واحدة من إشكالية العمل السياسي في السودان؛ ليس هناك حوارا مفتوحا بين القوى السياسية لكي تتوصل فيه علي مباديء و مشروع سياسي يهدف لحل كل المشاكل، و الوصول إلي أتفاق وطني و دستور دائم للبلاد، يسمح بالتبادل السلمي للسلطة، و يرجع القرار للشعب السوداني، حيث يختار ممثليه عبر صناديق الاقتراع في مواقيت معلومة للجميع، و ينصرف العامة لأعمالهم الرئيس، و تترك السياسة لمواقيتها، أن تداول الحوار السياسي المفتوح للناس داخل مؤسسات العمل و في كل وقت سوف يكون خصما على انجاز مهام مشروع النهضة و التطور في السودان، المطلوب حقيقية أن يصبح أغلبية الجماهير واعية لحقوقها و واجباتها، و مراقبة السياسيين في تحقيق المشروعات التي تم الإعلان عنها، و عدم أختيار أي متقاعس أو فاشل في أداء مهامه إذا كان شخصا أو حزبا. و الإشكالية الآخرى أن القوى السياسية متقلبة في قناعاتها، و ليس لها وفاء بالمواثيق و لا بالاتفاقات السابقة التي كانت قد وقعت عليها، و هذا يعود لعدم المبدئية في التعامل السياسي، المسألة الأخرى أن كل قوى سياسية تريد أن تفرض شروطها علي الآخرين، فالديمقراطية لا تقبل فرض الشروط و لكن تفتح كل المنافذ للحوار من أجل الوصول إلي اتفاقات يقبلها الجميع، و تصبح هي أحد أعمدة الدستور الدائم للبلاد. الاسبوع الماضي وقع رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان مباديء مع رئيس الحركة الشعبية شمال عبد العزيز الحلو إعلان مبادئ تناولت العديد من القضايا تتمحور في الأتي "تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية في السودان تضمن حرية الدين والممارسات الدينية والعبادات لكل الشعب ، و أن لا تفرض الدولة ديناً على أي شخص وتكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشئون الدينية وشئون المعتقد والضمير كما تكفل الدولة وتحمي حرية الدين والممارسات الدينية، على أن تضمن هذه المبادئ في الدستور، وأن يكون للسودان جيش قومي مهني واحد، يعمل وفق عقيدة عسكرية موحدة جديدة، ويلتزم بحماية الأمن الوطني وفقا للدستور، على أن تعكس المؤسسات الأمنية التنوع والتعدد السوداني، وأن يكون ولاؤها للوطن وليس لحزب أو جماعة، و أيضا اتفق الجانبان على ترتيبات انتقالية بين الطرفين تشمل الفترة والمهام والآليات والميزانيات وغيرها، إيقاف دائم لإطلاق النار عند التوقيع على الترتيبات الأمنية المتفق عليها كجزء من التسوية الشاملة للصراع في السودان”. جاء أعتراض القوى السياسية علي فقرة واحدة في الإعلان. و التي تقول " أن لا تكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشئون الدينية و شئون المعتقد و الضمير" اعتقدها البعض أنها "العلمانية" رغم أن الذين يعترضون عليها قد وافقوا علي مبدأ الدولة المدنية الديمقراطية كمخرج من قبل. في الوقت الذي أعلنت فيه قيادات إسلامية رفضها لإعلان المبادئ، باعتباره أقر بالدولة العلمانية، رغم الإعلان قد تجاوز المصطلح، قبلته حركة تضامن التي يرأسها المحبوب عبد السلام، أحد المفكرين الإسلاميين، و قال المحبوب أنه تحرير للمبادئ قبل الجلوس للحوار حول قضايا الدستور حتى يجلس الجميع متساوين في الحقوق و الواجبات، لكن الرجل أطلق سؤالا مهما هل الدولة الحديثة التي تقوم علي مبادئ ديمقراطية مطالبة أن تخضع للمؤسسة الفقهية التقليدية التي تأسست في القرن الرابع الهجري؟ و قال أن الدولة الديمقراطية الحديثة التي نسعى لها في السودان يجب أن تتجاوز كل انماط و مكونات المجتمع التقليدي ما قبل المجتمع الحديث الذي يحتاج إلي منظمات مدني حديثة و أحزاب تتجاوز البناءات القديمة التي فشلت في تحقيق الدولة السودانية المستقرة التي ينعم فيها المواطن بالحرية و الرفاه. أن الجواب علي سؤال المحبوب ينتظر الحوار الفكري الذي يجب أن تخوضه التيارات الفكرية الإسلامية التي تسعى للتجديد و المراجعة الفكرية، و أيضا القوى التقليدية الأخرى. أن ثورة ديسمبر جاءت لكي تخلق فاصلا جديدا بين عهدين الأول الذي حكته بناءات تقليدية فشلت في تحقيق تطلعات الشعبز و الثاني خلق بناءات جديدة تتلاءم مع أطروحات الحرية و الديمقراطية و القيم الفاضلة. في جانب أخر خرج حزب الأمة القومي ببيان أكد فيه رفضه للدولة العلمانية ومبدأ تقرير المصير، وفرض الأجندة الأيدلوجية كشرط لتحقيق السلام ، و قال أيضا أن علاقة الدين بالدولة قضية وطنية لا يمكن تداولها والبت في أمرها خارج الإطار القومي، وأن المؤتمر الدستوري هو المكان الطبيعي لتنظيم هذه العلاقة ضمن نظام يقوم على الدولة المدنية الديمقراطية التعددية". أن الدولة المدنية الديمقراطية التعددية هو المصطلح الذي توصلت إليه القوى السياسية في "التجمع الوطني الديمقراطي السابق" في مؤتمر نيروبي الذي كان قد عقد في 17 أكتوبر 1993م لمناقشة قضية " علاقة الدين بالدولة" حيث أكد الجميع بما فيهم حزب الأمة علي مصطلح الدولة المدنية الديمقراطية و عدم قبول أي نصوص قانونية تتعارض مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان، باعتبارها مخرجا. و إذا كان حزب الأمة قد تمسك بالوثيقة الدستورية و وجوب التقيد بها، يكون له الحق في الاعتراض، باعتبار أن هذه القضايا يجب نقاشها في المؤتمر الدستوري، و الذي يجب أن يعقد في نهاية الفترة الانتقالية للوصول لحل لكل مشاكل البلاد و التوافق عليها، و الإعلان نفسه أكد أن المبادئ يجب أن يوافق عليها في المؤتمر الدستوري لكي تضمن في دستور البلاد، فالقضية ماتزال خاضعة للنقاش المتواصل. و في ذات السياق رحب الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل بتوقيع إعلان المبادئ بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية ـ شمال بقيادة عبد العزيز الحلو واعتبر الحزب في بيان له " أن توقيع الإعلان خطوة ذات أهمية كبيرة في طريق استكمال السلام ووحدة البلاد، وتجنيبها ويلات الحروب والعمل على بناء السلم الاجتماعي وحقن الدماء" أن ترحيب الاتحادي الأصل باتفاق هل بموجب موافقته علي إعلان نيروبي " الدين و الدولة" 17 إبريل عام 1993م" الذي كان وقع عليها. أم أن التوقيع علي أعلان المبادي بمثابة تصحيح لمسار كان خاطئا يعتبره البعض حدث عام 1968م بالدعوة لأسلمة الدولة. أم هو نتيجة لتحول ديمقراطي في البيت الميرغني له تبعات أخرى تسمح بتفشي الحرية في الحزب و توسع من مواعين الديمقراطية، هي في الحقيقة خطوة جريئة يجب أن لا تكون حدودها الترحيب فقط، و يجب أن تتبعها خطوات ذات جذر فكري يحتاج إلي أجتهادات تدعم مسيرة البناء الديمقراطي في البلاد. أن الترحيب دون أن يتبعه إصلاحات جوهرية تتفق مع المبادئ تكون مناورة فاشلة، أن التحول الديمقراطي في البلاد يحتاج لمجهودات فكرية تعزز من القيم الديمقراطية. بالضرورة أن الزملاء في الحزب الشيوعي لم يتخلفوا عن قائمة المرحبين، حيث أصدر المكتب السياسي بيانا رحب فيه بإعلان المبادئ و قال فيه "يرحب المكتب السياسي بالقضايا التي طرحت في إعلان المبادئ ، فيما يخص دولة المواطنة المدنية الديمقراطية التي تسع الجميع، والتوزيع العادل للثروة والسلطة والقضاء على التهميش التنموي والثقافي والديني، وبناء الجيش المهني القومي الواحد، والذي يعكس التنوع والتعدد السوداني والولاء للوطن لا لحزب او جماعة .رغم الايجابيات في الاعلان الا ان هذه الخطوة تؤكد من جديد اختطاف المكون العسكري لملف السلام الذي هو من صميم مسؤوليات مجلس الوزراء، ونشير الي اهمية تكوين مفوضية السلام التابعة لمجلس الوزراء." و نقول للزملاء كانت أمامك فرصة كبيرة بعد سقوط البشير و نظام الإنقاذ، أن يجري الحزب الشيوعي حوارا مجتمعا فيما يخص الدولة المدنية، و الدولة المدنية مصطلح توافقي بمثابة محطة أوسطى أتفق عليها الناس المختلفين " الداعين للدولة الدينية- الداعين للعلمانية" حتى لا يرجع الناس للوراء، و كان السكرتير السابق للحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد قد تحدث عنها تكرارا واحدة من اللقاءات لجريدة " الرأي العام" يوم 12 اكتوبر 2002م قال فيه " يجب أن يتطور طرحنا و تصورنا للدولة المدنية و عناصرها و مكوناتها - حقوق مدنية و طبيعية و دستور مدني من حيز الشعار إلي البيان السياسي، إلي مستوى المعالجة النظرية، عمقا و اتساعا، لكي لا يضاف لركام الشعارات التي تزحم الأفاق، ثم ما تلبث أن تنزلق من ذاكرة المواطنيين دون ان تستقر في وجدانهم" كان الزميل نقد صائبا في دعوته بأن يفتح حول قضية الدولة المدنية جدلا فكريا واسعا لكي تحتضنها ذاكرة الجماهير، لكن مشكلة القيادات الاستالينية أهملت الموضوع و دخلت في مشاكسات السلطة التي كانت تعتقد سوف تسيرها وفقا للشروط التي تريدها، و عندما فقدت سيطرتها رجعت مرة أخرى تبشر بقضية التحول الديمقراطي. كانت أمامها فرصة كبيرة جدا أن تنجز حتى ولو جزءا يسيرا من مهام برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية، لكن غابت العناصر ذات القدرات الذهنية و الفكرية التي تستطيع أن تستغل الظرف، فالحزب في حاجة إلي تغييرات جوهرية في القيادة تطال أصحاب الفكر الماركسي الآرثوذكسي، و تأتي قيادات جديدة تتماشى مع شعارات الثورة بأطروحات هبرماس و أودرنو و ماركوزا. أن إعلان المبادئ يجب أن ينظر إليه هو أنتصار فصيل على الآخرين، يجب ألنظر إليه أنه يعتبر عتبة جديدة يصعد عليها الجميع دون فرز للجلوس حول مائدة التفاوض في المؤتمر الدستوري. و أيضا يجب أن يقتنع الجميع أن المرحلة تحتاج إلي أجيال جديدة مع فكر جديد، يحتاج إلي أحزاب حديثة مؤمنة بالحرية قولا و فعلا و توسيع في المواعين الديمقراطية داخل الأحزاب قبل الدولة، و أن الكل يحتاج إلي مراجعات فكرية. و قد انتهى عهد الأحزاب التي تسيطر عليها الكارزمات الحوجة لأحزاب تؤسس على المؤسسية يشارك في قراراتها أكبر قطاع من العضوية " من القاعدة إلي القمة" و يجب علي الجميع أن يتفألوا خيرا. نسأل الله حسن البصيرة.