرة. وأوضح رئيس رواندا بول كاغامي هذا الأمر ببساطة حيث قال "إن السبب الاساسي في إنه ليس هناك إنجاز يذكر مقابل الـ300 مليار دولار من المساعدات التي تدفقت على افريقيا منذ عام 1970 هو أنه في سياق المافسة الجيوسياسية والاستراتيجية والمصالح الاقتصادية فيما بعد الحرب العالمية الثانية تم إنفاق الكثير من هذه المساعدات على إنشاء ودعم الأنظمة الحليفة لهذا الجانب او ذاك مع عدم الاهتمام بالتنمية".
لقد اختار المانحون و وكالات التنمية وصانعو السياسات، بشكل عام، تجاهل اشارات الانذار الواضحة، واستمروا في اتباع النموذج القائم على المساعدات حتى عندما اصبح واضحاً أن المساعدات، وتحت أي ستار، لم تخدم الغرض. وإذا كان ولا بد، فإن دلائل الخمسين عاماً الماضية تشير إلى العكس – نمو أبطأ، وفقراً أعلى، وافريقيا تخلفت عن سلم التنمية الاقتصادية.

3. المساعدات لا تجدي نفعاً
خلال السنوات الأربعين الماضية، شهدت العشرات من البلدان النامية نمواً اقتصادياً هائلاً. العديد من هذه الدول، معظمها آسيوية، حققت نمواً بحوالي 10% سنوياً، متجاوزة معدلات النمو في الاقتصادات الصناعية الرائدة، وقللت من الفقر بشكل كبير. وفي بعض الحالات، قفز دخل الفرد في بعض هذه الدول إلى مستويات دخل الفرد في الاقتصادات المتقدمة. ومع ذلك، خلال نفس الفترة، فإن ما يصل إلى 30 دولة نامية اخرى، معظمها دول افريقية تعتمد على المساعدات، فشلت في تحقيق نمو اقتصادي ثابت، بل وحتى تراجعت.
تم تقديم العديد من الأسباب لعدم نمو البلدان الأفريقية، وعلى وجه الخصوص، اسباب جغرافية وتاريخية وثقافية وقبلية ومؤسسية. وبينما يبدو أن كل واحد من هذه الأسباب مقنع في شرح الضعف الافريقي، إلا انها لا تروي القصة الكاملة.
تظهر التجربة الاقتصادية الواسعة لأفريقيا أن وفرة الأراضي والموارد الطبيعية لا تضمن النجاح الاقتصادي. فالدول الغنية بالنفط والموارد مثل نيجيريا والكونغو وغيرها سجلت نتائج اقتصادية سيئة بعد أن أهدرت الكثير من ثرواتها الطبيعية عبر استثمارات مشكوك فيها، واحياناً بالسرقة الواضحة.
وايضا تم طرح العوامل التاريخية، مثل الاستعمار، كتفسير لتخلف افريقيا، حيث يرى البعض أن القوى الاستعمارية رسمت حدود الدول وأنشأت الهياكل السياسية والبيروقراطيات التي كانت تتعارض بشكل اساسي مع اسلوب حياة السكان الافارقة. حيث أن إجبار الجماعات العرقية المتنافسة والمتحاربة تقليدياً على العيش معاً تحت ظل علم واحد لن يجعل بناء الدولة أمراً سهلاً. كما أن التقسيم الخاطي لافريقا في مؤتمر برلين عام 1885 لم يساعد في حل الأمور. حيث أدى هذا التجمع لرسم خريطة افريقيا وهي مليئة بالدول الصغيرة والتي ستجعل حدودها المرسومة بشكل تعسفي من الصعب عليها دائماً النهوض لوحدها – اقتصادياً وسياسياً.
هناك، بالطبع، وجهة النظر المخادعة وغير معلنة والتي تقول إن مشكلة افريقيا هم الافارقة أنفسهم، لأنهم مختلفون بالفطرة ثقافياً وعقلياً وجسدياً. ومتأصل فيهم بعمق أنهم لن يقدروا على تبني التنمية وتحسين وضعهم في الحياة دون توجيه ومساعدة خارجية.
يقدم مأزق التنمية الأفريقية طريقين: احدهما ينظر فيه إلى الأفارقة كاطفال غير قادرين على النمو والتقدم لوحدهم دون توجيه وقيادة، والآخر يوفر فرصة لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، ولكنه يتطلب معاملة الأفارقة كبالغين. وتكمن مشكلة الاعتماد على المساعدات، بالطبع، في أن تظل أفريقيا بشكل اساسي في مرحلة الطفولة.
وهناك حجة أخرى تعزو فشل افريقيا الاقتصادي إلى المجموعات القبلية المتباينة والتركيب العرقي اللغوي في القارة. حيث ترى هذه الحجة أن هناك ما يقرب من 1000 قبيلة في انحاء أفريقيا جنوب الصحراء، معظمها لها لغاتها وعاداتها المميزة. والدول التي بها أنظمة قبلية قوية تواجه عدة مخاطر، واكثرها وضوحا هو أن يؤدي التنافس العرقي إلى إضطرابات مدنية وصراعات، والتي قد تصل إلى حرب أهلية شاملة. وهذا هو السبب، كما يقال، في ان أفريقيا لديها معدل حروب أهلية اعلى بكثير من المناطق النامية الأخرى خلال العقود الثلاث الماضية. ولا شيئ يفوق الحروب الأهلية في تدمير الدول اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
يمكن اعتبار عدم التجانس العرقي عقبة أمام النمو الاقتصادي والتنمية حتى في أوقات السلم. ومن المرجح أن تمتاز المجتمعات المتعددة الأعراق بإنعدام الثقة بين الجماعات العرقية المتباينة، مما يجعل العمل الجماعي لتقديم الخدمات العامة أمراً صعباً. ويكون هذا صحيح بشكل خاص في المجتمعات الديمقراطية، حيث يمكن أن تكون احتمالية تحقيق إجماع سياسي بين المجموعات المنقسمة عرقياً أمر صعب. على نحو ثابت، في حالة وجود صراع داخلي، يؤدي مأزق الانقسام العرقي إلى إبطاء تنفيذ السياسات الرئيسية الهادفة لتحفيز النمو الاقتصادي.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن لافريقيا نصيبها العادل من الصراعات القبلية. ولكن أيضاً يوجد فيها عدداً من البلدان تمكنت فيها الجماعات العرقية المتباينة من التعايش السلمي تماماً، مثل بتسوانا وغانا وزامبيا وغيرها. لذا، في البحث عن حلول لمشاكل افريقيا الاقتصادية، من غير المجدي التذرع بالاختلافات العرقية. في الواقع، يعيش الناس في المدن الأفريقية بطريقة أكثر تكاملاً مما قد تجده في مدن أخرى، حيث لا توجد مناطق عرقية معينة في المدن الافريقية مثل الموجودة في بلفاست أو لندن أو نيويورك وغيرها.
هناك تفسير آخر تم طرحه لضعف التنمية الاقتصادية الافريقية وهو عدم وجود مؤسسات عامة قوية وشفافة وذات مصداقية، مثل الخدمة المدنية والشرطة والقضاء وغيرها.
في حين أن المؤسسات العامة – التنفيذية والتشريعية والقضائية – موجودة بشكل أو بآخر في معظم البلدان الأفريقية، إلا أنه باستثناء مكتب الرئيس، فإن قوتها الحقيقية ضئيلة وتخضع لتغير متقلب. في الاقتصادات القوية والمستقرة، تكون المؤسسات السياسية هي العمود الفقري لتنمية البلاد، ولكن في الاقتصادات الضعيفة حيث يسود الفساد غالباً ما تكون هذه المؤسسات عديمة الفائدة.
إن فشل أفريقيا في تحقيق أي نمو هادف أو مستدام طويل المدى يعزى ظاهرياً لعدة عوامل جغرافية وتاريخية وثقافية وقبلية ومؤسسية. في الواقع، من السذاجة استبعاد أي من الحجج المذكورة اعلاه باعتبارها ساهمت في ضعف النمو الافريقي تاريخاً. ومع ذلك، من العدل أن نقول إنه لا ينبغي لأي من هذه العوامل أن يحكم على التنمية الافريقية بالفشل. لأنه في حين أن كل من هذه العوامل قد يكون سبباً في التخلف التنموي بدرجات متفاوتة، إلا أن معظم البلدان الأفريقية تشترك في شيئ واحد – هي أنها جميعاً تعتمد على المساعدات.

....نواصل

ترجمة معز محمد نور
Muaiz_adam@yahoo.com
///////////////////////

 

آراء