تتلخص وقائع قضية طرشان أبو كرموش في قيامه باقتلاع دعاية انتخابية لأحد المرشحين، وهي لافتة من قماش كانت معلقة على احد الجدران في الشارع الفاصل بين حيي خازوق الشمالي وخازوق الجنوبي، وقد ساعده في ذلك المتهم الثالث وهو اسكافي اتخذ شجرة قرب الجدار موقعاً لإصلاح الأحذية؛ حيث قام بتقديم الشاكوش لأبي كرموش، أما المتهم الرابع وهو صبي الورنيش فقد وضع صندوقه تحت تصرف ابي كرموش ليصعد عليه؛ ويقتلع المسامير العلوية لقطعة القماش. بينما انحصر دور السيدة زوجة ابي كرموش وهي المتهم الثاني في استلام القماش وتسليمه لجارتها صاحبة ماكينة الخياطة؛ وهي المتهم الخامس، وقد قامت هذه الجارة بحياكة سروال وقميص بلدي لابي كرموش من قماش اللافتة، أما ابنة ابي كرموش فقد اوشكت ان تكون في عداد المتهمين؛ غير أن صغر سنها اسعفها في الإفلات من ضمها للقائمة، فقد استحوذت هذه الابنة على قصاصات القماش واستخدمتها لتزيين شعرها صانعة منها اشكالاً تشبه الفراشات والزهور. لم تتمالك الفتاة نفسها فذرفت دمعاً غزيراً عند نزع القصاصات من رأسها؛ بغرض احضارها للمحكمة ضمن أدلة الاتهام؛ اسفاً على زهراتها التي ذبلت وفراشاتها التي طارت، وجلست القرفصاء في ركن من اركان الغرفة حزينة وقد بلل الدمع ثيابها.
كان طرشان أبو كرموش يعمل اجيراً على عربة كارو تعود ملكيتها لاحد اقاربه، وقد بات حصانه ليلته تلك دون عشاء؛ إذ لم يدخل جيب ابي كرموش يومها قرش واحد، مع ذلك تضامن الحصان مع صاحبه وصبر الى ظهيرة اليوم التالي معللاً نفسه بتحسن الأحوال، لكن صبر الحصان نفد عندما لم ير شيئاً أخضر من برسيم أو قش يلوح في الأفق؛ فأخذ يهمهم ويغمغم مستاءً، ولما أشتد جوعه دخل مرحلة التمرد بصهيل متواصل؛ وعندما لم يجد ذلك نفعاً في لفت الانتباه لقضيته؛ طفح به الكيل فوجه لأبي كرموش رفسة مباغتة في لحظة يأس؛ وقد ظهرت أهم نتائجها الكارثية على الفور وهي تمزق سروال ابي كرموش الوحيد. أول ما وقع عليه بصر أبي كرموش عقب حادثة الرفس هو اللافتة فتوجه نحوها وقام بانتزاعها بمساعدة المذكورين. اتهم المرشح صاحب الدعاية الانتخابية ذو الجذور القبلية المرشح الآخر المنافس له بانه وراء هذه العملية؛ ونشب شجار بالعصي وتراشق بالحجارة بين انصار الفريقين، نتج عنه إصابات بالغة؛ وكاد الأمر ان يتطور إلى نزاع قبلي مسلح لولا تدخل الشرطة في الوقت المناسب؛ وفرضها منع التجوال في المنطقة. توجه مراسلو الصحف المحلية والمصورون ومندوبو الوكالات الأجنبية الذين يرصدون وقائع الانتخابات نحو المحكمة فاكتظ المكان بهم، كانت لائحة الاتهام الموجهة لابي كرموش وبقية المتهمين تتكون من ست تهم هي: السرقة، استلام المال المسروق، إتلاف مال الغير، التسبب في الأذى الجسيم، التسبب في إثارة الكراهية ضد الطوائف، الإخلال بالسلام العام. سأل القاضي أبا كرموش أن كان مذنباً أو غير مذنب، بدت على أبي كرموش علامات عدم فهم السؤال؛ فجال بنظراته الحائرة في قاعة المحكمة مما حدا بأحد المحامين التدخل لإنقاذه، أرسل له المحامي إشارات بيديه وتعابير وجهه ليقول انه غير مذنب، لم يتمكن أبو كرموش من فك شفرة الاشارات المرسلة اليه من المحامي؛ فأخذ يحدق في القاضي وهيئة المحكمة وقد اكتسى وجهه بعلامات التبلد التام، كرر القاضي السؤال مرة أخرى فاختار أبو كرموش بصورة عشوائية وهو يرى عبوس وجه القاضي وارتفاع صوته بنبرة غاضبة عبارة غير مذنب، قالها بصوت عالٍ وهو يرسل نظرة مستغيثة لمحاميه؛ محاولاً في الوقت نفسه احتواء بوادر غضبة القاضي وتأكيداً لفهمه للسؤال، سحب أبو كرموش نفساً عميقاً وانفرجت اساريره؛ حين بعث له المحامي إشارة مطمئنة مصحوبة بهزة رأس ومعها ابتسامة؛ بانه النجاح قد حالفه في تقديم الإجابة الصحيحة. سأله القاضي ان كان هناك أحد ما حرضه على اقتلاع اللافتة، كالمرشح المنافس مثلاً أو احد أنصاره؟ أجاب أبو كرموش أنه لا يعرف كيف تبدو اشكال المرشحين؛ ولم تكتحل عيناه منذ ان خلقه الله برؤية مرشح واحد وجهاً لوجه، لا منافس ولا غير منافس. استطرد أبو كرموش قائلا أنه لولا رفسة الحصان لما حدث له كل هذا، لكنه مع ذلك فهو سعيد جداً رغم وجوده هنا في هذا المكان. استرعت هذه الملاحظة انتباه القاضي فسأله مستغرباً عن سر سعادته؛ فأجاب ابو كرموش أنه يحمد الله كثيراً ليلاً ونهاراً؛ على أن خسائر الرفسة قد توقفت عند السروال ولم تتعداها إلى أبعد من ذلك! اثارت هذه الجملة موجة من الضحك في القاعة فتشجع أبو كرموش ووجه خطابه للقاضي متسائلاً: ألا يحتاج موضوع مثل هذا يا مولانا لشكر الله وحمده؟ كان تأثير موجة الضحك قد امتد للقاضي فلم يتمالك نفسه وابتسم في وقار؛ وتجاهل الإجابة على سؤال ابي كرموش متظاهراً بالانشغال بتنظيف عدسات نظارته. واصل أبو كرموش الشرح فقال انه وبعد قيامه بتفقد نفسه، واطمئنانه على سلامة عظامه؛ وجد أن السروال قد لحقت به اضرار بالغة وأنه اصبح عملياً خارج الخدمة؛ واتضح له جلياً الحاجة الماسة لستر عورته، كان أول شيء وقع عليه بصره هو قطعة القماش المعلقة، وبما أن الجدار لا عورة له فقد رأى نفسه احق بتلك القطعة من ذلك الجدار، لذا اتجه نحوها من فوره وقام باقتلاعها بعد أن لف نفسه جيداً بالشوال الذي كان يجلس عليه، ثم خلع الشوال وقام بلف نفسه بها إلى أن وصل لمنزله حيث سلمها لزوجته، قال أن هذه هي كل القصة. لم يفت أبو كرموش توجيه الشكر لصبي الورنيش وللإسكافي الموجودين معه في قفص الاتهام لمدهما يد العون له في تلك اللحظات الحرجة فضجت القاعة بالتصفيق؛ مما اضطر القاضي لاستخدام المطرقة لفرض النظام. كان النص الذي كتب على اللافتة يقول (صوتوا للصقر رمز الديمقراطية)، تمكن السروال من الاستئثار لنفسه بكامل كلمة الديمقراطية، بينما وجدت كلمة الصقر نفسها عظم نزاع بين إبطي القميص البلدي. طالب محامي الاتهام بتوقيع اقصى عقوبة على ابي كرموش وامثاله الذين يعتدون على الديمقراطية، قال وهو يرفع السروال الذي تم ضبطه في بيت ابي كرموش: انظروا أيها السادة لهذا الدليل القاطع، أنظروا لكلمة الديمقراطية، بل تمعنوا جيداً وليرسل كل واحد منكم بصره كرتين ليرى أين استقرت هذه الكلمة العظيمة داخل السروال، هل يرضيكم ان تهان هكذا؟ هل يرضيكم أن يهان هذا الحلم الكبير لكثير من شعوب العالم بهذه الطريقة؟ اليس من العار أن تصبح الديمقراطية عندنا في السودان حبيسة السراويل؟ واصل محامي الاتهام مرافعته: لقد اناخ هذا الرجل الواقف امامكم على الديمقراطية بمؤخرته؛ والحق بها اذى جسيماً ولا بد من انزال العقوبة الرادعة به وبأمثاله من المستهترين بالديمقراطية وقيمها ومثلها العليا. يا سادتي الكرام إني ومن كل قلبي أرثى الديمقراطية في بلادي، بل انعاها لكم، كنا نخشى عليها من كتم انفاسها بمؤخرات العساكر ليلاً، فاذا بنا نجدها وقد أصبحت ضحية لمؤخرات المدنيين وقد دنستها جهاراً نهاراً. دارت معركة شرسة بين المحامين استهلكوا فيها الكثير من المصطلحات القانونية وتقلبت على السنتهم الفاظاً انجليزية وفرنسية، ذكروا أسماء الكثير من فقهاء القانون من بلاد شتى من بريطانيا وفرنسا ومن الهند ومصر والعراق واستشهدوا بأقوالهم. قال محامي الاتهام معلقاً على البند السادس في لائحة الاتهام وهو الإخلال بالسلام العام؛ أن ابا كرموش وجه ضربة للسلام المجتمعي العام بتصرفاته غير المسؤولة والتي تسببت في اثارة النعرات القبلية وكادت أن تدخل البلاد في فتنة. هنا تساءل محامي الدفاع متهكماً عن ماهية هذه النعرات التي تحركها قطعة قماش! فرد عليه محامي الاتهام ببرود: إن كانت ثقافة الأستاذ المحترم لم تسمع بشيءٍ اسمه القشة التي قصمت ظهر البعير فعلى الثقافة السلام. تخاصم المحامون حول مدلول النعرات القانوني واللغوي واضطروا للجوء لمعاجم اللغة العربية، أتهم محامي الدفاع محامي الاتهام بالتعنت، قال للقاضي أن هذا المحامي لو أُرخي له العنان للاستمرار في تعنته فسوف ينتهي به الأمر لطلب حضور ابن منظور( ) شخصياً ليدلي بشهادته في القضية، وعليه فمن واجب المحكمة إيقافه عند حده. أما أبو كرموش وبقية المتهمين فقد انزووا في إمكانهم وافواههم مفتوحة وحواجبهم مقوسة معبرة عن الحيرة التي علت وجوههم، لقد اذهلهم أن تثير قطعة قماش اكلت المسامير أطرافها وتلوثت بالغبار وتلونت ببراز الطير كل هذه الضجة. وصل أبو كرموش لقناعة تامة بانه لو كسر محل اقمشة فخم في شارع الجمهورية؛ واستولى على كافة محتوياته؛ وقام طوال الليل بنقلها بعربة الكارو فلن يثير الأمر كل هذه الاهتمام، لذا عندما طال الجدال وبسطت كلمة نعرات سيطرتها التامة على القاعة؛ وأخذت تهاجم أذنيه من كل ناحية، من السقف ومن الجدران والزوايا الأربع؛ اسند ظهره إلى قفص الاتهام ونام واقفاً. قال أحد المحامين الذين تبرعوا للدفاع عن المتهمين: - يا هيئة المحكمة الموقرة، لم يجد أبو كرموش هذا البائس الواقف امامكم مخرجاً عند قيام السلطات باعتقاله ومصادرة سرواله إلا باستعارة سروال احد جيرانه، وقد جابه المسكين صعوبة في ارتدائه نسبة لاختلاف مقاسات الرجلين، فأبو كرموش كما ترون قصير وجاره نحيف طويل، ولولا حكمة رجال الشرطة وتفهمهم للموقف لشهدنا اعتقال هذا المواطن دون سروال، ولربما جيء به الى هنا كما خرج آدم من الجنة، الأمر الذي كان سيشكل سابقة خطيرة لم تسجلها مضابط الشرطة في السودان من قبل، إن المناضل طرشان أبو كرموش أيها السادة يمثل هذا الشعب المحتاج، يمثل الطموح المشروع في حياة كريمة ومأكل وملبس لائقين.. لا أكثر. استمر المحامي في مرافعته وحين ختمها ضجت القاعة بالتصفيق الحاد؛ فأفاق أبو كرموش من غفوته مذعوراً، واحتاج لبرهة زمنية ليست بالقصيرة ليتعرف على نفسه؛ ويحدد موقعه في الزمان والمكان، وعندما تمكن من ذلك هيأ أذنيه لسماع كلمة نعرات مرة أخرى، لكنه فوجئ بأن كلمة نعرات اختفت وحلت محلها كلمة مناضل؛ والتي أخذ المحامون يقرنون اسمه بها في سياق كلام كثير لم يفهم مضمونه، وخيل اليه من غرابته أن المحامين لا يتحدثون اللغة العربية بل لغة أخرى لا يعرفها. ارتسمت على وجهه دهشة مندهشة وهو لا يصدق نفسه عندما وجدهم قد قاموا بحجز مقعد له في قطار المناضلين، استقبلت اساريره ابتسامة عريضة امتدت من الأذن إلى الأذن عندما صوبت زوجته نحوه نظرة ودودة عبرت بها عن قمة سعادتها بهذا الإنجاز، ثم جاءه اليقين بحصوله على رتبة المناضل ولم يعد لديه أدنى شك في ذلك عندما أنهى محامي آخر مرافعته بالقول: - إن المناضل أبو كرموش ما هو إلا رمز من رموز نضال الطبقة الكادحة المسحوقة. قام أبو كرموش برد تحية زوجته فنظر لها بكل فخر وهو مسرور للغاية بنيله هذه الرتبة، وزاد من سروره أن المحامي قد صنفه ضمن طبقة، كانت المرة الأولى في حياته التي يكتشف فيها أن لديه طبقة؛ وانه مواطن صالح كبقية المواطنين، وأن اسمه مدرج مثلهم في التصنيف الطبقي العام، كانت فرحته بهذا التصنيف كبيرة جداً فاخذ يضحك في حبور؛ وبانت اسنانه المبعثرة في ارجاء فمه؛ والتي نخرها السوس؛ فبدت كأضواء محطة خلوية بعض فوانيسها يعمل والآخر مطفأ. قال أحد محامي الدفاع: يكفى الديمقراطية فخراً أنها سترت عورة هذا الرجل، يجب أن يسجل التاريخ أن هذا الشخص هو أول مواطن في بلادي يستفيد فائدة مباشرة من الديمقراطية، لكن ستر عورة مواطن واحد كل اربع سنوات تعني فيما تعني؛ أيها الحضور الكريم؛ أننا لو أردنا تعميم الفائدة على جميع المواطنين؛ فان أفضل شيء يجب أن نفعله هو القيام بإلغاء العمل بالتقويمين الميلادي والهجري؛ واعتماد تقويم جديد مبني على السنين الضوئية، لأن ستر عورات السواد الأعظم من المواطنين لن ينفع معها سوى اعتماد الحساب بالسنين الضوئية. وحتى هذه ربما لا تجدي نفعاً إذا وضعنا في الحسبان الانقلابات العسكرية، ففي هذه الحالة قد تقوم القيامة ويرث الله الأرض ومن عليها؛ وعدد الذين ستتكفل الديمقراطية عندنا بستر عوراتهم لن يتجاوز سكان حي من أحياء ام درمان القديمة. اولت وسائل الإعلام الأجنبية اهتماماً كبيراً بالقضية؛ وانهمر وميض كاميرات التصوير على سروال ابي كرموش المعروض أمام المحكمة كدليل أتهام، فأصبح هو بطل القضية بلا منازع، ونال شهرة عريضة في اوروبا لم ينلها من قبل أي سروال آخر من سراويل افريقيا والشرق الأوسط. كتب مراسل صحيفة صنداي مون اللندنية والمعروف بآرائه اليمنية المتطرفة مقالاً يقول فيه: (قضية ابي كرموش دليل قاطع على سوء تعامل شعوب العالم الثالث مع الديمقراطية، إني احس بالحزن العميق عندما أرى جميع تضحيات الحضارة الغربية التي قدمتها في سبيل الديمقراطية تُختزل في السودان في سروال، يحز في نفسي أن هؤلاء الهمج المتخلفون لم يقبلوا وبكل اسف ان تكون الديمقراطية عنوان فخار؛ وعمامة موشاه ومطرزة فوق رؤوسهم فاختاروا لها ذلك المكان الذي لا يخطر بالبال، وياله من مكان، لقد اختاروا ان يجلسوا عليها بمؤخراتهم، باي عين سننظر إلى أجدادنا الإغريق وبرلمانهم في أثينا، وما الذي سنقوله لكرومويل، وكيف لنا أن نفخر بالثورة الفرنسية، بل لماذا حاربنا هتلر أساساً؟ لماذا فقد ملايين البشر ارواحهم في الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ هل يحدث كل هذا لتنتهي الأمور إلى هذه النتيجة السروالية التي تفتقت عنها عبقرية هؤلاء الناس؟ أيا هذا العالم الثالث، سحقاً لك).