ذهنية الجندي
د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
18 November, 2021
18 November, 2021
نُشر في سودانايل بتاريخ 30 أبريل, 2019
بسم الله الرحمن الرحيم
منشورات حزب الحكمة:
abdelmoniem2@hotmail.com
التدريب العسكري يساعد المرء على تنظيم عواطفه وضبطها ساعة الخطر، ولكي يُغرس هذا التحكّم يُعوّد الجندي ليكون في حالة استعداد دائم للقتال فيُعيّش في حالة ترقّب وخوف من الهجوم.
وطبيعة الإنسان متمردة، ولذلك يعمد التدريب العسكري ليكسر حدَّة التمرّد في نفس الجندي، فيؤهله للطاعة العمياء في هرمية واضحة تتلقي الأوامر من أعلى وتنفذها، مهما كانت عبثية هذه الأوامر أو قسوتها. ولذلك ناتج التدريب العسكري إنسان متناقض، وفي بعض الأحيان مشوّه نفسيَّاً، أو متنازع بين طبيعته القديمة وطبيعته الجديدة المكتسبة، ولهذا يكثر الإدمان على الخمر والمخدرات ويكثر المرض النفسي والانتحار، ويكون التأقلم على الحياة المدنية قاسياً بعد المعاش.
وتستخدم خدع نفسانية في الجيش أو المؤسسات العسكرية الأخرى لتكوين هوية جديدة ينتمي لها الجندي تنافس هويته القديمة، وأوّل بذرة تُبذر في نفس الجندي هو تميّزه الإيجابي عن المدنيين.
ويتمّ ذلك بتبخيس الطبيعة المدنية التي تُرسم في ذهنه على أنّها طبيعة فوضوية، وضعيفة، ومُماطلة، وكثيرة القول قليلة العمل، ولذلك لا يمكن الوثوق بها.
هذا التدريب يقوم على أسس فكر بدائي انشقاقي يري الأشياء بيضاء أو سوداء، ويستخدم نوعاً من التعلُّم يسمّي بواحدي الحلقة؛ أي لا يدخل تحت رايته أنواع التفكير التأملي الذي يتعامل مع واقعية الحياة المعقدة. ولحل المشاكل التي سيواجهها الجندي يُدرّب على اتباع قوانين وسياسات واضحة ومحدّدة بطريقة آلية، لا يحق الخروج عنها، ويحاسب على مدي التزامه بهذه القوانين والأحكام.
ولا يسمح للجندي أن يراجع هذه الأحكام والقوانين لتغييرها أو الاعتراض عليها، ولذلك يكون التركيز على تأهيله ليروِّض نفسه ليلتزم بها. هذا الجمود الفكري مرغوب لأنّ النظام العسكري لن يتم من غيره، والنظام في الجيش غاية في ذاته حتى على حساب النتيجة.
فالغرض من التدريب هو قتل الاستقلال الفكري في ذهن الجندي وإعادة تشكيل تفكيره وهويته لينتج تماثل مرغوب ويقصي اختلاف مذموم.
ولذلك فالتدريب العسكري يقوم على مبدأ ذرائعي وهو أنّ الغاية تبرّر الوسيلة، ولكن قد تُعرض هذه الذرائعية بصورة مُغلّفة في أوقات السلم، حتى يستسيغها الإنسان المدني مثل مقولة الحرب خدعة، أو قد تكشِّر عن أنيابها ساعة الحرب. وهذا يعني أن يكون سياق الجندي المستمر في سيرورته حرب مستمرّة لا تهدأ، ولاستمرار هذه الحرب فلا بدّ من وجود عدو دائم، فإن لم يكن عدوّاً أجنبيّاً سُيوجد من الداخل فيصير المدني المعارض عدوًا، ولكن عداوته تزيد وتقل حسب السياق الاجتماعي أو العقائدي.
فمثلاً المشير البشير اعتبر جماعة الإخوان المسلمين إخوانه في وقت السلم، لأنّهم أقرب إليه من بقية المدنيين الآخرين، والذين دائماً ما يوصفون بالأعداء الخونة والعملاء والمندسين. ولكن عندما هُدِّد عرشه وطالته الألسن، لم يجد كبش فداء غير هؤلاء المدنيين من إخوانه ولذلك كان يقول لهم: إخوانكم خدعوني أو مثل ذلك، ولا يقول إخواني وسرعان ما لجأ لهويته العسكرية ليحتمي بها.
والمضحك أنّ هؤلاء المدنيين من إخوانه يصفون أنفسهم بأنهم جنود الحركة الإسلامية، ويبخسون الآخرين الذين يصفونهم بالشيوعيين أعداء الدين، ويهددون بارتداء الزي العسكري وحمل السلاح في لحظات الخلاف، ولذلك فهم يستخدمون نفس المنطق الذرائعى مثل قول الصحفي إسحق فضل الله أنّه يكذب لأنّه في حالة حرب والحرب خدعة.
وإذا أدرك من يتفاوض مع المجلس العسكري هذه الحقائق فليعلم أنّه لا يحترم المدنيين، ولا يراهم أهلاً للمسئولية، ولا يمكن الوثوق بهم، ولذلك يستخدم معهم مبدأ المداراة الذرائعى حتى ينفذ ما يراه صائباً. المفارقة الأليمة هي أنّ أداء الموقعين على إعلان الحرية والتغيير مرتبك لأنهم مرتبكون في التفكير والفعل ممّا سيقوِّي من موقف العسكريين ويعطيهم الدليل على تفكيرهم المغلوط.
إنّ الحياة معقّدة ولا تخضع للقوانين الجامدة الصلبة، ولا يمكن حل مشاكلها المتداخلة والمتفاعلة بالأوامر، ولذلك سرعان ما تقع الحكومات العسكرية في مستنقع الشمولية التي تحاول أن تغيّر الشعوب ليوائموا طريقة تفكيرها، فتسومهم العذاب، بدلاً من أن يغيروا من طريقة تفكيرهم ليوائموا الناس.
ولذلك لا بدّ من أن يحكم المدنيون العسكريين، مهما كان أو بدا من سرعة إنجاز العسكر للأهداف قصيرة الأجل. فلا يمكن أن تكون المشكلة هي مفتاح المشكلة. فإذا كان الحكم العسكري هو الذي أوردنا إلى الجحيم فكيف يكون الداء هو الدواء؟
إنّ إدارة السلم غير إدارة الحرب، وقرار الحرب والسلم يحتاج لمن يري جميع ألوان طيف قوس قزح.
ودمتم لأبي سلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
منشورات حزب الحكمة:
abdelmoniem2@hotmail.com
التدريب العسكري يساعد المرء على تنظيم عواطفه وضبطها ساعة الخطر، ولكي يُغرس هذا التحكّم يُعوّد الجندي ليكون في حالة استعداد دائم للقتال فيُعيّش في حالة ترقّب وخوف من الهجوم.
وطبيعة الإنسان متمردة، ولذلك يعمد التدريب العسكري ليكسر حدَّة التمرّد في نفس الجندي، فيؤهله للطاعة العمياء في هرمية واضحة تتلقي الأوامر من أعلى وتنفذها، مهما كانت عبثية هذه الأوامر أو قسوتها. ولذلك ناتج التدريب العسكري إنسان متناقض، وفي بعض الأحيان مشوّه نفسيَّاً، أو متنازع بين طبيعته القديمة وطبيعته الجديدة المكتسبة، ولهذا يكثر الإدمان على الخمر والمخدرات ويكثر المرض النفسي والانتحار، ويكون التأقلم على الحياة المدنية قاسياً بعد المعاش.
وتستخدم خدع نفسانية في الجيش أو المؤسسات العسكرية الأخرى لتكوين هوية جديدة ينتمي لها الجندي تنافس هويته القديمة، وأوّل بذرة تُبذر في نفس الجندي هو تميّزه الإيجابي عن المدنيين.
ويتمّ ذلك بتبخيس الطبيعة المدنية التي تُرسم في ذهنه على أنّها طبيعة فوضوية، وضعيفة، ومُماطلة، وكثيرة القول قليلة العمل، ولذلك لا يمكن الوثوق بها.
هذا التدريب يقوم على أسس فكر بدائي انشقاقي يري الأشياء بيضاء أو سوداء، ويستخدم نوعاً من التعلُّم يسمّي بواحدي الحلقة؛ أي لا يدخل تحت رايته أنواع التفكير التأملي الذي يتعامل مع واقعية الحياة المعقدة. ولحل المشاكل التي سيواجهها الجندي يُدرّب على اتباع قوانين وسياسات واضحة ومحدّدة بطريقة آلية، لا يحق الخروج عنها، ويحاسب على مدي التزامه بهذه القوانين والأحكام.
ولا يسمح للجندي أن يراجع هذه الأحكام والقوانين لتغييرها أو الاعتراض عليها، ولذلك يكون التركيز على تأهيله ليروِّض نفسه ليلتزم بها. هذا الجمود الفكري مرغوب لأنّ النظام العسكري لن يتم من غيره، والنظام في الجيش غاية في ذاته حتى على حساب النتيجة.
فالغرض من التدريب هو قتل الاستقلال الفكري في ذهن الجندي وإعادة تشكيل تفكيره وهويته لينتج تماثل مرغوب ويقصي اختلاف مذموم.
ولذلك فالتدريب العسكري يقوم على مبدأ ذرائعي وهو أنّ الغاية تبرّر الوسيلة، ولكن قد تُعرض هذه الذرائعية بصورة مُغلّفة في أوقات السلم، حتى يستسيغها الإنسان المدني مثل مقولة الحرب خدعة، أو قد تكشِّر عن أنيابها ساعة الحرب. وهذا يعني أن يكون سياق الجندي المستمر في سيرورته حرب مستمرّة لا تهدأ، ولاستمرار هذه الحرب فلا بدّ من وجود عدو دائم، فإن لم يكن عدوّاً أجنبيّاً سُيوجد من الداخل فيصير المدني المعارض عدوًا، ولكن عداوته تزيد وتقل حسب السياق الاجتماعي أو العقائدي.
فمثلاً المشير البشير اعتبر جماعة الإخوان المسلمين إخوانه في وقت السلم، لأنّهم أقرب إليه من بقية المدنيين الآخرين، والذين دائماً ما يوصفون بالأعداء الخونة والعملاء والمندسين. ولكن عندما هُدِّد عرشه وطالته الألسن، لم يجد كبش فداء غير هؤلاء المدنيين من إخوانه ولذلك كان يقول لهم: إخوانكم خدعوني أو مثل ذلك، ولا يقول إخواني وسرعان ما لجأ لهويته العسكرية ليحتمي بها.
والمضحك أنّ هؤلاء المدنيين من إخوانه يصفون أنفسهم بأنهم جنود الحركة الإسلامية، ويبخسون الآخرين الذين يصفونهم بالشيوعيين أعداء الدين، ويهددون بارتداء الزي العسكري وحمل السلاح في لحظات الخلاف، ولذلك فهم يستخدمون نفس المنطق الذرائعى مثل قول الصحفي إسحق فضل الله أنّه يكذب لأنّه في حالة حرب والحرب خدعة.
وإذا أدرك من يتفاوض مع المجلس العسكري هذه الحقائق فليعلم أنّه لا يحترم المدنيين، ولا يراهم أهلاً للمسئولية، ولا يمكن الوثوق بهم، ولذلك يستخدم معهم مبدأ المداراة الذرائعى حتى ينفذ ما يراه صائباً. المفارقة الأليمة هي أنّ أداء الموقعين على إعلان الحرية والتغيير مرتبك لأنهم مرتبكون في التفكير والفعل ممّا سيقوِّي من موقف العسكريين ويعطيهم الدليل على تفكيرهم المغلوط.
إنّ الحياة معقّدة ولا تخضع للقوانين الجامدة الصلبة، ولا يمكن حل مشاكلها المتداخلة والمتفاعلة بالأوامر، ولذلك سرعان ما تقع الحكومات العسكرية في مستنقع الشمولية التي تحاول أن تغيّر الشعوب ليوائموا طريقة تفكيرها، فتسومهم العذاب، بدلاً من أن يغيروا من طريقة تفكيرهم ليوائموا الناس.
ولذلك لا بدّ من أن يحكم المدنيون العسكريين، مهما كان أو بدا من سرعة إنجاز العسكر للأهداف قصيرة الأجل. فلا يمكن أن تكون المشكلة هي مفتاح المشكلة. فإذا كان الحكم العسكري هو الذي أوردنا إلى الجحيم فكيف يكون الداء هو الدواء؟
إنّ إدارة السلم غير إدارة الحرب، وقرار الحرب والسلم يحتاج لمن يري جميع ألوان طيف قوس قزح.
ودمتم لأبي سلمي