الإنقاذ يومذاك في تسلُّطيَّة نازيَّة (2 من 2)

 


 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk


مهما يكن من أمر، فحين أخذت جيوش الحلفاء تقترب نحو باريس سارع هؤلاء المجرمون العتاة في حرق السجلات والوثائق لئلا تجرِّمهم في يوم موعود. لذلك لم يستطع كاتب الكتاب إيَّاه أن يصوِّر لنا تعابير أو أسارير وجوه هؤلاء المجرمين حين باتوا ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام عليهم، لكنه استطاع أن يتخيَّل تلك البيئة والأجواء بصدق، ويمنح نوعاً من نبل الرُّوح على بوني، كما أمسى يتصوَّر رباطة الجأش لهؤلاء العصابة وهو يواجهون الاعتقال في نهاية الأمر، وذلك بعد أن حُوصروا في بيت داخل مزرعة مهجورة في ضواحي باريس. "لا استحق هذا المصير،" هكذا قال بوني حينما تمَّ ربطه بإحكام على عمود قائم قبل إطلاق النَّار عليه بواسطة فرقة الإعدام. "ولكن تحيا فرنسا على كل حال،" هكذا استطرد بوني قائلاً قبل أن تنهمر عليه رصاصات فرقة الإعدام؟ وفي الأثناء التي تمَّ اقتياده مع كابتن فريق كرة القدم الفرنسي السابق أليكسندر إلى موتهما وهما ينظران، أخذ بوني يتفكَّه لرفيقه القرين في الحياة والموت: "إنَّ هذه ضربة الجزاء الوحيدة التي لا يمكنك أن تنقذها؛ يا صديقي لا داعي للانبطاح!" وإنَّك لواجدٌ صاحبه في هذا المشهد الأخير وقد ألجمته النهاية الجهنَّميَّة، واستولى عليه الرُّعب، فارتجَّ عليه، ولم يستطع أن ينبث ببنت شفة، ووقف ماثلاً أمام من سوف ينفِّذون عليهما حكم الإعدام.
فبرغم من الوحشيَّة وحياة اللاأخلاق التي اعتاشها بوني، إلا أنَّه امتلك بعضاً من مهارات الفلسفة. فقد أدرك أنَّ السَّلام الذي استمتع به في أوَّل الأمر قد لا ينقذه في نهاية الأمر، وأدرك أيضاً في نهاية ذلك اليوم أنَّه قد اختار السبيل الخطأ، وأنَّ تسديد الحسابات لسوف يكون عظيماً كما كان، ثمَّ إنَّه تذكَّر النِّساء الحسناوات اللائي كنَّ من نصيبه من أرستقراطيات حتى بقيت فقط خارج إطار إغوائه لهن الدوقة والملكة والإمبراطورة، ولكن لسوء حظه كانت الحدود أمامه مقفولة دون أن يظفر بما ابتغى. بيد أنَّ استمتاعه بأكياس الذهب والعربات السريعة الفارهة، وفيلة منيفة، وتجنُّب المساوئ التي ألمَّت برفقاء الوطن إبَّان سنوات الاحتلال الأربع، كان ذلك كله كفيلاً أن يجعله يقرُّ بأنَّه قد آن الأوان أن يدفع ثمنه، ويستحق الموت بما كسبت يداه، فكل نفس بما كسبت رهينة.
مهما يكن من أمر، فإنَّ القصة لتحكي جزءاً من التأريخ الثقافي-الاجتماعي الفرنسي، والدور الذي لعبه هؤلاء الشخوص في عالم الجريمة الخفي في تلك السنوات. إذاً، ماذا تعني هذه الحكاية في تأريخ السودان القريب؟ عوداً إلى البدء، أو لنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول لقد استخدم نظام "الإنقاذ" عصابات "النيقرز" – كما أشرنا آنفاً – مثلما فعل النازيُّون في فرنسا أثناء سنوات الاحتلال، واستخدم جهاز الأمن والاستخبارات الوطني في السُّودان – كذلك كما استغل "الجستابو" – لهؤلاء المجرمين العتاة غلاظ القلوب والنفوس معاً، في اقتراف جرائم تقشعر منها الأبدان، حتى علم الشعب السُّوداني أنَّ بعضاً من رجال الأمن كانوا يمتهنون وظيفة الاغتصاب في دولة الإنقاذ الإسلاميَّة، وأخرجوا بعض المجرومين من السجون وموَّلوهم وسلَّحوهم لتكوين ميليشيات الجنجويد لقتل واغتصاب وحرق وترويع المواطنين في قراهم وانتهاب ممتلكاتهم، وكان موسى هلال واحداً من هؤلاء المحكومين الذي أفرج عنه النظام، وقام بما قام به "وحدث ما حدث". ثمَّ كان استقدام الأجانب من غرب إفريقيا وسودنتهم، بل وتكوين ميليشيات منهم للإغارة على القرويين المحليين في قراهم في دارفور قتلاً واغتصاباً ونهباً لحيواناتهم وتدميراً لمحاصيلهم في مزارعهم، وذلك بعد أن أطلقوا العنان لجندهم بالعبث بأرواح المواطنين الشرفاء.
ومن هنا تبدو المقاربة والمقارنة بين ألمانيا النازيَّة والسُّودان في عهد حكومة "الإنقاذ" واردة، وما هي بإنقاذ في شيء، بل رموا أهل السُّودان في التهلكة، حتى أخذ السُّودانيُّون يعانون في أشد ما تكون المعاناة في سبيل الانعتاق من ربقة "الإنقاذ" في تسلُّطيَّتها النازيَّة، ورواسب الماضي الأليمة، وصروف الحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة في محتواها النازي، وفي كل ذلك – ولعمرى – باسم الدِّين الإسلامي. ففي عهدهم اضطربت الأحوال، وتشاكست الأمور، وأمست الدولة محفوفة بالأخطار، تكتنفها ثورات المظلومين، وذلك لأنَّ أهل العقد والحل أساءوا السياسة، وأبعدوا أهل الكياسة. وما أن غلى مرجل الغضب عند الشعب السُّوداني، وعزَّ الاصطبار، حتى هبَّ بغتة، وخرج الرجال مع الحرائر، والمسن مع الوليد، فلفظوهم وخطَّوا بالفداء أصالة المجد التَّليد – والكلام هنا للشاعر مرسي صالح سراج. ثمَّ ما أن ذهب أهل "الإنقاذ" وولوا، حتى أماط النَّاس عن سيرتهم قتام القبائح، وكفى بنا دليلاً ما أخذت تبثُّه لجنة تفكيك نظام "الإنقاذ" من الأدلَّة بين الفينة والأخرى، وإنَّ هذه الأدلَّة الساطعة لتصفعنا وتصعقنا، وكانوا إذ ذاك قد لبسوا الدِّين عباءة للرِّياء، وهم في الأصل كالذئاب يختالون في الظلام، ويملكون الدُّنيا بمذهب الإمام مالك ابن أنس، ويقتسمون أموال الشعب السُّوداني ظلماً وبلا وازع أو ضمير، وحسبك ما قاساه الشعب من ضروب الإحن وصروف الزمن. وإذ إنَّما يطيب لنا هنا أن نردِّد ما قاله أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن البني:
أهل الرِّياء لبستموا ناموسكم
كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتموا الدُّنيا بمذهب مالك
وقسَّمتم الأموال باسم القاسم

إذ ربما أشبعت هذه التسلطيَّة الدِّينيَّة شهوة معتنقيها في الرغائب الوهميَّة والاختيال الفكري، لكنها أحدثت دماراً مستعظماً في سبيل االسَّلام والوحدة الوطنيَّة، وشوَّهت المناخ السياسي إلى الأبد. واللافت في الأمر أنَّ تداعيات نظام "الإنقاذ" الأمنيَّة أعلاها قد تسبَّبت في تجاوزات مروِّعة في حقوق الإنسان، وعدم الاستقرار والنُّزوح واللجوء، وتخريب العلائق مع الجيران، وتهديد دول العالم بما ليس بمقدوره أن يفعل وغيرها من الكوارث التي عرفها أهل السُّودان، وما زالت آثارها الاجتماعيَّة والسياسيَّة والأمنيَّة ممارسة بشكل قميء في غرب السُّودان وشرقه وجبال النُّوبة (جنوب كردفان) وإقليم الفونج الجديد. أما الآثار الاقتصاديَّة فبالكاد لم يبرح السُّودان أثقالها، بل إزداد الأمر سوءاً، ولِمَ لا نقول الآثار الثقافيَّة أيضاً. وفي هذا الإطار حسبنا أن نقرأ سوءات نظام "الإنقاذ" في كتاب لكاتب هذه السطور والموسوم ب"السُّودان في ظلال الإنقاذ.. أسلمة الفساد والاستبداد" والصادر من دار المصوَّرات للنشر بالخرطوم حاليَّاً، حتى ندرك جوهر ما نقول.

 

 

آراء