تُظلُنا هذه الأيام ذكرى المولد النبوي الشريف ، وهي ذكرى مناسبة حبيبة إلى النفوس في السودان خاصة ، ربما من بين سائر أقطار العالم الإسلامي ، لأنها قد ارتبطت بجملة من المظاهر الاحتفائية والاستعراضية الفريدة ، التي تظل عالقة في الخاطر والوجدان بالنسبة للفرد السوداني المسلم منذ إبان طفولته الباكرة ، حيثما كان موقعه ، ومهما كان موقفه الاعتقادي من مشروعية الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم من عدمها. ولا شك في أن موكب المولد السنوي أو ما تُعرف بزفة المولد ، التي تشارك فيها سائر الطرق الصوفية براياتها وطبولها ودفوفها ومنشديها ، إلى جانب السلطات الرسمية ، والتي تسير في موكب ينطلق من بقعة بعينها في عدد من مدن السودان ، وعلى رأسها العاصمة الوطنية " أم درمان " في أولى ليالي المولد ، وهي تردد الأناشيد والأهازيج الدينية ، حتى ينتهي بها ذلك المسير إلى سرادقاتها وخيامها المنصوبة بالساحة المخصصة عادة للاحتفال بليالي المولد ، بما في ذلك ما يسمى ب " خيمة الحكومة " ، لهو واحد من أبرز مظاهر الفولكلور الحضري بالسودان. ولعل من بين تلك المظاهر الطقوسية والاحتفائية المتميزة والمفعمة بالألق والبهاء ، التي ظلت تسم ليالي المولد النبوي الشريف ، ابتداءً من مطلع شهر ربيع الأول ، وحتى ليلة الثاني عشر منه ، وهي ليلة المولد نفسه ، اجتماع مجموعات من الرجال في باحات بعض المساجد ، أو داخل أفنية بعض الدور لقراءة تلك المنظومات الشعرية التي تُسمى بالموالد ، مثل: المولد البرزنجي ، والمولد العُثماني ، ومولد الشريف الهندي وغيرها. وجميع تلك الموالد ، تمثل سردا فنياً مسجوعاً لوقائع السيرة النبوية الشريفة ، مع تركيز خاص على بيان إرهاصات البعثة المحمدية ، وما لازمها من معجزات وخوارق عادات ، بالإضافة إلى ذكر مولده صلى الله عليه وسلم بمكة ، مروراً بسائر مراحل طفولته وشبابه وزواجه من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، إلى أوان بعثته رسولاً من الله تعالى إلى العالمين. ذلك ، ومن ذكريات طفولتي أنا خاصةً في هذا الباب ، أنني كنت أصحب والدي رحمه الله تعالى ، ونحن آنئذ في أواخر ستينيات القرن الماضي وأوائل السبعينيات منه إلى مسجد قريتنا و " مسيدها " أيضاً ، لكي أشهد معه ليالي الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف. وقد كنا أنا وأترابي من بعض الصبية الذين كانوا يصحبون آباءهم لذات الغرض ، نشنف آذاننا حقاً بالاستماع إلى قراءة المولد العثماني لمؤلفه السيد محمد عثمان المرغني الختم 1793 – 1853م ، الذي يقول في مطلعه: " اللهم صل وسلم على الذات المحمدية ... واغفر لنا ما يكون وما قد كان ". هذا على الرغم من أن جل من كانوا يحيون ليالي المولد من أهل بلدتنا ، كانوا ينتمون آنئذ إلى الطريقتين التجانية والسمانية. وقد كانت تدار علينا في أثناء ذلك ، أقداح الشاي بالحليب ، وصحاف الزلابية المحلاة بالسكر أو العسل ، فنصيب منها ما شاء الله لنا أن نصيب في نشوة وحبور ، وخصوصاً نحن الصغار. لقد كان يستبد بنا في الواقع ، طربٌ حقيقي ونشوة روحية شفيفة ، توشك أن تجعلنا نطير في الفضاء سمواً وأإشراقاً ، فكأن: " مكان الأرجل الولهى طيورٌ" كما قال الشاعر محمد المهدي المجذوب ، خصوصاً عندما كان آباؤنا وأعمامنا ينشدون في أداء جماعي مُعجب ، القصيدة المُسماة ب " المُنبهجة " ، التي نظمها مؤلف المولد العثماني نفسه ، ألا وهو السيد محمد عثمان المرغني الختم. تلك القصيدة التي يقول مطلعها: يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج اشتد هوايَ على المُهَج يا رب فعجل بالفرج ... الخ هذه القصيدة هي من بحر " المُتَدارَكْ " من بحور الشعر العربي ، وهو بحرٌ قيل إن الأخفش سعيد بن مسعدة قد استدركه على الخليل بن أحمد ، بعد أن ند عن هذا الأخير ، ولم يهتد إليه فيما اهتدى إليها من بحور الشعر الأخرى. وهذا البحر المتدارك ، يٌعرف أيضاً ببحر " الخَبَبْ ". وتجئ أوزان بحر المتدارك على صور ثلاث: تامة ومجزوءة ومشطورة على نحو ما يعرفه دارسو علم العروض. ومن الواضح جدا أن المتدارك هذا ، هو بحرٌ يصلح للترنم الجهير ، والإنشاد الإيقاعي الصاخب ، وذلك نظراً لطبيعته النغمية ، وجرسه الصوتي المنبور نفسه ، ولا أذكر ما قاله عنه في هذه الناحية بالتحديد ، العلامة عبد الله الطيب في كتابه العمدة: المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها . ولذلك فلا غرو أن توجد منه نماذج مغناة حتى في غنائنا العاطفي المكتوب باللهجة العامية ، ومثالاً على ذلك مثلاً ، أغنية عميد الفن السوداني الأستاذ أحمد المصطفى التي يقول مطلعها: النار النار يا رُوحي خلي الدلال داوي جروحي ومنه أيضاً تلك الأغنية الشهيرة لأحد المطربين الجزائريين الشباب: الله الله .. يا بابا وسلام عليك يا بابا سيدي المنصور يابابا ونجيك انزور يابابا .. الخ فكلا هاتين الأغنيتين هما من بحر المتدارك المشطور بكل تأكيد ، وجرس إيقاعهما شبيه بجرس إيقاع ما يعرف ب " القصيد الحربي " في فن المديح النبوي التقليدي في السودان. مهما يكن من أمر ، فإننا نود أن نوضح من خلال هذه الكلمة بهذه المناسبة السعيدة ، أن لقصيدة السيد محمد عثمان المرغني الختم المسماة ب " المنبهجة " التي طالما أبهجتنا في الصغر ، وما تزال تفعل ذلك إلى الآن ، أخوات أو نسخ طبق الأصل كما يقال ، نسجن على ذات المنوال الفني ، ونظمن في ذات البحر " المتدارك " ، وفي نفس القافية " الجيم ". وبعض تلك القصائد سابقة تاريخياً في التأليف لقصيدة الختم ، وبعضها لاحقة لها. فكأن تلك القصائد المنفرجات والمنبهجات ، نسبة للاسمين " المنفرجة " و " المنبهجة " على التوالي ، اللذين جُعلا – بما يشبه التواطؤ والاتفاق ، وإنما هو محض التقليد والمحاكاة على كل حال - عناوين لجميع تلك القصائد ، قد تحولت إلى ما يشبه التقليعة أو " الموضة " للنظم في هذا القالب الفني المميز ، الذي يجسده بحر المتدارك بتفعيلاته المتقافزة والطروبة ، والذي ظلت تسير على نهجه ثلة معتبرة من الشعراء والنظام المتعاقبين على مدى بضعة قرون ، تمتد – على الأقل - من القرن السادس الهجري الموافق للقرن الثاني عشر الميلادي ، وإلى القرن الميلادي العشرين الموافق للقرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين على التوالي. تلك لعمري ظاهرة قد تذكرنا إلى حد ما – خصوصا لجهة التشابه في الموضوع وطبيعة المؤلفين أنفسهم – بتأثر عدد مقدر من النظام والشعراء المتصوفة خاصة فنياً ، بتائية الشنفري : ألا أم عمرو أزمعت فاستقلت .. وما ودعت جيرانها إذ تولت " ، في نظم سلسلة من القصائد التائية التي نسجت على منوالها شكلاً عبر بضعة قرون، وان اختلفت مواضيعها الإرشادية والسلوكية والعرفانية عنها ، على غرار تائية السلوك لابن الفارض: وغيرها على سبيل المثال:
هذا ، وأقدم نموذج – افتراضاً فقط – وقفنا عليه من ذلك النمط من القصائد الخببية الجيمية ، هي قصيدة " المنفرجة " ليوسف بن محمد التوزري التلمساني الملقب بابن النحوي 433 – 513هـ / 1041 – 1119م. ومطلع تلك القصيدة ذائعة الصيت والرواج في بلاد المغرب العربي الكبير خاصةً هو: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج وظلامُ الليل له سُرُجٌ حتى يغشاهُ أبو السُرُج وسحاب الخير له مطرٌ فإذا جاء الإبانُ يجي .... الخ والشاهد في هذه القصيدة ، أن ابن النحوي قد توسل في ختامها بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه والصالحين فقال: يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج وارحم يا أكرم من رحما عبداً عن بابك لم يعج وكما هو مرجح ، فإن السيد محمد عثمان الختم مؤلف المولد العثماني ، قد نظر إلى هذه القصيدة في نظم قصيدته المسماة ب " المنبهجة " ، بل إنه اقتبس منها بيتاً كاملاً فجعلها مطلعاً لمنظومته ، وهو قول ذلك الناظم القديم ابن النحوي ، الذي عاش في القرن الخامس الهجري ، الموافق للقرن الحادي عشر الميلادي: يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج ثم تجئ بعد ذلك قصيدة " نسمات هواك " للقطب الصوفي الكبير الشيخ محي الدين بن عربي 558 – 638 هـ / 1164 – 1240م ، وهي لعمري ربما تكون دُرة تلك المجموعة من القصائد المتشابهة شكلاً وموضوعاً من وجهة النظر الفنية البحتة ، وكذلك من حيث حاق الشاعرية أيضا. وهي تلك القصيدة التي مطلعها: نسماتُ هواك لها أرَجٌ تحيا وتعيشُ بها المُهَجُ ما الناسُ سوى قوم عرفوكَ وغيرهمُ همجٌ همجُ دخلوا فقراءَ إلى الدنيا وكما دخلوا منها خرجوا .. الخ وتستمر مجاراة هذا القالب النظمي العتيد عبر القرون بواسطة شعراء كثيرون جداً ، عاشوا في مختلف بقاع العالم الإسلامي ، ولسنا ندري إن كانت قد أفردت لهم دراسة استقصائية لأسمائهم وتراجمهم ونصوصهم ذاتها ، وبالتالي فإنه لم تتح لنا الفرصة للاطلاع على قصائدهم جميعها بطبيعة الحال. وهكذا يتوالى التوارد على ذلك المنهل العذب ، حتى نصل إلى شاعر ومتصوف شهير من بلاد الشام ، عاش بين القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين ، هو الشيخ عبد الغني النابلسي 1050 – 1143 هـ / 1641 – 1731م ، الذي نظم قصيدةً على ذات النهج جاء فيها قوله: قد أصبح قلبي في وهج ومدامع عيني في لُجج ومعاني الشوق قد اتضحتْ بلسان ضنى الجسم اللهج .. ثم جاء بعد النابلسي بيسير وكان معاصراً له ، الشيخ مصطفى كمال الدين البكري الصديقي 1688 – 1749م ، مجدد الطريقة الخلوتية ، الذي سار على ذات النهج فألف قصيدة جاء في مستهلها: قُمْ نحو حماهُ وابتهج وعلى ذاك المحيا فعج ودع الأكوان وقُم غسقاً واصدُق في الشوق وفي اللهج .. الخ إلى أن جاء في القرن الذي تلاه ، السيد محمد عثمان بن محمد أبي بكر المرغني 1793 – 1853م ، فألف قصيدته " المنبهجة " التي عليها مدار كلمتنا هذه ، والتي أضحت بكل تأكيد إحدى أيقونات تراثنا الفكري والثقافي والفني بصفة عامة. أما الشعراء والنُظام من شيوخ التصوف في السودان خاصة ، فلم يكونوا بدعاً من غيرهم في سائر أقطار العالم الإسلامي ، في التأثر بهذه القصائد المنبهجات والمنفرجات. ذلك بأننا نجد – على سبيل المثال - قصيدةً " منبهجة " بذات العناون ، وتجري على ذات النمط من تأليف الشيخ عبد المحمود نور الدائم الطيبي 1845 – 1915م ، كما وقفنا على أن الشيخ عبد الله محمد يونس العركي 1915 – 1986م ، قد شطر قصيدة الشيخ عبد الغني النابلسي آنفة الذكر " قم نحو حماه وابتهج ". هذا ، ولحضرات القراء الكرام خالص التهاني بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف ، وكل عام والجميع بخير.