صناعة الفوضى واستثمارها سياسيا

 


 

حسن احمد الحسن
20 September, 2021

 

(1)
نجحت تركيا عبر ترسيخ الديمقراطية واصلاح الدستور والقوانين في تثبيت التداول السلمي للسلطة بعد ان كان الجيش هو صاحب حق الفيتو الوحيد الذي يقرر شكل الحكومة وعقيدتها ونتج ذلك لتطور الوعي السياسي والعسكري بضرورة بناء دولة ديمقراطية مستقرة تقوم فيها الحقوق والواجبات على المواطنة والقيم الاسلامية وموجبات العلمانية فحققت تركيا تطورا اقتصاديا كبيرا حيث بلغ حجم الصادرات 700 مليار دولار . ورغم الاتفاق او الاختلاف مع توجهات التجربة الأردوغانية إلا ان حقبة اردوغان أعادت بلورة دور الجيش في الحياة العامة وفق العقيدة الديمقراطية ووفق اصلاحات حقيقية اعادت الهيبة للجيش واعادة صياغة دوره ليصبح احد أهم جيوش العالم وأقوى جيوش حلف الأطلسي.

(2)
في بلادنا حكمت القوات المسلحة عبر محمولات عقائدية يسارية ويمينية وتقليدية أكثر من 50 عاما منذ الاستقلال بينما حكمت الحكومات المدنية المنتخبة مجتمعة اقل من خمسة عشر عاما حيث لم تجد الديمقراطية كتجربة الفرصة لبناء ذاتها او تصحيح اخطائها من داخلها ومن خلال الممارسة . فكانت عرضة لللانقلابات مثلما كانت الأنظمة الشمولية نفسها عرضة للثورات الشعبية التي تندلع بعد جولات من الصراع والمقاومة رغم تزايد القبضة الأمنية التي ساهمت في طول عمر الأنظمة الشمولية التي تدرجت من ست سنوات لنظام الجنرال عبود إلى ستة عشر عاما عمر نظام نميري إلى ثلاثين عاما عمر نظام جنرال الانقاذ عمر البشير . لم تمنع هذه الثورات اكتوبر وابريل التحالف بين مجموعات المغامرين العسكريين والأيديولوجيين المدنيين من نسف الاستقرار وتعريض البلاد إلى دوامات من الفوضى والأزمات والمجاعات والحصارات وتهم الارهاب في تجربتي اليسار المايوية واليمين الانقاذية وكان الثمن تأخر عجلة التنمية والبناء في السودان وتأخر البلاد عن ركب الأمم وعودة البلاد القهقرى حيث لايزال المواطن في القرن الواحد والعشرين يطالب بالو قود والخبز والمواصلات والصحة والتعليم والأمن في الطرقات وحيث لايزال الفساد يتمكن من مفاصل الدولة بينما ظلت القوانين عاجزة عن التعافي والاصلاح وعصية على التطبيق بسبب سطوة الفساد.

(3)
وبعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة التي شكلت حدثا فريدا على مستوى العالم والتوصل إلى صيغة الشراكة المدنية العسكرية كمدخل لتحقيق الاستقرار والأمن بدأت المؤامرات من جديد بتشجيع من فلول النظام المباد لوئد التجربة الثورية وقفل الطريق امام اي تحول ديمقراطي يؤسس لقيام دولة القانون والشرعية الانتخابية وبناء دولة المؤسسات وقفل ابواب الفساد . ولعل اهم العوامل التي تحرك هذه المؤمرات هي ان مافيا الفساد التي نهبت موارد البلاد وأموالها العامة وثرواتها طوال ثلاثين عاما والتي بلغت اكثر من مائة مليار دولار حسب اكثر الاحصاءات قربا للحقيقة تخشى هذه المافيا من فلول النظام المباد واعوانه فتح ملفات الفساد والكشف عن حجمها وهذا يفسر الهجوم على لجان التحقيق واثارة الفوضى الأمنية في المدن والأقاليم تحت شعارات مختلفة ضعيفةوتصدير المطالبة بتفويض للعسكريين للقضاء على مدنية الدولة وقطع الطريق على الدولة المدنية وسلطة القانون للتغطية على تلك الملفات وحماية مكاسبهم التي نهبوها في غياب المساءلة القانونية.

(4)
ثانيا ان الأرث الطويل الأمد لتدخل الجيش والقوات النظامية في شؤون ادارة الدولة المدنية والتحكم في قرارها الاقتصادي والسياسيى والهيمنة على مؤسساتها بفعل تراث الانظمة الشمولية المزمنة جعل بعض العسكريين لايطيقون فكرة التخلي عن الحكم للمدنيين وصاروا اكثر ميلا لمن يدعون إلى تفويضهم أسوة ببعض تجارب دول المنطقة فالذين يؤيدون سيطرة المنظومة العسكرية يريدون حماية مصالحهم والتغطية على فسادهم مقابل منح التاييد للعسكريين وبعض العسكريين لايجدون انفسهم وحصاناتهم في ظل قيام نظام ديمقراطي يعيدهم إلأى مواطنيتهم ويعيد القوات المسلحة إلى دورها الوطني والمهني الحقيقي بعد ان تعود بعضهم على ممارسة فعل الأمر والنهي لعقود وفقا لعقيدة شمولية مزمنة توارثوها وهي مهمة ليست بالسهلة
. ولتحقيق هدف تجنيح الرغبة في تحول ديمقراطي حقيقي واجهاض مباديء الثورة وروحها ووئد التجربة الداعية إلى حكومة مدنية واضحة المعالم تقوم على مؤسسات حقيقية للحكم وفق الدستور والقانون كان لابد من وضع العقبات واثارة الخروقات والأزمات الأمنية واشعال بؤر التوتر على نحو مانراه اليوم من انفلاتات امنية مقصودة ومتعمدة كمايرى البعض او توترات اقليمية كما يحدث في الشرق بفعل فاعل وتعمد لاحداث الاختناقات وتسخين الموقف وهي خطط قديمة تسعى لتغويض الأمن وتعزيز الرغبة لدى المواطن بضرورة الحسم العسكري عبر تفويض المؤسسة الأمنية والعسكرية لاعادة الأمن والانضباط وبهذا يتسنى ايجاد المبررات لعودة هيمنة العسكر على السلطة وفق سياسات جديدة تتوائم مع ارضاء المجتمع الدولي عبر بعض دول الاقليم وتعطيل اي تحول ديمقراطي حقيقي يفتح الباب لدولة القانون وشرعية الحكم .

(5)
ما يجري حاليا صورة متكررة لهذه المشاهد قد تختلف في التفاصيل لكنها تلتقي في الأهداف خاصة ان معظم الفاعلين السياسيين الحاليين من مدنيين وعسكريين لا يرحبون بقيام دولة مدنية حقيقية تقوم على المؤسسات والمساءلة وتحديد الواجبات والتخصصات ومحاربة الفساد بل يريدون دولة هجين عبارة عن ( بوفيه سلطة ) يختار منه الحكام ما يناسبهم من صلاحيات ويدعون مايعرضهم للمساءلة والمحاسبة جانبا . غير أن الأمر امام هذه الرغبات ليس سهلا وأن الطريق ليس ممهدا مهما كثر التآمر على الثورة وعلى الديمقراطية فالشعب السوداني بات اكثر وعيا والمعلومات باتت اكثر وفرة والمجتمع الدولي اصبح اكثر الماما بالتفاصيل كل الذي قد ينجح فيه هؤلاء انهم فقط يؤخرون عجلة بناء هذا الوطن واطالة امد معاناة شعبه بسبب انعدام التربية الوطنية والانتماء الحقيقي للوطن والافتتان بالسلطة والثروة بالطرق غير المشروعة فهل يدرك الجميع هذا الواقع قبل فوات الأوان وهل يدرك رئيس الوزراء الذي طالما شدد على أهمية ايجاد صيغة جديدة للشراكة بين المدنيين والعسكريين ان الأمر يحتاج إلى عمل ومواجهة حقيقية وعلاج جذري اكثر من اطلاق شعارات التمنى في المنابر العامة .؟

 

آراء