دخلت البلاد بسبب التطبيع مع إسرائيل في أزمة سياسية خانقة بعد تجاوزها الأزمة الاستبدادية التي خلقها نظام الإخوان المسلمين لمدى ثلاث عقود. وربما ستعصف هذه الأزمة باستقرار كل البلاد إن لم يتم تداركها بتعقل، وروية، ومسؤولية، من القوى التي شكلت نفسها كحاضنة للثورة، خصوصا. ولعلها وحدها التي تتحمل الآن مسؤولية المهازل التي تجري في البلاد هذه الأيام.
فهي قد انشغلت بخلافاتها السياسية، ولم تتداركها حتى هذه اللحظة، وتركت المجال لعساكر السيادي، والتكنوقراط التنفيذيين، ليستثمروا في غياب وحدة قحت كممثل للثوار. ولا تكفي أحزاب قحت البيانات والتصريحات الرافضة للتطبيع، والتهديد بسحب دعمها للحكومة، أو إسقاطها، دون أن تشير هي نفسها لدورها في تمهيد الطريق لرغبات العسكر، وحمدوك، بصورة غير مباشرة. إذ إن رئيس الوزراء، والعسكر السياديين، وجدوا الفرصة لاستثمار غياب تأثير قحت، وبالتالي جدفوا في المساحة الخالية. ولذلك يجب على كتل قحت وأحزابها توجيه اللوم لنفسها بعضها بعضا ما دام قد نست أن الذئب لا يأكل إلا الأغنام القصية. فمكون الحرية والتغيير بكل بساطة ليس كله على قلب رجل واحد. فالتمايزات الأيديولوجية تقضم من وحدة الجماعة بالرغم من أن قضية الوطن تتطلب التنازل هنا وهناك لضمن نجاح الفترة الانتقالية، وتصفية بقايا النظام البائد، وحلحلة القضايا العاجلة، والاتفاق على محور السلام، والعلاقات الخارجية خصوصا، والتمهيد للانتخابات. نحن نفهم أن لكل حزب قناعاته العقدية، والسياسية، والأيديولوجية، والتي يصعب التنازل عنها لمصلحة البلاد. ولكن حين يكون الأمر بين أن يبقى السودان أو يبقى الحزب تكون الحاجة للتضحية بالمعتقد،. وهذا أمر مر، ولكنه ضروري إذا كان وطن الجماعة أولى من مصلحة الفئة. ونستدعي هنا تضحية الإسلاميين بالجنوب لصالح قناعاتهم الأيديولوجية، وبالتالي يجب ألا يعنفهم في هذا الخصوص من يقدم مصلحة العقيدة السياسية على مصلحة البلاد. إذن فإن سلامة وحدة المكون الثوري مقدمة على تفرقها أيدي سبأ. ولكن بدا أن الأمة القومي وتجمع المهنيين اختارا حلا فردياً أضعف قحت، وفي ذات الوقت يلومان المجلس السيادي والوزراء لاختطاف الوضع، والتقرير وحدهما في الأمور الراهنة! ومن الجانب الاخر فضلت بقية القوى ألا تقدم تنازلات لحمل الأمة والتجمع للعودة! والتحالفات السياسية تقوم على التنازل، وبالعدم لا داعي لها مطلقاً. وهنا ينبغي لكل طرف أن يغرد على هواه لنرى إن كانت البلد قادرة على العبور نحو الاستقرار فوق أزماتها التاريخية. إن تماطل قوى الحرية والتغيير في تكوين المجلس التشريعي، وهي المسؤول الأول عن قيامه، جعلها بلا أرضية دستورية تقف عليها اليوم بعد أن استغل مجلسا برهان وحمدوك فرص التشريع، والتقرير في قضايا حيوية. ولا نعتقد أن الشارع المنقسم سيعين قحت مرة أخرى، وهي تخرج من خطا استراتيجي لتدخل في آخر. فالمؤكد هو أن هذه القوى السياسية الموكول إليها اختيار عضوية المجلس لو أنشأته قبل عام ثم اكتسب زخمه، ووطد أركانه في المشهد السياسي، فإن البرهان لن يتجرأ للتدخل في السياسة الخارجية، وأن حمدوك سوف يجد نفسه محاصرا برقابة تمنعه من تدبير الأمور المدغمسة التي استمرأها. ولقد عمل التكنوقراطي الماكر حمدوك على تأخير التشريعي بحجة جلب السلام أولا، ولكنه ضحك على عقول السياسيين فمرر سياسته الاقتصادية، والخارجية، وهمش قحت في ملف السلام. وهو من بعد كان معروفا لتحالف قوى الحرية والتغيير كموظف دولي لا يسير إلا في فلك الاقتصاد الحر بمدارسه الغربية الرأسمالية الجديدة، ومعه زميله الاقتصادي إبراهيم البدوي الذي كان الكل يعرف انه من ذات المدرسة الاقتصادية. لقد وافقت قحت على تعيين حمدوك، ولم تلزمه بشيء، حتى شكا هو بنفسه بعد ثلاثة أشهر أنه لم يتسلم برنامج الحكومة. ومع ذلك لم يلتزم به بعد الحصول عليه، وبالمقابل لم تحاسبه قحت لسبب بسيط هو أنها انقسمت بخروج حزب الامة وتجمع المهنيين من التحالف. لقد طمعت قحت بامتلاك التقرير في قضايا تخص التشريعي في أول بدئها ثم ضعفت بانسحاب حزب الأمة وتجمع المهنيين، والذي نفسه ضعف نتيجة لسحب مكونات مهمة داخل قحت دعمها لها. فالمؤتمر السوداني وحزب الأمة والتجمع الاتحادي وشخصيات مستقلة لا يحفلون بأهمية التجمع، ودوره. لا نزال نرى أن قوى الحرية والتغيير (بتكوينها الذي وقع على الوثيقة الدستورية) أمامها الفرصة لمعالجة أخطائها الكارثية التي من بينها تصادمها لجني المصلحة الحزبية، وكيد أحزابها بعضها بعضا، وإهمالها تكوين المجلس التشريعي، وضعف موقفها حيال أيام التفاوض في جوبا. بصرف النظر عن رجاحة فائدة التطبيع مع اسرائيل أو عدمه فإن الطريقة التي أخرجها البرهان وحمدوك أكدت اتهامنا المتجدد للسلطة الانتقالية بوأدالشفافية. فإذا عذرنا البرهان الباحث عن أدوار قادمة، فإننا لن نعذر حمدوك الذي يتطلب تمثيله للثوار ألا يغيب الحقائق عن الشعب. فقد كان مفترض في حمدوك أن يمتلك الشجاعة ليخرج ليخاطب "الأمة السودانية" بذات الطريقة التي فعلها ترمب، ومن بعده نتنياهو، حيث خرج كلاهما فرحين لتأكيد تحقيق انتصارهما لمصلحة أمريكا وإسرائيل. ولكن حمدوك كدأبنا به دفن رأسه في الرمال في الوقت الذي كانت تحتاجه قحت التي نصبته، وخلفها الجماهير التي نصبته، لينورها عن ما جرى، بدلا من أن يخرج وزيرا العدل والخارجية للناس متناقضين في أقوالهما عن التطبيع لتجميل الصورة. هناك طريق واحد لا مثنى له للخلاص من هذه الورطة التاريخية وتجنيب البلاد من هذه الأزمة ويتمثل في حكمة المعالجة. فقوى الحرية والتغيير بتكوينها القديم بحاجة إلى اجتماع عاجل لترميم تحالفها وتطويره أولا والتعجيل بقيام المجلس التشريعي والاتفاق على طريقة للتعامل مع حمدوك. وبغير ذلك سوف تدخل البلاد في دائرة التنازع الحزبي من جهة وتنازع الأحزاب مع عساكر السيادي، ومجلس الوزراء، من الجهة الأخرى، وعندئذ لن يتوقف التدخل الدولي لا بالفصل السادس أو السابع فقط. ليس هناك حاجة لتصديق المواقف الصحيحة للأحزاب منفردة، فليس الأمر يتعلق بصحة أو خطأ الموقف السليم للحزب الشيوعي أو الموتمر السوداني أو البعثيين أو التجمع الاتحادي. فالحاجة تتعلق بدرجة أولى بقدرة قحت في تحقيق المواقف الجماعية الصحيحة حتى تقفل الباب أمام استفادة العسكر السياديين من نقاط ضعفها.