- في 7 يناير أعلنت وزارة المالية السودانية ان مجلس الوزراء قد أجاز تقديرات موازنة العام المالي 2021م, ادناه بعد الملاحظات الأولية علي ما جاء في بيان الوزارة والتصريحات المصاحبة:
- زعمت الوزارة ان "النسبة المخصصة للصرف على التعليم تقدر ب(137) مليار جنيه بنسبة 12.5٪ بزيادة بلغت (170٪)ولأول مرة في التاريخ ميزانية التعليم تفوق ميزانية الدفاع".
- ولكن الوزارة لم توضح هل موازنة الدفاع التي تتحدث عنها تشمل صرفها علي الدعم السريع. بالتأكيد لو أضفنا موازنة الدعم السريع وأموال شركات الجيش واستثمارات الدعم السريع التي لا ترد في الموازنة, يكون قول الوزارة عن أن ميزانية التعليم تفوق ميزانية الدفاع لا تسنده ارقام ويزداد انكشاف الزعم علي ضوء تصريحات سابقة من قادة الشق المدني بان 82% من موارد البلد خارج سيطرة وزارة المالية – أي في أيدي المكون العسكري.
- أعلنت الوزارة أن الموازنة خضعت لتشاور واسع من قبل كافة مؤسسات الدولة واللجنة الاقتصادية للحرية والتغيير وشركاء السلام ولجان المقاومة والخبراء الاقتصاديون من الجامعات والسياسيون.
- حتى لو صح هذا الزعم الذي تشكك فيه تصريحات افراد من اللجنة الاقتصادية للحرية والتغيير ولجان المقاومة فالصحيح أيضا ان الموازنة لم يتم عرضها علي الرأي العام اطلاقا. وقد شكي بعض أعضاء لجنة قحت الاقتصادية وأعضاء لجان المقاومة من الحكومة رفضت ان تطلعهم علي الموازنة. بـل ذهب بعضهم الِي ان هناك موازنتان , واحدة للاستهلاك العام واخري للخاصة من أهل الخارج. لذلك فان الحديث عن مشاركة واسعة في اعداد الموازنة لا معنى له اذا استثني الرأي العام.
- ومن نافلة القول ان أعضاء مجلسي السيادة والوزراء المناط بهم إجازة الموازنة ليسوا كلهم من أهل الدراية بالاقتصاد والأرقام , لذا كان من الواجب عرض الموازنة علي الرأي العام ليدلي بدلوه موفرا بذلك إضافة يستند عليها اعضاء مجلسي السيادة والوزراء في تنقيح الموازنة وتعديلها قبل الاجازة حسب ما اكتسبوه من علم الرأي العام وطموحات الشعب الممكنة.
- القول بان "موازنة العام 2021م خصصت مبالغ مقدرة لمعاش الناس و الدعم النقدي للأسر السودانية والحماية الاجتماعية واستمرار دعم القمح والدواء وغاز الطبخ والكهرباء", لا معني له في ظل رفع الدعم وزيادة الضرائب بمتوسط 60% هذا التضخم الجامح الذي فاق 250%.
- أحوال معاش الخلق تخبر عنه قرصات الجوع وآلام المرض وانفلات الأسعار , لا تصريحات الوزارة الوردية.
- الدعم النقدي المباشر بمبلغ 500 جنيه في الشهر (اقل من دولارين أو مشوار ركشة ) نكتة سخيفة تسيئ للدولة قبل المواطن.
- الحديث عن مواصلة الدعم للقمح والدواء وغاز الطبخ والكهرباء حتى لو صح يظل قضية محاسبية, أما واقع الشعب المعاش فيحدث عن زيادات فلكية في أسعار كل هذه السلع وغيرها. ومن نافلة القول ان الشعب يعيش في واقع متعين, لا في دفاتر محاسبة وزارة المالية.
- حديث الوزارة عن زيادة الإنفاق المرتبط بزيادة الإنتاج والإنتاجية والاعتماد على الذات من خلال تفجير طاقات الإنتاج لا يتسق مع معدل النمو المتوقع في حدود 1%.
- هذا النمو متواضع للغاية وغريب لان الناتج المحلي الاجمالي قد انكمش في 2020 بمعدل مقدر بـ 8.4% حسب صندوق النقد – ربما حوالي 6.5% منها بسبب الكورونا, لذلك فان الاقتصاد فقط لو استعاد أراضيه التي فقدها بسبب الكورونا من الممكن ان ينمو بأكثر من 6.5% فقط ليعود للحظة ما قبل الكورونا. عموما لا يمكن الحديث عن دعم الإنتاج في ظل نمو لا يعوض خمس ما اكلته الكورونا.
- ومن ناحية أخرى تقول بيانات الحكومة بان الناتج المحلي الإجمالي قد انكمش في 2020 بمعدل 3.2% (لا 8.4% كما يقول الصندوق) ولكن في كل الأحوال يظل معدل نمو في حدود 1% لعام 2021 (أو 0.8% حسب الصندوق) متواضعا للغاية ولا يتسق مع التبشير الذي لا ينقطع عن دعم الإنتاج والانتاجية بالذات في جولات التبرير لرفع الدعم عن الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا.
- وأيضا لا يتسق معدل النمو المنخفض مع الزيادة المتوقعة في الإيرادات باعتبار ان العائد الضريبي يرتبط ارتباطا وثيقا بمعدل نمو الاقتصاد, فكل ما ارتفع النشاط الإنتاجي والاستهلاكي ارتفع الدخل الضريبي.
- وفي ظل نمو ضعيف من الصعب رفع الإيرادات الضريبية الحقيقة من غير فرض الام إضافية مبرحة علي مواطن لم يبقي في جسده شبرا اخرا لضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم من سهام الفترة الانتقامية.
- حديث الوزارة عن أن موازنة 2021م تحقق فائض جاري وتحافظ على نسبة عجز كلي في حدود 1.4٪ من الناتج المحلي الإجمالي يفتقد الواقعية, ثم ان وثيقة الموازنة لم تنشر للرأي العام للتمحيص فيها والتدقيق في الأرقام.
- قبل عام, حددت موازنة 2020 الأصلية عجز كلي بنسبة 3.5% من الناتج المحلي تم تعديله لاحقا بعد منتصف العام الِي 12.4% وهناك مؤشرات توضح ان الحجم الحقيقي ربما كان اعلي كثيرا من 12.4%. لذلك فان الزعم بأن موازنة 2021 تحقق فائض جاري غريبة وربما مستحيلة فلا يوجد دليل علي زيادة إيرادات حكومية أو انخفاض مصروفات بما يتيح ذلك.
- من الواضح ان الفائض الجاري المذكور يأخذ في الاعتبار المعونات الأجنبية ولكن أرقام العجز/الفائض يجب ذكرها أولا قبل المعونات كفرق بين الإيرادات والصرف العام , ثم بعد ذلك إضافة المعونات وحساب العجز بعد المعونات كما هو متعارف عليه في وثائق الموازنات.
- ولكن لم تصرح الحكومة بعد بحجم المعونات المتوقعة ولا عن مصادرها ولا عن من وعد بها. ونذكر هنا ان موازنة 2020 افترضت ان حوالي نصف صرفها سيتم تمويله بمنح مليارية من الخارج اتضح انها كانت خيال غير علمي, وحتى المليارات التي قيل ان الصناعات العسكرية ستتبرع بها اتضح انها أيضا كانت خيال من بنات الاحلام.
- لذلك فان علي الوزارة يقع واجب إيضاح المكون الأجنبي ومصادره واحتمالاته والشروط التي تأتي معه. وأيضا عليها ان توضح سعر الصرف الذي سوف يطبق على هذا المكون الأجنبي لإدراجه في ارقام الموازنة الواردة بالجنيه السوداني.
- التعتيم علي تفاصيل المكون الأجنبي وسعر الصرف المتعلق به يثير الريب المشروعة ويضاعف من الشكوك حول العجز الكلي للموازنة والفائض المدهش في الحساب الجاري.
- في تقريره الأخير ذهب صندوق النقد الدولي الي ان عجز الموازنة سينخفض الِي 1.3% من الناتج المحلي الاجمالي بحلول عام 2025 بعد اكتمال رفع الدعم وإصلاح (تعويم) أسعار صرف الدولار. لذلك يبدو ادعاء الموازنة بتحقيق فائض جاري (يستثني الصرف التنموي) في 2021 عوضا عن 2025 ضربا من "التفاؤل" المتطرف الذي يدخل في بند السواقة بـالخلا الدقداقي قبل رفع الدعم وتعويم أسعار الصرف ووصول دفعات كبري من المنح الأجنبية.
- لا يمكن الوثوق بـزعم الوزارة بأن تمويل الموازنة يتم بإيرادات حقيقية يصحبه تقليل للاستدانة من البنك المركزي من (239) مليار جنيه إلى (52) مليار جنيه بهدف رفع عبء التضخم عن المواطن وتثبيته على نسبة (95٪).
- أضف الِي ذلك ان تمويل 52 مليار جنيه بطبع النقود لا يعطي سببا للاحتفال إلا اذا جاز الاحتفال بغرز خنجر رب رب في قلب الاقتصاد ستة سنتمترات بدلا عن عشر سنتيمترات.
- وأيضا لا يمكن التحقق من مصداقية التمويل من مصادر حقيقية من غير فحص المكون الأجنبي وحجم المنح المتوقعة ومن وعد بها لأنه في حال عدم وصول هذه المنح ستضاعف الحكومة من طبع النقود - علي عادتها التي لم تستطع عنها فطاما - لتمويل صرفها وإدخال البهجة في قلوب ابطال السلام.
- ذكرت الحكومة ان من أهم إيجابيات وملامح موازنة العام 2021م احداث إصلاحات ضريبة وجمركية وتوسعة المظلة الضريبية بنسبة 60٪.
- ولا ادري كيف تكون زيادة العبء الضريبي بهذه النسبة المرتفعة من الإيجابيات لأن الضرائب ببساطة تضاعف من تكلفة المعيشة الضنك التي يعانيها المواطن خاصة بأن جلها ان لم يكن كلها ضرائب استهلاك غير مباشرة وبالتالي فهي بالتعريف رجعية وغير تقدمية يتحملها الفقير والغني بنفس الدرجة في افضل الاحوال.
- من المؤكد ان الضرائب لا مفر منها لأي اقتصاد ولا خلاف علي أهميتها، الخلاف حول طبيعتها وتصميمها بهدف تحقيق عدالة نسبية في توزيع وقعها بين طبقات المجتمع.
- نسبة لهشاشة توقعات الإيرادات وكذلك العجز وضبابية المكون الأجنبي فان معدل التضخم المتوقع في موازنة 2021 الذي يبلغ 95% (وقيل 59%) يكون عصفورة متناهية الصغر في شجرة عملاقة. ولا ننسى ان موازنة 2020 توقعت تضخم بمعدل 30% تم تعديله بعد منتصف العام الِي 65% ولكن في الواقع, بنهاية العام بلغ المعدل علي أساس شهري اكثر من 250% وبلغ المتوسط السنوي 142% أو ما يقارب خمسة اضعاف ما أتت به توقعات موازنة 2020.
- حديث الحكومة في سياق الموازنة عن اتفاقية مع وزارة الخزانة الأمريكية بمبلغ (1.2) مليار دولار لا معنى له وبه شيء من التضليل.
- سبق ان ذكرنا ان هذا قرض معبري/تجسيري لا يترتب عليه الحصول علي دولار واحد مباشر. القرض المعبري هو دين قصير الأجل يتم تسديده خلال أيام أو ساعات. تنبع أهميته من أن قوانين المؤسسات المالية الدولية لا تسمح لها بـإعفاء الديون أو تقديم تمويل في شكل قروض أو منح لبلد كي يستخدمها في سداد القروض المستحقة لنفس المؤسسات المالية الدولية.
- حسب الاتفاق ستقوم الولايات المتحدة بتقديم شيك بمبلغ القرض لحكومة السودان التي ستقوم بتحويل الشيك لصالح البنك الدولي بغرض تسديد المتأخرات للبنك. وبعد تنظيف المتأخرات مباشرة يقدم البنك قرضا جديدا للسودان بنفس المبلغ. يستلم السودان شيك المبلغ (أو تحويل رقمي) من البنك ويقوم بتسديد كامل المبلغ للحكومة الأمريكية ربما في نفس اليوم. باختصار القصة تتلخص في ان تسلف امريكا السودان مبلغ, يسدده لها في نفس اليوم أو اليوم التالي. ويمكن تكرار نفس المعاملة مع وبنك التنمية الأفريقي وصندوق النقد الدولي لاحقا.
- تتيح هذه المناورات إعادة علاقة السودان مع المؤسسات المالية متعددة الأطراف الشيء الذي يتيح إمكانية الحصول علي تمويل إضافي مشروط من هذه المؤسسات في المستقبل في شكل قروض أو هبات.
- حصلت بعض الدول الأخرى علي مثل هذه القروض المعبرية، بما في ذلك ليبيريا وميانمار واخرها الصومال التي حصلت علي قرض معبري من النرويج في مارس 2020 استخدمته لنفس الغرض وبلغت قيمته 366 مليون دولار وتم رده للنرويج في غضون 5 ساعات.
- بما ان القرض المعبري لا يوفر أي تمويل جديد ولا بسنتيم واحد فان ايراده في نقاش الموازنة فيه محاولة لبيع أخبار سعيدة لا أساس لها.
- أضف الِي ذلك ان أي تمويل قادم من البنك الدولي وغيره سوف يأتي بشروط شديدة بخصوص رفع ما تبقي من الدعم وتعويم الجنيه وتحرير الأسعار لترتفع يوميا مع تحركات سعر الصرف وزيادة الضرائب وتقليل الصرف علي الخدمات العامة والخصخصة، وكل ذلك يضاعف من تكاليف المعيشة علي المواطن المسحوق.
- أما الحديث عن اتفاقية أخرى مع بنك التصدير والاستيراد الأمريكي بمبلغ (1) مليار دولار فانه يأتي ضبابيا ولم تعلن تفاصيله ومن الصعب التعويل عليه لان بنك التصدير والاستيراد الأمريكي مملوك للحكومة التي لا تقدم هباتها عن طريقه.
- مجال عمل بنك التصدير والاستيراد يركز علي تعظيم الصادرات الأمريكية حول العالم بتوفير التمويل والتأمين والضمانات الأخرى للمصدر الأمريكي - عندما يكون القطاع الخاص غير راغب في توفير التمويل. لذلك فإن الأرجح ان البنك سوف يقدم تسهيلات للمصدرين الأمريكيين لاختراق السوق السوداني.
- ولا ندري ما علاقة تسهيل الصادرات الأمريكية للسودان بالموازنة إلا كفصل اخر من الخطاب الاقتصادي لعام 2020 الذي بشر بمليارات الدولارات من العون الأجنبي الذي لم يتحقق وبشر بوضع حجر الأساس لبناء مترو الخرطوم ومطارها الجديد بنظام البوت.
- ختاما , كل هذه الملاحظات الأولية مبنية علي معلومات مدكترة وغير مكتملة من تصريحات وزارة المالية ولا شك في ان الكثير من المحللين الرصينين علي استعداد لتمحيص ادق وافضل بعد صدور وثيقة الموازنة الرسمية المعتمدة.