“تس سليلة دبرفيل” لتوماس هاردي: فتاة ريفيَّة في تعاسة (1من 9)
shurkiano@yahoo.co.uk
في إحدى الأمسيات من أواخر شهر أيار (مايو) أمسى الرجل الذي كان في منتصف العمر في طريق عودته من شاستون إلى منزله في مدينة مارلوت، وإذا به يسمع عبارة مساء الخير أيُّها السير جون؛ وإذا بهذا الرجل الذي فارق عهد الشباب، لكنه لم يبلغ عمر الشيب بعد، ولم يشتعل رأسه شيباً يحتار في أمر هذا الذي يناديه بهذا اللقب الرفيع. ثمَّ إذا به يفكِّر مليَّاً، ويهمس لنفسه في نفسه قائلاً: ما بي اليوم وبالأمس حتى أخذ الأسقف يخاطبني بلقب "السير"، وقد فعل ذلك حين قابلته في السوق في المرَّة الفائتة، وإنِّي لتُراني ما أنا إلا جاك ديربيفيلد، ذلكم المساوم المتواضع!
وما أن شرع جون – أو جاك كما يجانس الإنلكيز هذا الاسم – يسأل الأسقف ترينغهام عن سبب مناداته ب"السير"، حتى أخذ الأخير يشرح ما يعنيه بما يدَّعيه لصاحبه وهو به زعيم. فقد أخبره بأنَّه قد قام ببحثٍ مستفيض في مكتبة المدينة عن تأريخ المنطقة، وعثر على علاقة وثقى بين عائلته ديربيفيلد وبين عائلة دبرفيل، التي تتحدَّر من بيغن دبرفيل، وهو ذلك الفارس الذائع الصِّيت الذي جاء من نورماندي في شمال فرنسا مع وليام المنصور، وسكن في هذا الجزء من إنكلترا.
وبعد هذا الاكتشاف الخطير عاد جون إلى أهله يتمطَّى، وها هو الآن السير جون. وما هي إلا لحظات حتى أخذ السير جون يواصل طريقه صوب المدينة؛ وإذا به يقابل طفلاً عربيداً في الطريق؛ وإذا به يأمره بأن يركض إلى المدينة ويأتي بالحصان لسيادته؛ وإذا الطفل يتمهَّل ويتململ من هذه التعليمات الفوقيَّة في أوَّل الأمر؛ ثمَّ إذا هو ينشرح صدره ويفقه قول سيادته في نهاية الأمر بعد أن قذف إليه السير جون بقطعة نقديَّة، ومن ثمَّ جاء الطفل إلى المدينة مهرولاً، وكان للسير جون ما أراد. وما هي إلا لحظات حتى حضر السير جون إلى أهله وأنبأهم بالنبأ اليقين، ومن ثمَّ ذهب إلى الحانة للاحتفال بهذا الاكتشاف البهيج مع أقرانه في حبور وسرور، ووسط حال من الهرج والمرج. وإذ يتأخَّر الليل ولم يأت جون؛ وإذ تذهب زوجه للبحث عنه في ذلكم الليل البهيم، ولم تحضر هي الأخرى ولا هو كذلك؛ وإذ ترسل تس أخوهم الصغير إبراهام، وتمضي ساعات ولم يعد هو الآخر، بل لا أثراً لهم كلهم أجمعين أكتعين؛ ثمَّ تلحق بهم تس بعد أن نوَّمت إخوتها.
وفي نهاية الأمر عادوا كلهم أجمعون أبتعون. وما أن أصبح الصبح وودَّع ليلاً عسعساً، حتى تتحرَّك تس وأخوها إبراهام في ذلكم الصباح الباكر لتسويق العسل في السوق التي تُقام دوماً في يومٍ معلوم من أيَّام الأسبوع في قرية مجاورة. وإذا الحظ يتعثَّر بهما في منتصف الطريق، حيث يُقتل حصانهما الذي كان يجرُّ مركبة، وذلك في الطريق العامة بعد أن أخذهما النوم بغتة في المركبة، وينحرف الحصان إلى الجانب الآخر من الطريق حتى تصطدم به العربة التي تحمل الرسائل البريديَّة الصباحيَّة، والتي كانت تعدو بسرعة فائقة من الاتجاه المعاكس. ومن هنا يتمُّ إسعافهما في منتصف النهار بحصان آخر، ويتم دفن الحصان الميِّت في فناء البيت بعد القيام بطقوس جنائزيَّة حزينة وسط بكاء الأطفال واعتصار الوالدين حزناً عميقاً لفقدان هذا الحصان الذي كانوا يعتمدون عليه في أكثر ما يكون الاعتماد في سبل كسب العيش.
وتمضي الأيام وإذا الأسرة تفكِّر مليَّاً في البحث عن جذورها في أسرة دبرفيل؛ وإذ يصل بهم التفكير والتدبُّر إلى الاهتداء إلى سيِّدة من آل دبرفيل؛ وإذ يتمُّ فتح قنوات الاتصال والتواصل معها، حتى يُتوَّج التواصل بتعيين تس كمربية دواجن في منزل هذه السيِّدة الثريَّة في مدينة تانتردج. وفي أوَّل زيارة لتس إلى منزل السيِّدة دبرفيل استقبلها شاب الأسرة أليكسندر – أو أليكس اختصاراً – الذي طاف بها في الحديقة الغنَّاء التي باتت تكتظ بشتى أنواع الفواكه، وكأنَّها روضة من رياض الجنة، وأخذ أليكس يقطف من أثمارها ويناولها فاكهة وعنباً، ويضعها في سلَّتها تارة، وفي فمها تارة أخرى، ويقطف باقات الزهور ويعلِّقها على طاقيَّتها حيناً، وعلى فستانها فوق صدرها حيناً آخر. فقد هام أليكس بهذه الفتاة الزائرة من أوَّل وهلة، فكانت ربة المحاسن والبراءة والوداعة، وكان كلامها ترنيمة مشاعر، وفي عيونها المفاتن، أي شيء ما له حد، وقد قيل إنَّ للعيون سحر يسبَّب الجنون، وإلى مثلها يرنو الحبيب صبابة. وكان لسان حال أليكس الملهوف يقول "قلبك إنتِ جابني لشاطئ الأمان."
ثم رجعت تس إلى أهلها وعادت بعد أيَّام إلى دار السيِّدة دبرفيل في اليوم الموعود مع أليكس، الذي أحضرها. على أيٍّ، فلقد تخلَّل هذه الرحلة الصعود والهبوط، حتى وصلا إلى دار السيِّدة دبرفيل مساءً، ونزلت تس في الغرفة المهيَّأة لها، وما هي إلا لحظات حتى وصلت المركبة التي كانت تحمل متاعها. وفي اليوم التالي شرعت في وظيفتها في رعاية الدواجن.
وإذ تمضي الأشهر، وتمكث تس تمارس عملها الذي من أجلها جاءت إلى تانتردج؛ وإذ يزداد أليكس شغفاً بها وهياماً؛ وإذ تمانع هي في حبِّه لها وتزداد فراراً وصدوداً، حتى إذا جاءا سويَّاً إلى سوق من أسوق القرية القريبة، وطال سفرهما ذاك – أو بالأحرى لنقل – أطال أليكس سفرهما ذلك لكي يستمتع بحديثها، ويتمتَّع برفقتها في تلك الليلة المقمرة وسط الغابة الموحشة، التي بالكاد لا يستطيع أحدٌ أن يسمع شيئاً إلا حفيف الشجر تحت أشعة القمر. وفي سفرهما ذاك حاول أليكس أن يقترب منها زُلفي بشفتي محب يشتهي التقبيل، إلا أنَّها مالت ومانعت، ثمَّ طلب منها بسمة أو بسيمة، وكان لسان حاله يقول البسيمة الحليوة منك زادي، وكذلك لم يجد طلبه منها إليه سبيلاً، ثمَّ هبَّت رياحٌ خفيفة أخذت طاقيتها وألقت بها بعيداً على قارعة الطريق، أو ربما فعلت هي ذاتها هذه الفعلة مرغمة حتى تنزل من المركبة مدَّعية أنَّها تودُّ أن تأخذ طاقيتها، ومن ثمَّ ترفض في أشدَّ ما يكون الرَّفض الركوب معه لئلا تكون بالقرب منه.
وفي تلكم الأثناء قد يتعرَّض النسيج الأنثوي الرَّقيق إلى حظٍ عاثرٍ خشن مهما بلغ صفاؤه. فالخشونة تصادر النعومة دوماً؛ والرجل الخطأ قد يكون من نصيب المرأة الحسناء حيناً، أو إنَّك لواجدٌ المرأة الخطأ مع الرجل السيئ طوراً. وقد فشل النَّاس في خلال الآلاف من السنوات من ترديد الفلسفة التحليليَّة أن يوضِّحوا شعورنا في هذا النظام الاجتماعي الشائك. ولعلَّ الآنسات القرويَّات في الرِّيف الإنكليزي كنَّ يتعرَّضن لهذا الاستغلال الجنسي من أبناء المزارعين في القرى الرِّيفيَّة، والتي تتعارض مع الأخلاق الحميدة في كل الدِّيانات، وتبغضه الطبيعة الإنسانيَّة. وبرغم من ذلك كله كان أهل تس يؤمنون في أعظم ما يكون الإيمان بالحتميَّة القدريَّة، وذلك منذ أن خرجت تس من منزل والدتها وهي عصيَّة من أن تتزوَّج من أسرتهم المفقودة المعثورة، وعصاميَّة في أن تقبل بالعمل في مزرعة الدواجن، ترتزق منها، وتسد بها رمق أهلها من أجل حياة رغيدة.
وللرواية بقيَّة،،،