في جغرافيا واثنولوجيا المديح النبوي في السودان 2/2

 


 

 


Khaldoon90@hotmail.com

للشيخ عبد الرحيم البرعي بن الشيخ محمد وقيع الله 1923 – 2005م ، مدحة طريفة للغاية في هذا الباب نفسه ، وإن لم تكن مشهورةً حقاً ، شهرة الكثير من أماديحه التي سارت بها الركبان ، ورددها الصغير والكبير في عموم أنحاء السودان خاصة. تلك هي قصيدته في مدح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي مطلعها:
نِمْ يا فمِّي ليهم بشكِّرْ الأبطال
أصحاب الرسول الشوقنا ليهم طال
وهي قصيدة مدح منسوجة على منوال قصائد أخرى كثيرة مثلها في ديوان المديح النبوي التقليدي في السودان ، وقد جاءت على غرار تلك السلسلة من القصائد " النِم يا فميَّات " كما يسميها البروف ود القرشي ، أي التي تبدأ بعبارة: " نِم يا فمي ليهم بشكِّر الخ ". وكنموذج على تلك القصائد المتشابهات على سبيل المثال ، نذكر قصيدة الشيخ محمد حياتي الحاج حمد التي يقول مطلعها:
نِم يا فمي ليهم بشكّر الجيدين
أصحاب الرسول الأيّدولنا الدين
ومن غريب المصادفات ، أنني كنت قد استمعت قبل سنوات إلى تسجيل جميل جداً بشريط كسيت لهذه المدحة بالذات لحياتي ، من ضمن مدائح أخرى من أداء أولاد حاج الماحي ، كلهن من نظم حاج الماحي إلاّ هذه.
والشاهد هو أن قصيدة الشيخ البرعي التي نحن بصددها ، قد اشتملت على مقطع طويل وطريف للغاية ، فيه سرد مشوِّق لأسماء قرى وبلدات كثيرة بكردفان وما وراءها ، وسردها بنفس الطريقة التي انتهجها حاج الماحي. وذلك هو قوله داعياً لقاطني تلك النواحي جميعها بالخير والصلاح:
تعمر المساجد بالعلمِ والأذكار
من غرب الزريبة لبلود سنَّار
جملة الساكنين وبالحواري جوار
أم دم وام صميمة وسائر الحَفَّار
الخُنْ همَّل امُّه والغائبين حُضَّار
حلال اب سَنَدْ لى عند بلود تَنْدار
الروكَبْ وام ضفيرة مريخة قول كوفار
مجرور والبَنيَّة وزايدة لى شوقار
حَلاَّل التوير لى أخرش ومُختار
جوامعة وجِمِعْ بزعة وبني جرَّار
البرعو الغنم الإبل والأبقار
دار حامد شرِق غربيها واسعة الدَّار
حَلاَّل الرهد لى عند بريمة النَّار
كافة المسلمين في سائرِ الأقطار
البرعي النَّظم يُكتب مع الأبرار
والأحباب جميع في الجنة يلقوا قرار ..
هذا ، والملاحظ بصفة عامة أنَّ معظم القرى والبلدات التي ذكرها الشيخ البرعي في هذا المقطع ، تقع بمحلية أم دم حاج احمد الواقعة بولاية شمال كردفان ، بما في ذلك " الزريبة " ، التي هي قريته ، ومسقط رأسه ، وموضع مسجده و " مسيده " أيضاً ، وكذلك هي مكان مدفنه وضريحه.
قوله: أخرش ومُختار ، عنى بهما الشيخين: أخرش ود أبو عناية وشقيقه الشيخ مختار ود اب عناية ، وهما أخوان شقيقان صوفيان مشهوران من رجال القرن السابع عشر الميلادي ، ومن أعيان تلك المنطقة ، ينتميان إلى فرع " الجَماملة " من قبيلة الجوامعة التي ينتمي إليها معظم سكان تلك المنطقة. والشيخان مختار ولد أبي عناية وأخوه أخرش مذكوران كلاهما في كتاب طبقات ود ضيف الله ، حيث خصَّ المؤلف الشيخ مختار بالترجمة رقم 229 من قائمة التراجم التي اشتمل عليها ذلك الكتاب، بينما ذكر أخاه الشيخ " الأخرش " هكذا عرضاً ، في معرض ترجمة الشيخ " طه بن عمار القُرني " ، الذي نصَّ ولد ضيف الله على أنه كان شيخاً لكليهما ( انظر ترجمة الشيه طه بن عمَّار القُرني بالرقم 139 في كتاب طبقات ود ضيف الله ).
ذلك ، وتشير بعض الروايات الشفهية المتواترة في تلك المنطقة التي هي منطقة هذا الباحث نفسه لحسن الحظ ، إلى أن الشيخين مختار وأخرش ينتميان أساساً إلى العترة النبوية الشريفة ، أي انهم من الأشراف ، ولكن أسلافهما كانوا قد انحازوا إلى الجوامعة الجماملة منذ زمان بعيد ، وأصهروا إليهم ، فاندغمت ذريتهم فيهم. وبلغنا ان الشيخ البرعي نفسه يمت إلى ذينك الشيخين الصالحين بصلة القربى من جهة الجدات.
وفي سبعينيات أو في ثمانينيات القرن الماضي ، نفَرَ الشيخ البرعي في جماعة من أحبابه ومريديه من أهل " البلد " لزيارة مرقد الشيخ مختار ود اب عناية ، الكائن بمنطقة تُسمَّى " الكليبة البريقا " ، تقع بنواحي " كلوقي " من جبال النوبة الشرقية ، وسط منطقة تقطنها أخلاط من النوبة ، إلى جانب بعض بطون عرب الحوازمة والكواهلة أيضا.
ولا ندري ما هي الأسباب أو الملابسات التي حدت بالشيخ مختار ود اب عناية للارتحال من دار الريح إلى جبال النوبة الشرقية ، ولكن صاحب الطبقات ذكر معلومة جديرة بالتأمل والوقوف عندها في هذا السياق ، وهي أن الشيخ مختار ولد اب عناية ، هو شيخ الشيخ المشهور إسماعيل صاحب الربابة بن الشيخ مكي الدقلاشي ، ومرشده في طريق القوم. والمعروف بحسب رواية الطبقات نفسها أيضاً ، أنَّ والدة الشيخ اسماعيل المذكور ، قد كانت تنتمي إلى " السقارنج " ، وهم قبيل من الناس كانوا يقطنون في ذات المنطقة التي نزح إليها الشيخ مختار وأقام فيها ، إلى أن توفي ودفن بها.
ومما أطربني أيضاً في هذا المقطع ، ذكر الشيخ البرعي ل " بريمة النار " بوصفها واحدة من حلاّل الرهد أبو دكنة. وبريمة النار هي بالفعل قرية تقع على بعد نحو أربعة كيلومترات إلى الشمال الغربي من مدينة الرهد ، وقد اشتهرت عند سكان تلك المدينة بصفة خاصة ، بسبب البرج الحديدي العالي جداً ( المايكرويف ) الذي نُصب فيها في أواخر سبعينيات القرن الماضي ، بغرض تسهيل استقبال موجات الارسال التلفزيوني والاتصال الهاتفي آنئذ.
هذا ، ولولا خشية الإطالة ، لأفردنا كل قرية أو قبيلة أو عشيرة ذكرها البرعي في هذا المقطع ، بفذلكة تعريفية وافية ، وشرح مستفيض ، لكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

 

آراء