?في العصر البشيري عانينا مع الشيخ الرئيس ابن سينا من أننا " بُلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم." أما في عصر ما بعد البشير فقد بلينا بقوم يظنون ان الفكر الرأسمالي لم يهد سواهم ولم يعيه غيرهم.
?كثيرا ما يصور الخطاب الرسمي ومناصروه الدعوة للتريث في رفع الدعم عن المحروقات علي انها صادرة من موقف اشتراكي عتيق عفا عليه الزمن ومن أيديولوجيات ماتت.
?وهذا التصور غير صحيح وجاهل بالرأسمالية التي يرفع شعاراتها فوق جهله بالاشتراكية وأيديولوجيات فلول اليسار.
?في كبريات الدول الرأسمالية المعاصرة المواصلات العامة تتمتع بدعم قوي وأحيانا تكون مجانية تماما.
?ويتم الدعم أو التوفير المجاني بحجة توفير العدالة لمصلحة الطبقات الدنيا (عكس نظرية صاحب البرادو) وللحد من تلوث البيئة وتفادي ازدحام الطرق الذي يضعف الإنتاج والإنتاجية بإهدار ساعات طويلة في الاختناقات المرورية يمكن استخدامها في العمل أو رعاية الأسرة أو الترفيه استعدادا لجولة اخرى من الإنتاج.
?وأيضا يتم الترويج لمجانية/دعم المواصلات بأنها خدمة أساسية من الواجب تقديمها بلا مقابل تماما كخدمات البوليس والمطافئ وما شابه بما انها ضرورة قصوى للوصول للعمل والتعليم وقضاء حاجات إنسانية لا تستقيم الحياة بدونها.
?علي سبيل توفر دولة لوكسمبورغ وسائل النقل العام مجانًا تماما بما في ذلك الترام والقطارات والحافلات. وقد ظلت تالين عاصمة إستونيا توفر وسائل النقل العام المجانية منذ عام 2013.
?كما أكثر من مائة مدينة في العالم تقدم مواصلات عامة مجانية، الغالبية العظمى منها في أوروبا، وخاصة فرنسا وبولندا, وليتوانيا وبعضها في أمريكا. ويتزايد الحماس لتقديم مواصلات عامة مجانية حول العالم.
?كما ان معظم مدن العالم في الدول الرأسمالية الكبرى التي لا تتوفر فيها المجانية تدعم حكوماتها المواصلات العامة بصورة كبيرة.
? فمثلا في مدينة جنيف تتحمل الحكومة اكثر من نصف تكلفة المواصلات العامة ذات السبع أنجم والواي فاي. كما ان مرتب ثلاث ساعات عمل بالحد الأدنى للأجور (اكرر الحد الأدنى) يكفي لشراء بطاقة مواصلات عامة صالحة لمدة شهر بلا قيود علي درجة وكم الاستعمال. ومن لا يجد عملا توفر له الحكومة السكن والعلاج المجاني ودخل أكثر من كافي. ? وفي ماضي غير بعيد اجري كانتون جنيف استفتاء لبدء مجانية المواصلات العامة رغم انها رخيصة ومدعومة بأكثر من نصف تكلفتها ورغم ان الدخول مرتفعة ومن لا يعمل تتولى أمره الحكومة بكرم. رفض شعب جنيف المبادرة لخوفه من ان تجذب مجانية المواصلات النشالين من الدول المجاورة المتخصصين في ترويع السياح الغافلين.
?من أهم الحجج للتريث في قضية دعم المحروقات في السودان ان ارتفاع أسعارها يزيد من أسعار كل السلع الخاضعة للنقل وغير الخاضعة له وهكذا يفاقم من مشكلة الفقر والحرمان الاجتماعي.
?اضف الِي ذلك ان رفع الدعم أحيانا يرفع تكلفة المواصلات لدرجة يصبح فيها مرتب العامل/الموظف لا يكفي لتغطية تكلفة ترحيله إضافة الِي سعر وجبة بائسة وما يرتديه من ملابس بسيطة للعمل.
?وهذا يعني ببساطة ان رفع الدعم يهدد تواصل الإنتاج في القطاع العام وفي كل القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية وبذلك قد يكلف الخزينة العامة- بإضعاف العائد الضريبي وانتاجية العمل في القطاع العام- اضعاف ما يوفر وهذه حماقة.
? وستتفاقم السلبيات الناجمة عن رفع يد الدولة عن قطاع المواصلات لان رفع الدعم وتحرير الأسعار يعني ارتفاع لا يتوقف لتكلفة المواصلات التي سوف يتم تعديلها مع كل انخفاض في سعر صرف الجنيه المتهالك ومع الارتفاع المتوقع في أسعار المحروقات في السوق العالمي بعد تعافي الطلب وانجلاء البيات الشتوي الذي تسبب فيه فيروس الكورونا. ?ذكرنا كثيرا ان مشكلة توزيع فوائد الدعم بين الطبقات يمكن ضبطها بفرض ضرائب سنوية إضافية علي أصحاب السيارات الخاصة, لتتصاعد هذه الضرائب مع درجة فخامة السيارة حتى يصرخ صاحب البرادو. لذلك فان حجة استفادة الأغنياء مبرر فاسد لرفع الدعم وبائس من نواحي معرفية واقتصادية واجتماعية وسياسية. ?الِي ان تقوم الحكومة ببناء شبكة مواصلات عامة مدعومة وقوية ونظيفة وتتناسب مع الكرامة الإنسانية يظل خيار المحافظة علي درجة من دعم الوقود مصحوبا بضرائب تصاعدية علي السيارات الخاصة هو الخيار الأفضل ليس فقط اجتماعيا، بل اقتصاديا أيضا آخذين في الاعتبار تأثير ارتفاع أسعار المحروقات علي الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي إضافة الِي ان صعوبة التنبؤ بأسعار الطاقة يثبط من الاستثمار لان صاحب الأعمال لن يستطيع التخطيط والاطمئنان النسبي في مناخ لا يدري كم ستبلغ تكاليف إنتاجه ولا مبيعاته المتوقعة .
?اخيرا فان الارتفاع اليومي المتوقع في أسعار المواصلات - في حالة استمرار تحرير أسعار المحروقات - الذي لا مفر منه مع الهبوط العمودي اليومي لسعر العملة الوطنية سيثير قلاقل سياسية كلا الحكومة والوطن المثخن بالجراح في غني عنها.