في الذكرى الثانية لثورة السودان المجيدة
أيام قلائل تفصلنا عن الذكرى الثانية لاندلاع ثورة السودان المجيدة. وهي قطعا ذكرى يجللها الفرح والفخر بانتصار شعب أعزل إلا من هتاف الحناجر والإيمان بعدالة قضيته، على نظام لم يكن يأبه لنزيف دماء الآلاف من شباب الوطن، بل وبخل عليهم حتى بالآلة الحدباء، في سبيل تشبثه بكرسي السلطان، وخدمة لمصالحه الضيقة. لكن مساحة الفرح في هذه الذكرى الثانية، جاءت أقل وأضيق بكثير من مساحة الاحباط والشعور بالخذلان تجاه ضآلة الانجاز، أو في الحقيقة اللاانجاز، لمطالب الثورة والثوار. وحتى كتابتنا عن هذه الذكرى تكاد تكون متطابقة لما كتبناه في الذكرى الأولى، وهذا بالتأكيد أمر مؤسف إذ لا يعني سوى لا جديد ولا تقدم، أو هو تقدم متعثر في مشوار تجسيد شعارات الثورة وتحقيق أمنيات الناس.
فقبل عام كتبنا «بالأمس خرج مئات الآلاف من أبناء وبنات الشعب السوداني مرة أخرى للشوارع، يحتفلون بالذكرى الأولى لثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة. وفي الحقيقة لم يكن الأمر مجرد إحتفال بقدر ما كان ردا على محاولات التخذيل والنيل من الثورة، وتأكيدا على استمراريتها حتى تحقق أهدافها في الحرية والسلام والعدالة، وتجديدا للثقة في الحكومة الانتقالية، ومدا لحبال الصبر لها، حتى تنجز». وبالفعل مد الناس حبال الصبر لعام آخر، لكن النتيجة، كما نراها، أتت مخيبة للآمال.
تزامنت ذكرى الثورة هذه المرة مع نشاط محموم ومكثف لأركان السلطة الانتقالية، وقوى اتفاق سلام جوبا، وما تبقى من تحالف الحرية والتغيير الذي تهلهل ولا يجد حتى الآن من يبادر لترميمه، لتشكيل حكومة انتقالية جديدة، ومجلس شركاء انتقالي، دون أن نسمع، ولو همسة، عن تقييم أداء مجلسي السيادة والوزراء في الفترة السابقة حتى يتم إصلاح الأخطاء وسد الثغرات. وكل ما نسمعه مجرد أحكام عامة عن فشل تجربة حكومة التكنوقراط، وأن البديل هو تشكيل حكومة محاصصة حزبية وسياسية، دون أي توضيح يحترم عقول الناس حول لماذا فشلت حكومة التنكنوقراط، ولماذا العلاج هو حكومة المحاصصة الحزبية؟.
أعتقد، ربما يتجدد الأمل عند الناس بإصلاح الحال، إذا ما نفّذ الممسكون بمقاليد الأمور عددا من التدابير. وبالطبع الحديث هنا يأتي مكررا، ولكنه تكرار يُغني من السؤال عن طبيعة الحال، ويؤكد أن الحل والإصلاح لا يحتاجان إلى إختراع العجلة من جديد، بل هما دائما موجودان ومتاحان:
التدبير الأول: في مقالنا بمناسبة الذكرى الأولى لتولي الأخ حمدوك رئاسة الوزراء، أشرنا إلى ما بشرنا به في خطابه، حول المناسبة، عندما قال إنهم بصدد انجاز تقرير تفصيلي حول أداء الحكومة «…سينجز خلال فترة وجيزة» وهو ما لم يحدث حتى اللحظة، وقلنا إننا نتوقع أن يتضمن التقرير تقييما وتقويما جماعيا، من مجلس الوزراء وقيادة تحالف الحرية والتغيير، وليس من أي لجنة أو مجموعة أو أي جهة خرى، يناقش بكل صراحة وشفافية أداء مجلس الوزراء، رئيسا ووزراء، ويضع يده على الأخطاء والسلبيات التي شابت الفترة الماضية، وأن يجيب على التساؤلات والمطالب التي وردت في مذكرات ومواكب الثوار، وفي المساهمات الجادة المنشورة في الصحف والوسائط، ويقترح المعالجات الملائمة. وبعيدا عن الممارسات التي لا علاقة لها بروح ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة، والأقرب إلى ممارسات النظام البائد، من نوع بايعنا وجددنا الثقة، نشدد على أهمية التقيد بمراجعة وتقييم أداء مجلسي السيادة والوزراء، شخوصا وإنجازا، للمهام الموكلة إليهما، ونشر التقييم على الناس، تمهيدا لضخ دماء جديدة في المجلسين عبر آلية الإحلال والإبدال. وبالنسبة للدماء الجديدة المتوقعة في مجلس الوزراء، أعتقد سيكون تكرارا للخطأ إذا كان اعتمادهم في المجلس سيتم فقط حسب المكتوب في السيرة الذاتية (سي في) لكل منهم. لا بد من تقديمهم عبر الإعلام المرئي وتوضيح حيثيات إختيارهم بشكل علني، وليطرح كل منهم رؤاه وكيفية إدارته لوزارته، ويدار حوار معه بواسطة مختصين وإعلاميين وممثلين لقطاعات الشعب.
التدبير الثاني: أن تلتزم قوى الحرية والتغيير بالموعد الذي قطعته، لتشكيل المجلس التشريعي، آخر العام، حتى يستضيف المجلس احتفالات البلاد بأعياد الإستقلال. أقول ذلك، طمعا في طرد ودحر شكوكي بعدم وجود جدية ورغبة حقيقية، عند كل الأطراف، الحاضنة السياسية وأجهزة الحكم الإنتقالي، في تشكيل المجلس التشريعي. ونكرر قولنا بأن المجلس التشريعي، ولأنه غير منتخب، ستنحصر صلاحياته فقط في مراقبة أداء الحكومة ومساءلتها، وتغيير تركيبتها إذا اقتضى الأمر، وسن التشريعات الضرورية لتصفية نظام الانقاذ، والتشريعات المتعلقة بقضايا الفترة الإنتقالية. أما القضايا المصيرية المرتبطة بإعادة بناء الدولة، فهي خارج صلاحيات المجلس التشريعي الإنتقالي، ولا يمكنه البت فيها، وإنما تترك للمؤتمر القومي الدستوري. وبصراحة، فإن استقرار الفترة الانتقالية وتقدمها حتى نهايتها الطبيعية، رهين بقيام هذا المجلس.
التدبير الثالث: شحذ الإرادة وتذليل المعوقات للتعجيل بإنضمام الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال، وحركة تحرير السودان، للانضمام إلى قطار السلام، وأن يُعقد مؤتمر قومي للسلام الشامل، يحضره كل أصحاب المصلحة من مناطق النزاعات والحروب، وكذلك المجموعات التي لم تشارك في مفاوضات جوبا، والقوى التي وقّعت إتفاقات الدوحة والشرق وغيرها، والقوى السياسية والمدنية الأخرى، ويناقش المؤتمر كيفية المزج والمزاوجة بين نتائج اتفاقات السلام المختلفة، ووضع أسس السلام المستدام.
التدبير الرابع: الشروع الفوري في تكوين المفوضيات القومية، والتي تُمثل الآليات الرئيسية في إستعادة الدولة المخطوفة من براثن الحزب البائد، وفي تحقيق عملية الإنتقال ببلادنا من دولة الحزب الواحد الإستبدادية إلى دولة الوطن الديمقراطية. صحيح أن المفوضيات جميعها هامة ومفصلية بالنسبة لنجاح الفترة الانتقالية، لكن مفوضية المؤتمر الدستوري وصناعة الدستور الدائم، تكتسب أهمية مضاعفة نسبة لاقترانها بأسباب وقف الحرب ومخاطبة جذور الأزمة السودانية وتحقيق الإجماع حول المشروع الوطني لإعادة بناء ونهضة الدولة السودانية بما يحقق رضا كل مكوناتها القومية والإثنية والجهوية.
نقلا عن القدس العربي