ألــــيـــفــــة رفــــعـــت .. تــحــطــيـــم الأقـــــلام

 


 

 

رن الهاتف وجاءني صوت غليظ قوي يقول: " يا أوستاذ.. أنا ابنتي تكتب الشعر وتريد أن تنشر قصائدها؟ هل تساعدها؟". قلت مستغربا الطريقة :" نعم". قال: " فإذا نشرتم قصيدة لها هل تدفعون فلوس مكافأة يعني ؟". قلت : " لابد أولا أن أقرأ شيئا مما تكتبه". قال : "طيب لحظة واحدة. خليك معايا". وسمعت صوت دبدبة أقدام ذهبت وعادت وإذا به الرجل يتنحنح ويبسمل ويصيح كتلاميذ المدارس في نشيد الصباح :" قصيدة الحب الأول للشاعرة ولاء حسن"! وراح يقرأ علي ما كتبته ابنته! حط على ذهول فقد أدركت أن ابنته ممنوعة من مخاطبة الرجال! وجاءني الصوت الخشن يزعق مثل أسياخ بيت يتساقط: "حلوة القصيدة يا أوستاذ؟". لزمت الصمت فعاجلني: " هي تقصد بالحب الأول حب الأم.. يا أوستاذ". غمرني ألم من وضع شابة صغيرة موهوبة محاصرة، اتخذت من الحب المتاح رسميا غطاء للتعبير عن عاطفة أخرى. تذكرت تلك السجون الصغيرة المنتشرة التي تحبس فيها مواهب المرأة، وتذبل بين جدرانها، وتساءلت: كم من المواهب والعقول والمشاعر نخسر بسبب الزنازين المغلقة؟ تذكرت قصة الكاتبة الموهوبة أليفة رفعت التي احتفل جوجل بذكرى ميلادها من أسابيع، واسمها الحقيقي " فاطمة عبد الله رفعت" من مواليد القاهرة يونيو 1930، انتبهت إلى موهبتها مبكرا، ولكنها خلافا لكل مايفترض أن تكتبه المرأة " المهذبة" سجلت مشاعرها الحقيقية فوبختها أختها الكبرى، وعنفتها، وحاولت أن تردها إلى زنزانة القيم الاجتماعية التي ترى المرأة دائما " وراء الرجل" عظيما كان أم تافها، المهم أن تكون " وراء" وليس في المقدمة. وفي الأربعينيات التحقت أليفة بجامعة القاهرة رغم اعتراض أهلها في البداية. ومابين 1955 – 1965 لجأت الكاتبة إلى نشر قصصها باسم مستعار اتقاء للمشاكل، فحاول شقيقها اسكاتها، ورفض زوجها أن تنشر أعمالها لأكثر من عشر سنوات كاملة. والغريب في الأمر أن اسمها لم يلمع في جيل الستينيات، ولم نسمع باسمها حينذاك قط ! وفي عام 1983 نشرت أولى مجموعاتها القصصية " المنظر البعيد للمئذنة" وضمت خمس عشرة قصة طرقت بقوة وعنف كل قضايا المرأة من الحرمان الجنسي، إلى الحصار الاجتماعي، إلى استبداد الرجل، وفي قصتها البديعة " المنظر البعيد للمئذنة" تطرح بوضوح قضية عدم اشباع المرأة جنسيا في العلاقة الزوجية، تطرحها بصراحة لكن برهافة، وبقوة بجمال القلب والعقل الموهوبين من دون ابتذال. توفيت أليفة رفعت في 4 يناير 1996 في القاهرة بعد أن ترجمت معظم أعمالها إلى عدد كبير من اللغات الأجنبية. وقصة أليفة رفعت هي في الواقع قصة تحطيم الأقلام ، وكسرها، لمجرد أنها بين أصابع النساء، ويذكرني ذلك بحكاية روسية عن مغنية كانت تشدو بين الجبال في إحدى القرى، تصدح أغنياتها بصوتها الرنان بعطفها على الفلاحين والفقراء في القرية ، فأمسك بها الاقطاعي الكبير وأمر أعوانه فخاطوا فمها ليسكتوا صوتها. هكذا تتكسر الأقلام، وتختنق الأصوات، ونخسر ما لايقدر بثمن حين نضع المرأة داخل زنزانة فكرية واجتماعية.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
ahmadalkhamisi2012@gmail.com

 

آراء