ضيف علي الروزنامة
صديق امبده
(اقتصادي ـ أستاذ جامعي ـ
عضو اللجنة التَّنفيذيَّة لاتِّحاد الكتَّاب)
الاثنين
كُنت وابن عمي عبد المنعم أحمد (الآن حاج عبد المنعم) أطال الله عمره، نسرح بالإبل ترعى حول «الضَّرا»، حيث الحوايا، ومشمَّعات للنوم، وربما لاستعمالات أخرى. حوايا جمع «حوِيَّه»، وهي كالسرْج توضع على ظهر الجمل لحمل العفش الذي هو عبارة عن جُربان الهدوم، وشَبَك العطرون، والزُّوادة و .. أشياء أخرى مفيدة!
ـ «ستمطر»!
قال عبد المنعم، وأصاب. كان الفصل خريفاً، وكان الوقت بعد الزوال تقريباً. تجمعت السحب، واسودَّت. هرع عبد المنعم يغطِّي محتويات «الضرا» بالمشمعات، وكان أهمها شَبَك العطرون الذي يصنع من لحاء الأشجار، فالبدائل مثل الجوالات لم تكن، حينها، متوفرة بسهولة. والعطرون قابل للذوبان إذا صُبَّ عليه الماء، وهو مهم لصحة الأبل عموماً، لزيادة مناعتها، ولفتح شهيتها، وبالتالي لضمان سِمنتها، كما لعلاج بعض أمراضها. والعطرون، في تقدير الكثيرين، إضافة، بالطبع، إلى المراعي الطبيعية، هو سبب الطعم الشَّهي الممًّيز للحوم السودانية.
بدأ المطر بقطرات متفرقة، ثم ما لبث أن صار له دوي «شَووو» .. يصب «بخشُم خُرج» كما يقال. كنا قد هرعنا، قبل ذلك، للدخول تحت المشمع، مع «الحوايا» والعطرون. وتحت المشمع سمعت ليك صوت عبد المنعم يختلط بصوت المطر، يدعو، ويكرر: «اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا .. اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا». كان يومها شاباً حدَثاً أكمل الخلوة، وصار «مشروع» فكي، وهو ما تمَّ له بالفعل لاحقاً. وكنت أنا حينها صغيراً، ربما في حوالي الثامنة أو أقل، لا أذكر، ولكن تقدمت في قراءة القرآن في الخلوة. فاستطعت، في تلك اللَّحظة، أن أفهم، بصورة أو بأخرى، أو هكذا خيُّل إليَّ، أنه يتمنى أن ينزل المطر، فيروي الأرض، ويقوم القَش، وتخضر الأشجار، لترعاها إبلنا، لكن "تَبرا" ضرانا، أي تصب بعيداً عنه، وتترك مساحة صغيرة ناشفة، قُول زي تسعة أمتار مربعة، حتى لا «ينمًّاص العطرون»، وتغمر المياه باقي الارض. الانسان بصير على نفسه، أليس كذلك؟! أهم شئ عند البدوي بهائمه؛ وأنظر إلى دعاء البدوي الآخر، دعاء من القلب على قدر حاله، يقول بعد صلاته: «إنشالله الياكلنُّو ينفعهِن واليِلدنُّو يتبعهِن»، أي يطلب من ربه أن ينفع بهائمه بما تأكل، وألا تموت مواليدها.
يحق لسكان الخرطوم أن يرددوا نفس الدعاء في الخريف بسبب طفح المجاري وتُرع الشوارع! ولولا خشية الأنانية التي تدفع الأمريكان، مثلاً، للدعاء: «اللهم أرفق بأمريكا God Bless America»، ما يعني «أمريكا فقط»، لقلنا للكرونا: «اللهم حوالينا ولا علينا»!
الثلاثاء
منذ سقوط الطاغية ونظامه كان هنالك إجماع على أهمية تفكيك التمكين، وإعادة الأموال المنهوبة. لكن تحقيقات النائب العام تطاولت دون أن يعرف أغلبنا ما هي اولوياتها، بل في أي قضايا هي، ومتى تكون محاكماتها. فإذا كان ما يهمنا ويهم السودان، أساساً، هو المستقبل، والإستفادة من دروس الماضي حتي لا تتكرر أنظمة دموية وشمولية مثل الإنقاذ، فإن هذا لا يتأتي، ولو جزئياً، إلا بمحاكمة المفسدين. وربما كان الأهم من كل هذا ملاحقة ومعاقبة الذين اتخذوا القرارات المالية والإدارية، وعبَّدوا طرق الفساد، ودمروا الإقتصاد والمؤسسات بكفاءة يحسدهم عليها أعدى الأعداء. سيحاولون الدفع بأن التنظيم هو الذي أعطى التوجيهات. لكن، مهما يكن من شئ، سنصل في النهاية إلى أشخاص بعينهم علي مستويات مختلفة من المسؤولية، فنحاكمهم على جرائمهم، وهي، من بين أخريات، تدمير الإقتصاد، والخدمة المدنية، والقوات النظامية، وتشريد المواطنين، وقطع أرزاقهم، ولنأخذ أمثلة:
(1) من الذين حلوا المؤسسات، والوحدات الحكومية التي كانت كابحا لاستغلال الأفراد لمواقعهم حتى لا يُهدر المال العام. مثلاً النقل الميكانيكي الذي كان يحدد صلاحية العربات المستوردة للعمل في السودان، خاصة الحكومية. ومصلحة المخازن والمهمات التى كان من مهامها تصنيع اثاثات المكاتب، والمدارس، وتحديد مواصفات الاثاثات الحكومية، مش أي مسئول يجدّد ويستورد علي كيفو. ومصلحة الأشغال التي كانت تحدد مواصفات المباني الحكومية، وتستلمها من المقاولين منعاً للتلاعب. ضف الي ذلك تدمير، أو بيع، أو خصخصة مؤسسات مختلفة، دون اتباع الأسس المتعارف عليها؟!
(2) من الذين دمروا مشروع الجزيرة، وباعوا أصوله، حتي لا تقوم له قائمة، وقد كان العمود الفقري للقطاع الزراعي الحديث، وللاقتصاد السواداني ككل؟!
(3) من الذي اتخذ قرار حل مؤسسة بخت الرضا لتدريب المعلمين ووضع المناهج في أقل من شهر، وهدم مكتبتها، وشرد المعلمين والمتدربين؟!
(4) من الذي دمر إرشيف دار النشر التربوي، بما فيه إرشيف مجلة الصبيان (أنشئت في حوالي 1946م وكان يرسمها المبدع شـرحبيل احمـد)، ورمى به في العراء حتي تلف؟! (5) من الذي باع لنقابة العاملين المطبعة التي كانت تطبع كتب مراحل التعليم العام؟!
(6) من الذين باعوا أصول حكومة السودان في الخارج، بما فيها سفارات، ومنازل سفراء، ونُزُل طلاب؟
(7) من الذي أمر ببيع منازل الحكومة في وسط الخرطوم، وعواصم الولايات، وقام بتمليك بعضها لمنسوبي الحزب الحاكم (كمان بعد صيانتها على حساب الدولة)؟!
(8) والأهم من هم أعضاء اللجان الذين أعدوا قوائم الفصل للصالح العام في كل المؤسسات الحكومية، والنتيجة فصل أكثر من 70 ألف موظف مدني، و25 ألف ضابط جيش وشرطة، غير صف الضباط؟
إن عددا كبيرا من موظفي و معاشيي المؤسسات المعنية مازالوا أحياء، ويعرفون الأسماء، وبعضهم يمتلك الوثائق التي تدين أولئك المسؤولين السابقين. إذا لم يحاكم أمثال هؤلاء، وتنشر أسماؤهم في وسائل الإعلام المختلفة، فلن ينصلح الحال، ويمكن أن تتكرر نفس الأخطاء. أهم شئ النشر، وأهميتة هي الردع بالفضح، والناس عموماً (لا في السودان فقط) يخافون الفضيحة أكثر مما يخافون .. الله أو القانون!
الأربعاء
حول إحدى «العمليَّات» التي كانت تعد لها «حركة العدل والمساواة»، روى شاهد العيان العائد من «الحركة» عبدالرحمن عيسي تيمان، لـ «صحيفة القرار»، في 4 ديسمبر 2012م، قائلاً: «في مطلع عام2002م اتصل بي الأخ الدُّفعة، والجاد جداً، عبد العزيز نور عُشَر، وأخبرني بأن د. علي الحاج والمجموعة المنضوية في (المنشور) أسسوا حركة العدل والمساواة، وكان معه خمسة أخرون من غير تفاصيل. وطلب مني أن أساعدهم في توزيع (المنشور)، وقد كان. وفي بداية 2004م اتصل بي الأخ دونقو، وأخبرني بأن هناك شيئاً سيحدث، لتؤول، بعده، السلطة للحركة، وطلب مني الاشتراك معهم»! وأكد تيمان على أن المؤتمر الشَّعبي كان حاضرا في كل أحداث المحاولة، وأنه اعتقل، وأمضى عاماً وسبعة أشهر بين دبك وكوبر، قبل أن تصدر محكمة طوارئ بحري قراراً ببراءته، عاد بعده الي عمله بجمارك الحاويات بسوبا!
الخميس
هل للوائح قيمة عند سياسيي الحركة الإسلامية ودعاتها؟! للإجابة نقرأ شهادة شاهد من أهلها؛ عبد الرحيم عمر محي الدين كتب في مؤلفه «الترابي والإنقاذ - فتنة الإسلاميين بالسلطة»، الصادر عام 2006م، أن لوائح الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني كانت تنص على أن النظام السياسي هو الذي يقود الدولة والمجتمع، وأن الحركة الإسلامية هي مرجعية الحكومة في كل مستوياتها. غير أن بدر الدين طه، والي الخرطوم خلال العام 1994م/ 1995م كان يرى أنه المسئول الأول والأخير، وبالتالي لا يرى أنه مقيد، لا بتعليمات أمين الولاية محمد محي الدين الجميعابي، ولا بتوجيهات مكتب التنظيم والحركة الإسلامية بالعاصمة! ولمَّا احتدم الخلاف بين الجانبين، وبلغ ذروته، تمت دعوتهما للاجتماع مع الترابي، الأمين العام وقتها. حضر الاجتماع، إلى جانب بدر الدين والجميعابي، كل من يس عمر الإمام، وعلي الحاج، ومحمد أحمد الفضل، ومجذوب يوسف بابكر، من جانب، وثمانية من مكتب الحركة بالخرطوم، بينهم عبد الرحيم عمر محي الدين نفسه، من جانب آخر. كان رأي ممثلي مكتب الحركة أن على الوالي أن يعمل بالتنسيق الكامل، والشورى المُلزمة، مع المكتب وأجهزة الحركة، ومن ثمَّ انتقدوا بشدة شموليته، وعدم تقديره لتلك الأجهزة. على أنهم فوجئوا بمناصرة الترابي الكاملة لبدر الدين طه، أي نُصرة الجهاز التنفيذي على الجهاز السياسي! وروى الكاتب أنهم قالوا للترابي إن مناصرته تلك للوالي لا سند لها في أدبيات أو لوائح الحركة الإسلامية أو المؤتمر الوطني. لكنه رد عليهم رداً صاعقاً، بل محيّراً، بل لغزاً تامَّاً، وذلك بقوله لهم بكل صراحة: «هذه اللوائح نحن كتبناها من أجل الخواجات والإعلام الغربي فقط، أما الحقيقة فهي أن الوالي هو رئيس الجهاز التنفيذي والسياسي معاً»! فقال الكاتب إنهم سألوه معترضين: «إذن ما هو دور المؤتمر الوطني»؟! فجاء رده صاعقاً أيضاً «دوره هو الدعوة الشاملة والتبشير بالمشروع الإسلامي .. فقط»!
الجمعة
غيب الموت، بالسبت23 يناير الجاري، ابراهيم اسحق، الروائي، والقاص، والباحث، والرَّئيس الأسبق لاتِّحاد الكتاب السودانيين، الذي وافته المنية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد عشرة ايام فقط من مغادرته إليها للاستشفاء بها .. "ناداه قبره" رحمه الله. وبرحيله تنطوي حقبة ذات خصوصية في الفضاء الثقافي السوداني امتدت لنصف قرن كان خلاله الراحل ملء العين يكسب قراء ومحبين جدد كل يوم. خصوصية هذه الحقبة تتمثل في فتحه الموروث الثقافي للحكي والحوارالقصصي علي غير المألوف، وهو عامية أهل دارفور ("المعمور السلطاني" في لغة الكاتب). وقد كانت تلك، بحق، مغامرة لم يدرك أهمية خوضها الا القليلين، أولهم إبراهيم نفسه، بعزيمته التي لا تلين. فقد داوم علي الانتاج بتلك اللغة الهجين، رغم عدم استحسانها، في البداية، حتي من قبل القراء من دارفور ذاتها كما يشير الي ذلك الشاعر عالم عباس بقوله "عندما صارت الرواية (حدث في القرية) في أيدينا نحن ابناء دارفور، كنا أقل الناس احتفاءً بها، و للأمانة، فإنه يمكن القول بأنها كانت صدمة للكثيرين منا، وتبرأ بعضنا منها كأنها معرَّة! لم ننتبه إلى فنياتها، ولا إلى غناها، ولا إلى لغتها المدهشة" (شوقار الخريف اللين، سودانايل ديسمبر 2018م).
داوم ابراهيم، طول تلك المدة، علي انتاج ما يجيده، وبالنهج الذي اختاره، غير آبه بازورار النقاد عن تناول إبداعه الا فيما ندر، مراهنا علي المستقبل، ومقتنعا بأصالة ما يقدمه. ينبئك عن إيمانه ذاك استمراره في الكتابة بنفس اللغة رغم ما وصله من آراء حول وعورتها لدى الكثيرين. وللأسف لم يقتدِ أي من كتاب أطراف السودان القصية بنموذج ابراهيم، فيكتب حواره بعاميته المحلية التي فشل الاعلام الرسمي في تعريف الآخرين بها. كان الراحل في تقديري متفرداً يتقدم كتاب القصة القصيرة في السودان دون منازع. ربما يشبهه فقط تفرد جمال الغيطاني في مصر (مع اختلاف نوعه)، عندما نشر "يوميات شاب عاش منذ الف عام" (1968)، والتي افترع بها فتحاً جديداً في الحكي بعين التاريخ الذي تطل من منصته علي حاضرنا المعلول، والذي ربما لم يختلف، جذرياً، عنه قبل ألف عام.
نودع بالحزن كله مبدعاً أثري وجداننا وفضاءنا الثقافي بما سنظل نستمتع به، ونختلف حوله، لسنين قادمة، وسنضعه في مكانه المستحق يوما ما. نودعه كما يودعه أهل "كافا" ("ما كندو" ابراهيم) بما فيها مركزها "الدِّكَة" والحلالات المجاورة ، ذلك المجتمع المُتصوَّر لعشيرة آل كباشي الذي تتبع فيه ابراهيم سيرتها، ودار معها في أزمنة مختلفة، عبر رواياته وقصصه القصيرة.
رحم الله المبدع ابراهيم اسحق، وأحسن إليه، وأسبغ عليه من نعمائه، بقدر ما أعطي لوطنه، وما أسهم به في توسيع ماعون ثقافته، ليتعرف الكل علي لغة الآخر، فيدركون أن المعرفة به هي سبيل القبول والتعايش والسلام.
السبت
منذ زمن طويل ظلت تسترعي انتباهي ظواهر لم أجد لها تفسيراً، وأعجب لماذا لا تتم معالجتها، ومنها مثلاً:
(1) لماذا لا تفرض إدارة المرور على سائقي «المواتر» لبس الخوذة الواقية للرأس؟! تجدهم بأعداد كبيرة بدون خوذات، وبعضهم ينتسب للشرطة نفسها، وكثير منهم «رادفين» أصدقاء لهم، أو أُسر، بما في ذلك بعض النساء أحياناً. حوادث «المواتر» تنجم عنها كثير من الوفيات، أو، في أفضل الأحوال، الأذى الجسيم، أو الإعاقة الدائمة، وذلك غالبا بسبب عدم لبس الخوذة، ونتيجتها تكلفة بشرية ومادية عالية!
(2) حوادث المرو، سواء السريع، أو حتى داخل المدن، كثيرة، ومُروِّعة، وأعداد الموتى والجرحى الذين تخلفهم مهولة. أسباب ذلك عديدة لكن ربما أهمها العربات المتعطلة في أطراف الشوارع التي يضع اصحابها بعض الكُتل الخشبية أو الحجارة على بعُد أمتار منها للتنبيه، ومع السرعة والظلام الدامس لا يمكن رؤيتها فتنتج الحوادث! لماذا لا تجعل سلطات المرور عند الترخيص المثلث ذا الطلاء العاكس شرطاً للترخيص لكل السيارات مما يمكِّن السائق من رؤيته من على البُعد، وبالتالي يُخفِّض السرعة، فيتفادي الحادث؟!
(3) سيارات الدفع الرباعي التي يوقفها أصحابها فوق الفاصل «الجزيرة» بين المسارين عندما لا يجد أصحابها موقفاً قريباً من مقاصدهم. هذه السيارات تتسبب في تكسير البلاط الأسمنتى (بلوكات) الذي تقف عليه، فتتلفه، مما يقتضي صيانته علي حساب المال العام، ولا يدفع أولئك المستهترون أي ثمن لسلوكهم الخاطئ، رغم أنهم مخالفون وقادرون ماديا. ورأيي أن يعتبر مثل هذا الوقوف مخالفة شديدة العقوبة، إما بالغرامات العالية، أو الأفضل سحب الرخصة لمدة طويلة!
(4) في تدوين تفاصيل حوادث الحركة غالباً ما يسحب الشرطى ورقة بيضاء (A4) ويسجل عليها بخط اليد رسم الحادث والأقوال والبيانات لتحديد المُخطئ. هذه الورقة عرضة للتغيير أو التلف، وكثيرا ما تسبب مشاكل حقيقية في الإثبات، حسب ما أفادني قاض يعمل في المجال. السؤال: لماذا لا تطبع إدارة المرور دفاتر بنفس الحجم، مُرقّمة الأوراق، ويحمل الشرطي الدفتر، ويسجل البيانات في الورقة ذات الرقّم المتسلسل المثّبتة في الدفتر، وبذلك يتم تفادي احتمالات الأخطاء والأهواء البشرية؟!
دعونا نختم هذه اليومية بما أوصى به الخواجة إبنه. وخلاصتها أنه قرر أن يكتب وصية، أو مجموعة وصايا، لابنه الذي يستعد لدخول الجامعة ذلك العام. بدأ يكتب، وانهمرت عليه أفكار الوصايا حتى فاقت المائه وخمسين، وعندما تداولها الأصدقاء، أُعجبوا بها، فقرر طباعتها، فأصبحت من أكثر الكتب مبيعاً في أمريكا. كانت وصية الخواجة الأولي لابنه: «ما تغالط البوليس»!
وكدليل على بُعد نظر هذا الخواجة حكى د. سيد زكي رحمه الله أن شرطى المرور أوقفه في يوم قائظ، والفصل صيف. فأخرج الدكتور، بثقة تامة، رخصة العربة، ورخصة القيادة وناولهما للشرطي الذي أخذ يقّلبهما، مبتسماً، ثم أعادهما إليه، قائلاً:
ـ «أوراقك تمام مش كده»؟!
ـ «نعم»!
ـ «بعد ده ممكن أعمل ليك مخالفة»!
فاندهش الدكتور وسأله:
ـ «كيف»؟!
أجاب الشرطي، أيضاً، بسؤال:
ـ «هسي الدنيا مش صيف»؟!
ـ «نعم»!
ـ «وما في مطر»؟!
ـ «نعم»!
ـ «مخالفتك أنوعربيتك ما فيها منشَّات مطر»!
وهكذا .. فالمعنى هو أن الخواجة بقول لإبنه، وعبره، أيضاً، بقول ليك، يا المنطط عينيك: «ما تغالط البوليس .. تسكت بس»!
الاحد
هذا حديث عن المزرعة. لا لا، خيالكم ما يشطح بعيد .. دي مزرعة مختلفة! زراعة العيش الدخن في الريف عملية طويلة. بعد ما ينضج العيش يتم قطع القناديل ووضعها بانتطام في «الجُرُن»، في ركن من الزرع، ريثما تُحمل بعد ذلك إلى «المَدَق» المُبلًّط لتتم عملية دَقْ العيش و«تضريته»، وهي فصله عن «الوِتّاب» أو «البُتّاب» حسب المنطقة. بعدها يعبأ في جوالات، أويتم تخزينه في المطامير (مخازن غلال أهل الريف) في باطن الارض إذا كان لعائلة واحدة، أو يقسَّم قسمة عادلة/مُرضية (قسمة حِل وحلال). «الوِتّاب» في الغالب لا قيمة له (خارج القسمة)، وهذا ما يعرفه الشركاء.
ربما يذكر القراء «من الدَّقًّة القديمة» قصة في أحد كتب الأطفال أشارت إلى عملية العيش و«الوِتَّاب». فقد اتفق الثَّعلب مع الأرنب على الزراعة بالمشاركة، وعملا بجد، أو، في الحقيقة، الأرنب هو الذي اقتلع بقايا الزرع القديم بجهد جبار، وحرسا زرعهما حتى أتى أُكله. بعد ذلك عملا نفيراً لقطع العيش ودقّه. بعدها تفرق ناس النفير، تاركين العيش «مصوبر» بجهه، و«الوِتّاب» بالجهة الأخري. فكر الثعلب في اقتراح ألمعِي لقسمة المحصول فقال للأرنب: «إذا أنا أخذت العيش أنت تاخذ الوِتّاب، وإذا إنت أخذت الوِتّاب أنا آخذ العيش، رايك شنو»؟! وببسمة خبيثة أظهر أنيابه، فانكمش الأرنب متراجعاً إلي الوراء!
غايتو .. بالحاصل ده مرَّات يخيل لي إنو تقاسم السلطة بين أخواننا العسكر والمدنيِّين هو، عمليَّاً، أشبه بقسمة المحصول بين الثعلب والأرنب، والله اعلم!
***
sumbadda@gmail.com