العنف ضد النساء في السودان تكتيكا للحرب وسلاحا للثورة المضادّة
رئيس التحرير: طارق الجزولي
19 March, 2022
19 March, 2022
نقلا عن العربي الجديد
شهد السودان انتهاكاتٍ واسعةً، طاولت النساء في المجال العام، وتنوّعت في أشكالها، منها العنف السياسي، والذي ارتبط وتصاعد تاريخيا مع عاملين: وجود حراك احتجاجي مدني ضد النظام، وتصاعد المواجهات بين النظام والحركات المسلحة. وارتبط العنف سياسيا بأزمة النظام وضعف الدولة، لا قوتها، واشتبك اجتماعيا وثقافيا بجملة من الأسباب في ظل سياق عام ينتهك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتتناول هذه المطالعة مفهوم العنف السياسي، وأبرز محطاته وأشكاله، مع تحليل لتعدد مرتكزاته وخصائصه وتقاطعهما، وهو يتجاوز ثنائية العنف المبني على النوع الاجتماعي، والموقف السياسي، إلى عنف مستند إلى التمييز الجهوي والعرقي والثقافي (الديني). وتتخذ المطالعة حالات عنف مارستها السلطة في فترات تاريخية ومناطق مختلفة، بما فيها مرحلة ما قبل ثورة ديسمبر (2018)، وما تلى انقلاب 25 أكتوبر (2021)، نماذج للتحليل تحمل مؤشراتٍ ودلائل، وتتقارب مع غيرها من حالات عنف شهدتها المنطقة العربية، خصوصا التي مرّت بمرحلة حراكٍ احتجاجي، واندلعت فيها ثورات وانتفاضات.
ويقصد بالعنف السياسي كل أشكال الإيذاء في الفضاء العام وخلال المشاركة السياسية، ويتضمن العنفين، النفسي والبدني، وكل أشكال إساءة المعاملة، بما فيها عنف اللغة والتحريض، والاحتجاز والاعتقال والاعتداء (أشكال التعذيب) وكل صور التمييز في المجال السياسي المبني على النوع والانتماء الجهوي والطبقي والثقافي والموقف السياسي، بما فيه الإقصاء والحرمان من المشاركة السياسية.
وعلى الرغم من أن العنف مبنى على النوع، إلا أن بنيته ترتكز على الموقفين، السياسي والأيديولوجي، وترتبط بالإقليم والجهة والعرق والثقافة، وتتجلى كلما غابت السياسة، وضعفت الدولة والنظام، وتجاور معها فشلٌ أو إهمالٌ في قبول التنوع وإدارته بشكل سلمي. وكلما افتقر النظام إلى الشرعية والقبول كانت درجة ممارسته العنف مرشّحة للتمدد. تصف حنه أرندت السياسة بأنها التعايش بين مختلف الناس على ضوء المشترك بينهم داخل فوضى مطلقة للفروق. وبموجب ذلك، العنف مضادٌّ للسياسية، لأنه يستمد مرتكزاته من إخفاقٍ في العيش في ظل التنوع وقبول الفروق.
والعنف في السودان ضد النساء خصوصا متبوعٌ بالمقدس، ومبرّر من خلاله. واستند إلى ما سميت قوانين الشريعة لتمريره وتبريره أيضا، وطبّق بالتشريع القانوني، خصوصا الثلاثة: القانون الجنائي وقانون أمن الدولة والنظام العام. ومورس العنف ضد النساء في مسارين: المواجهة مع الحركات المسلحة (خصوصا في ولايات دارفور)، والتصدّي لأي نشاط في المراكز والحواضر السياسية. وشهدت المواجهة العسكرية أعمالا مفزعة، صنّفت جرائم حرب، وبرّرت بالحفاظ على الدولة والهوية، ومواجهة المتمرّدين. وفي المركز السياسي، كان قمع النساء تحت شعارات الحفاظ على الأخلاق وقيم الأسرة والنظام الاجتماعي السائدة، تجلد النساء وتسجن وتنتهك باتهامات منها ارتداء زي فاضح، أو الاجتماع بالرجال في الأسواق.
كما ارتبطت بنية العنف بمفاهيم الأنثروبولوجيا السياسية، ومنها القرابة والانتماء الإقليمي، والتدرّج والتراتبية الاجتماعية، وهدفت إلى الحفاظ على تركيبة النظام السياسي، المغلقة والتقليدية، ومنع غير المنتمين له، للوصول والنشاط في الحيز السياسي. ويستمد العنف السياسي من عوامل عدة، منها تاريخ الدولة، وانتقالها من تكويناتٍ قبليةٍ إلى الدولة الحديثة، والتداخل بينها وبين البنى التقليدية. ومنذ الاستقلال ومرورا بسلسلة من الانقلابات العسكرية، ومع بداية مشكلة الجنوب في الخمسينيات، مثل السكان خارج المركز السياسي (الإقليم) عدوا يُراد ضبطه. وبالمقاربة مع إيفانز بريتشارد، في دراسته قبيلة النوير في السودان، شكلت مسألة معيار الإقليم والتنظيم المكاني إطارا للتنظيم السياسي. ومن خارج الإقليم، يعد تهديدا خارجيا، وهذا يفسّر جزءا من منطلقات العنف والحروب في السودان، والذي جعل معيار الانتماء الجهوي، وعامل القرابة الحقيقية أو المتخيلة، أساسا للتمييز ومبرّرا لممارسة العدوانية. وقد أضاف "نظام الإنقاذ"، برئاسة عمر البشير، بجانب التمييز النوعي ضد النساء تمييزا دينيا وثقافيا، فكان الأكثر عنفا ضد المرأة فى تاريخ السودان ما بعد الاستقلال، عبر ترسّخ عوامل العنف على كل من المستويات: السياسي والثقافي والاجتماعي، بالإضافة إلى عنف اقتصادي تحمّلت النساء تبعاته بشكل كبير، وانعكست على مؤشرات العمل والفقر.
محطات العنف ومراحله
أما مراحل العنف فيمكن إجمالها في أربع مراحل أساسية، ازدادت فيها حدّة العنف. ارتبطت الأولى بموجهات النظام مع الحركات المسلحة من 2000-2006، والثانية تزامنت مع الانتفاضات والثورات العربية، والثالثة خلال انتفاضة سبتمبر 2013. أما الرابعة فقد بدأت مع ثورة ديسمبر 2018، وأبرز مشهدين فضُّ الاعتصام امام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، وجولات العنف بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي قاده رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بتحالف اجتماعي وسياسي شمل رديف النظام وحركات مسلحة، وأعاد من خلاله إنتاج العنف، مستندا إلى ثلاثة عوامل رئيسية: القوة العسكرية، والبنية التشريعية التسلطية، وضعف قوى الثورة. وقاصدا جملة من الأهداف: أولا، تثبيت سلطته وفرض شرعية التغلب بالقوة. ثانيا، إضعاف قوى الثورة والانتقام منها وفي مقدمتها النساء. ثالثا، الحفاظ على مكاسب اقتصادية لقوى اجتماعية تقليدية، ومصالح اقتصادية لقطاعات رأسمالية وعسكرية. ويتقاطع ذلك مع تجارب الثورة المضادة في الوطن العربي في ثلاثية أهدافها وتحالفاتها وتكتيكاتها، ودفعت النساء ثمن عودة الثورة المضادّة إلى الحكم، حيث كانت هدفا لها، ومورست ضدها أشكال متنوعة من العنفين، المادي والرمزي، كالتحرّش والاغتصاب والاحتجاز وتشويه السمعة.
العنف في ظل الصراع السياسي
وقد ظهر العنف بقوة خلال الصراعات السياسية، بما فيها الفترات الانتقالية بعد الانتفاضات والثورات. والسودان، أحد النماذج للعنف الذي تقوده القوات النظامية بجانب قوات الدعم السريع، وتشارك فيه أطراف السلطة، بتنوّعها، وهناك عنف مورس خلال فترات الحراك، وما زال مستمرا، ومرتكزا على التطورات السياسية الراهنة في ظل الصراع على السلطة، وإنْ كان العنف، بشكل عام، يعد أحد مؤشّرات (وسمات) الأزمة الشاملة التي تمر بها المجتمعات، وتتشابك فيها الأسباب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ويتفاقم العنف مع غياب أطر وصيغ سلمية لإدارة الصراع الاجتماعي والسياسي والتنوع الثقافي.
وقد مثّل العنف ظاهرة، سلوكا متكرّرا ضمن تاريخ الانقلابات العسكرية في السودان. وكثف "نظام الإنقاذ" استخدامه مستهدفا النساء، وخلف ممارسات قهرية، منها اعتداءات وتنكيل، مستندة إلى بنية تشريعية تقنّن القهر، وتحارب مشاركة النساء سياسيا وتضبطهم اجتماعيا، مدعومة بسياق ديني محافظ، يجعل وجود المرأة مقتصرا على المجال الخاص. وقد استكمل عمر البشير ما قد بدأ في عهد جعفر النميري، من تحالف الجيش مع الإسلامين، وما نجم عنه من تغيراتٍ في بنية التشريع، ضمن أجندة إسلامية تجذب الإسلاميين والصوفيين ضمن تحالفٍ اجتماعي لمواجهة أزمات النظام، ومنها قوانين سبتمبر 1983، والتي فاجأ بها الجميع، بمن فيهم الإخوان المسلمون، على حد تعبير روبرت كولينز، في كتابه "تاريخ السودان الحديث"، (ترجمة مصطفى الجمال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015 ص 175). كان النميري يستعرض ورعه المستجد، بسكب زجاجات الخمر في النيل، وتطبيق الجلد وبتر الأطراف أمام الحشود. يروى كولينز عن تلك المشاهد، ومنها أن الترابي الذي كان يشغل منصب المدّعي العام سقط مغشيا عليه بعد مشاهدة أول عملية بتر، ثم سار الأمر بشكل اعتيادي، بل وكسب النميري الذي لقّب بالإمام مؤيدين جددا. وظلت الجرائم، على بشاعتها، أمرا اعتياديا، وانْ كانت تسبب تراكمات من الغضب، بجانب أزمات أخرى اقتصادية عجز عن تفكيكها، وجنون البقاء في السلطة وضريبتها من عنف. وحسب صحف الخرطوم التي أوردها كولينز، صدرت أحكام بـ19 ألف جلدة في شهر واحد. لذلك لم يكن مستغربا أن يستكمل البشير الطريق مع انقلابه في العام 1989، ويستخدم القوانين نفسها، ويضيف إليها للتحكّم السياسي والضبط الاجتماعي والمترابطين في سياق واحد. وقد استخدمت العقوبات البدنية في السودان، حسب كتابات تاريخية منذ حكم المهدية، لتعزيز الأخلاق! وطبق الجلد تاريخيا في السودان من الاستعمار البريطاني، واستخدمته الإدارات الأهلية، حسب تقرير للمرصد السوداني لحقوق الإنسان (لا للجلد – ص7).
مثّل القانون الجنائي لعام 1991 سيفا مسلطا على الرقاب، واداة جلد للنساء في الميادين، بموجب المادة 152 المتعلقة بالأفعال الفاضحة والمخلة بالآداب العامة، ويدخل في إطارها كل من يتزيا بزي فاضح أو مخلّ بالآداب العامة، والذى اعتبر "البنطلون" واحدا منه، وطبق على غير المسلمين في إطار الترويج داخليا لنموذج الدولة التي تحكمها الشريعة، وخارجيا كانت الحكومة دائما تنفي أن القانون مخصّص للنساء، أو يستهدفهن. وكان آخر نفي لحكومة الخرطوم خلال استعراض ملاحظات لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة والرد عليها عام 2017. وتضمّن القانون أيضا عقوباتٍ بتهم التحريض على الدولة، وإثارة الشعور بالتذمّر، والدعوة إلى معارضة السلطة وإثارة الكراهية بين الطوائف، ونشر الأخبار الكاذبة (تهمة رائجة للسجن في مصر) والإخلال بالسلام العام. ومن فرط رهافته، أدرج نظام البشير في القانون عقوبة "إساءة معاملة الحيوان"، بينما يشرعن القانون، ولأسباب واهية، جلد النساء في الشوارع. واستخدمت نصوص القانون بما فيها عقوبات الزي والإغواء وغيرها أدوات للتنكيل. وقد روى وزير خارجية السودان سابقا، منصور خالد، أن نظام البشير جلد نساء مسنّات من خيرة نساء البلد، حين ذهبن لمقابلة مسؤول حقوقي أممي. وشمل الجلد طالبات في مدارس وجامعات، وليس المنخرطات وحسب في المجال العام وفضاء السياسة والحركتين، الحقوقية والنسوية.
وفرض قانون النظام العام الصادر بقرار 41 لعام 1996 تعقيداتٍ تمثل حصارا وأدوات قمع يسهل استخدامها لأبسط الأسباب، اشتملت تحديد أماكن وجود النساء، وأوقات فتح المحال، وتنظيم صفوف منفصلة للرجال والنساء (المادة 20)، وتضمّن القانون عقوبة الجلد للمخالفين (المادة 26)، واستخدمت بشكل واسع ضد النساء، خصوصا عاملات السوق والمحال التجارية وبائعات الشاي والعاملات في مهن هامشية، وسهل تنفيذ العقوبات ما يمنحه القانون للشرطة من سلطاتٍ تقديرية، سمح بالانتهاكات، كما استخدمت ضد طالبات المدارس والجامعات. وألغي بعد الثورة، نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، ضمن قوانين أخرى ألغيت أو عدّلت. بعد الانقلاب، تحاول قوات الشرطة ممارسته بشكل ضمني، ولذا لم يكن مستغربا أن النساء، والمنظمات المهتمة بقضايا المرأة والنساء في المجال السياسي، جزءٌ أساسي لمقاومة نظام البشير.
أرض محروقة ونساء مغتصبات
اتخذ العنف في السودان عدة أشكال، وارتكز على بنية تشريعية، أسسها انقلاب البشير في 1989، بالإضافة إلى نمط حكم سلطوي، ذي بنية عسكرية بالأساس، دعمت بالتحالف مع حزب المؤتمر الشعبي. ومع ميل إلى التمييز متنوّع، شمل تمييزا دينيا وجهويا ونوعيا وعرقيا وقبليا، ونال من الحقوق والحريات، فشرّد ملايين الأشخاص في مناطق الحرب، وأبعد عن الوظائف العامة المعارضين. وتشريعيا، قنن العنف ضد النساء في سلسلة تشريعاتٍ استهدفت إحكام القبضة على المجتمع، وضبطه اجتماعيا، طريقا إلى الضبط السياسي. واستخدم العنف ضد سكان الهامش في الشرق والغرب والجنوب، كإحدى أدوات إثبات الهيمنة. ومثالا دالا، شهدت مناطق الحرب في دارفور فظائع صنفت جرائم حرب، حسب لجنة التحقيق الدولية التي أنشئت بموجب قرار مجلس الأمن 1564. وتدل وقائع العنف في الفترة 2002-2005 أنها ممنهجة، ومنها عمليات القتل والاغتصاب، والتي لفتت أنظار العالم. حسب تقارير عدة، منها تقارير منظمة العفو الدولية (منعت من العمل في السودان)، كانت هجمات مليشيات الجنجويد المدعومة من الحكومة تعقب الغارات الجوية الحكومية، وتتضمّن عمليات سرقة واغتصاب، واشتمل تقرير "العفو الدولية" لعام 2004 على شهاداتٍ مفزعة، بينما أفادت منظمة "أطباء بلا حدود" في 2005 عن معالجة 500 امرأة من آثار الاغتصاب. وتكرّر الأمر في دارفور في ديسمبر/كانون الأول 2011 (ركزت على قبيلة الزغاوة حسب تقرير هيومن رايتس ووتش).
وحسب "العفو الدولية"، اغتصبت في أكتوبر/ تشرين الأول 2014 أكثر من 221 امرأة في قرية واحدة (تابت)، بينما من يناير/ كانون الثاني إلى أغسطس/ آب 2016، اتخذت وقائع العنف شكل اعتداء جماعي، واستخدمت الأسلحة الكيميائية في 32 قرية في جبل مرّة (موطن تاريخي لقبائل الفور)، وسجّل هجوم آخر في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه (تقرير "أرض محروقة وهواء مسموم"). ولخّصت "العفو الدولية" الوضع حينها بالقول "الأرض المحروقة والاغتصاب الجماعي والقتل والقنابل، هذه هي جرائم الحرب نفسها التي ارتكبت في دارفور في 2004، عندما استيقظ العالم على ما كان يحدًث. دخلت المنطقة دوامة عنف ولم يتغير فيها شيء سوى أن العالم قد توقف عن مراقبتها". وشملت الانتهاكات "القتل غير المشروع للرجال والنساء والأطفال، واختطاف النساء واغتصابهن، وتدمير قرى بأكملها". ومع انفجار مشكلة النزوح ومعسكرات اللجوء (تقدر الأمم المتحدة إجمالي عدد النازحين بالسودان بتسعة ملايين)، أصبح تهديد النساء والأطفال أكثر، وارتفعت وتيرة العنف والانتهاكات مع فقدان حماية اجتماعية كانت نسبيا قائمة في محل الميلاد وسط محيط اجتماعي وعلاقات قرابية ومارست الجماعات المسلحة المعارضة العديد من الجرائم، لتكون النساء ضحية للعنف المتبادل على أساس قبلي في إطار الصراع على الموارد (تجدّدت بعض أحداثها بعد ثورة ديسمبر) وضحية للحرب من مليشيات مسلحة كانت تقاتل الحكومة، ويقاتل بعضها بعضا في بعض الأوقات.
دراسة حول حالات للعنف
نالت عدة وقائع اهتماما واسعا، لحالات انتهاك طالت النساء، منها واقعة تكرّر اعتقال وتعذيب حواء عبد الله (حواء جنقو)، والتي عملت ضمن فرقة الإغاثة الدولية "يوناميد" في دار فور (حصلت على جائزة الخارجية الأميركية أشجع نساء العالم في مارس/ آذار 2012) بالإضافة الى واقعة الحكم على لبنى حسن بالجلد لارتدائها بنطالا، وهي صحافية في فريق الأمم المتحدة، وبعد الحكم عليها بالجلد مع حالات أخرى انتشرت تسجيلات العقوبة فيها، تأسّست حركة "لا لقهر النساء" في العام 2009، والتي تعرضت أعضاؤها لمضايقات عدة ما زالت مستمرة، منها وقائع القبض المتكرّر عليهن، ومنها حالة أميرة عثمان، المتهمة بعد الانقلاب بحيازة سلاح.
مورس في المظاهرات السودانية التي تلت الانتفاضات العربية، والتي بدأت في 30 يناير/كانون الثاني 2011، عنف مكثف ضد النساء، وتضمن وقائع اعتقال وتحرّش، وحالات اغتصاب، منها حالة صفية إسحاق، عضو حركة قرفنا والتي لاقت شهاداتها المصورة، حول الاعتداءات صدى واسعا، روت ما جرى لها من انتهاك واغتصاب، سألها المحقق قبل واقعة الاغتصاب، إذ ما كانت مارست الجنس من قبل أم لا (كشف عذرية تمارسه أجهزة الأمن)، وقد أحدثت الشهادة، بعد هرب صاحبتها من السودان، حالة اهتمام إعلامي، وحركة تضامن واسعة شملت تظاهرات احتجاجية. وعلى أثرها سجنت نخب وناشطات نسويات من المتضامنات معها. وشكّلت الواقعة بابا لكسر الصمت بشأن العنف الجنسي وانتهاكات السلطة في المركز السياسي، خارج أقاليم الحرب، والتي غالبا لا يبلغ عنها، تجنبا لمزيد من الانتقام، أو محاولة لتجاوز الوصم الاجتماعي. وفي السياق، كتبت سمر الميرغني شهادتها عن الانتهاكات التي لحقت بها خلال انتفاضة سبتمبر 2013 (وثقتها منظمة العفو الدولية في تقرير عام 2014 ص 30). وبعد ثورة ديسمبر، ظهرت شهادات أخرى عن العنف السياسي ضد النساء، وروت والدة سمر وقائع العنف ضد ابنتها في مؤتمر بثته قناة الجزيرة، وهي تطالب بمقاومة نظام البشير. وقبض على دعاء طارق، حين سجلت شهادتها عن الانتهاكات التي طاولت المعتصمين أمام القيادة العامة.
ومن بين حالات العنف الممنهج، التي طاولت صحافيات، وناشطات، خلال 2012، القبض على جليلة كوكو، وهي معلمة أسّست مدرسة للنازحين، واتهمت بالخيانة بعد نشرها فيديوهات عن فظائع الحرب في موطنها، جبال النوبة بكردفان. وبالإضافة إلى ذلك، تنتمي جليلة للحركة الشعبية لتحرير السودان شمال. كما تعرّضت الصحافية سمية هندوسة للاعتداء والتعذيب في مايو/ أيار من العام نفسه (2012). وخلال التحقيق، قال الضابط لسمية، بعد أن أجبروها على خلع حجابها، "شعرك ليس من أولاد دارفور"، ثم حلق شعرها. بينما حين كشف المحقق عن شعر صفية إسحاق، قال "أنتِ كما الشيوعيات قصيرة الشعر". وعادت عمليات قصّ شعر المحتجين في اعتصام القيادة العامة وبعد الانقلاب.
يوظف الدين لدعم السلطوية والعنف ضد النساء عبر تشريعات تضبط المجال العام، وتشكل استبعادا مقصودا على أساس النوع
وفي يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2012، وحسب تقارير عديدة، قبضت السلطات على 500 معتقلة تعرضن للتنكيل والإيذاء، وتدهورت أحوالهن الصحية. وربما كانت حركة الاحتجاج وَالنَّشَاط السياسي الذي تبلور بالتزامن مع الانتفاضات العربية عاملا في تشديد القبضة على القيادات ذوات الأثر، وبالتزامن مع تحالفات سياسية في الخرطوم، جرى تركيز العنف على نساء دارفور خصوصا، أو من يشتبه في دعمهن سياسيا أو إنسانيا، خصوصا بعد تشكّل تحالفات بين قوى المعارضة المسلحة في المنطقة (الجبهة الثورية).
وتمثل الحالات السابقة وغيرها من حالات جرى رصدها نماذج تفسيريه، يمكن من خلالها فهم تقاطع مكونات العنف ضد النساء وأنواعها، وهي تستند إلى ميراث استبدادي، متنوّع الجذور، يتخذ من الضبط الاجتماعي أدواتٍ للقهر السياسي، كما يوظف الدين لدعم السلطوية والعنف ضد النساء عبر تشريعات تضبط المجال العام، وتشكل استبعادا مقصودا على أساس النوع، وتدعمه ثقافة الاستعلاء والتمييز. بينما تشمل أشكال العنف المبنى على النوع مرتكزات أخرى، منها الهوية الدينية والانتماء الجهوي والقبلي والأيديولوجي، في خليط لافت، يعبر عن خصائص العنف ضد السودانيات، والذي يتمايز عن العنف السياسي في دول الانتفاضات والثورات العربية.
يلحظ انتشار العنف بشكل مكثف جغرافيا في بؤرتين: الأولى مناطق الحرب والثانية المركز والحواضر السياسية. وفي مقدمة مناطق الحرب التي شهدت وقائع عنف ضد النساء صنفت كجرائم حرب، منطقتا دارفور غرب السودان، وكردفان، وسط السودان، كانت دارفور (خمس ولايات) مسرحا للجماعات والصراعات المسلحة منذ جعفر النميري، واشتبكت سياسيا مع النظامين، الليبي والتشادي، فضلا عن عنفٍ خلفه الصراع على الموارد بين القبائل المختلفة، ضمت إقليم كردفان (ثلاث ولايات). وشهدت المنطقتان مواجهات بين "نظام الإنقاذ" والحركات المسلحة، وأنتجت عنفا مكثفا بجانب صراعات قبلية كانت النساء ضحايا لها، وصلت وقائع العنف إلى حدود الأسر والاغتصاب والعبودية. أما البؤرة الثانية فتتمثل في المراكز السياسية النشطة، وفي قلبها الخرطوم، وتركز العنف فيها على النساء المنخرطات في الحركة السياسية وحركة حقوق الإنسان، ومنها الحركات النسوية، خصوصا وأنه كانت لهن جذور أو صلات بمناطق الحرب أو عضوات في أحزاب وحركات سياسية معارضة أو صحافيات. ومثال على ذلك ما تعرّضت له نساء وشابات في "حركة قرفنا" أو حزب الأمة والحزب الشيوعي، بالإضافة إلى عنف متعدّد الأبعاد في صيغه التميزية، الطبقية والثقافية والقبلية، استهدف النساء وتركز في الأسواق والأنشطة الاقتصادية، خصوصا المشتغلات في أعمال هامشية، كما ستّات الشاي، ونسبة منهن من النازحات، هربن من الحرب، للبحث عن عمل ومساحة آمنة، بعيدا عن المواجهات العسكرية، فواجهتهن شرطة النظام العام.
تقاطعات ومرتكزات
يظهر في وقائع العنف ضد النساء تقاطع ما بين النسق السياسي والقرابة والانتماء إلى إقليم محدّد، وهي القضية التي شغلت علماء الأنثروبولوجيا. وكان السودان أحد الحقول الهامة لدراسة النظم السياسية الأفريقية، ومدى تأثير علاقات القرابة والإطار المكاني (الإقليم) على النسق والخطاب السياسيين، وفيما سبق علاقة العنف بتلك المعطيات، وهو ما يمكن ملاحظته من خطاب المحققين مع النساء أو بعض خطابات السلطة التي تتصف بالتميز والعنف والتمييز على أساس الإقليم والقرابة والثقافة والنوع إطارا لممارسة العنف السياسي في السودان، وربما مناطق في القارّة الأفريقية.
وتشترك حوادث العنف ضد النساء عموما في الوطن العربي، من حيث أشكالها وأهدافها ومضامينها، لكن مرتكزات العنف سودانيا تتّسم بتعدّد المصادر، ولا تقتصر على العنف المبني على أساس المرتكزيْن السائدين عربيا، النوع والموقف السياسي، فالعنف ضد النساء سودانيا يتجسّد في خليط من مواقف ثقافية ودينية، وتوظيف لأدوات الضبط الاجتماعي والتمايز الجهوي والقبلي أحيانا، ويجمع ما بين ما هو نفسي وبدني وجنسي وقبلي وثقافي في إطار واحد.
لا تكتفى السلطة السودانية بارتكاب العنف بل تهدد "الناجيات" في أحيان كثيرة من معاقبتهن قانونيا باستخدام آليات التشريع، واتهامهم بالدعارة إذا ما تحدثوا أو تقدموا ببلاغات
كما يوظف العنف السياسي ضد النساء بوصفه أداة للضغط الاجتماعي على أسر المعنفات والمحيط الاجتماعي من الأقارب والمنطقة والإقليم وإخافتهن من الحركة في الفضاء العام وتعطيل مقاومتهن للنظام، لا تعاني النساء وحسب من الصدمات النفسية للاعتقال والجلد والعنف الجسدي والجنسي، لكن تعانين اجتماعيا عبر الوصم الاجتماعي، ويستخدم العنف أيضا لضبط التعبير السياسي لدى النخب. حدث ذلك كثيرا وفي نظم متعدّدة. يمكن أن نورد حالة القبض على بنات الصادق المهدي (مريم ورباح وزينب) في يونيو/ حزيران 2014 مثالا، أو حالات تهديد ذوي الناشطين سياسيا، وخصوصا من النساء، ولا تكتفى السلطة السودانية بارتكاب العنف بل تهدد (الناجيات) في أحيان كثيرة من معاقبتهن قانونيا باستخدام آليات التشريع، واتهامهن بالدعارة إذا ما تحدثن أو تقدمن ببلاغات، ولم يخل الخطاب الرسمي من العنف. وقف البشير يتحدّث، في أحد خطاباته، عن حالة جلد لإحدى النساء، اتخذت مساحة من التعاطف الشعبي، متهما إياها بالزنى، وكان يجري تطبيق حد الرجم على المغتصبة إذ تقدمت ببلاغ، ولم تتمكّن من إثبات ادعائها، ما يعنى أن من تتعرّض للعنف الجنسي من أجهزة الأمن ربما ستكون ضحية مرتين!
من انتفاضة سبتمبر إلى انقلاب 25 أكتوبر
شهد العام 2013 انتهاكات واسعة ضد النساء، خصوصا مع انتفاضة سبتمبر، والتي بدأت بالاحتجاجات ضد رفع الأسعار، كما ثورة ديسمبر 2018، وكانت مشاركة النساء والطالبات فيهما واسعة ولافتة، بل وأحيانا مبادرة، خصوصا في الجامعات والمدارس الثانوية والأسواق، وكانت العاملات واللواتي تجرّعن صنوف المعاناة حاضرات في الاحتجاج، ترى عاملة في السوق تخطب بحماس، وتمتلك قدرات خطابية وبرهانا وقدرة على التحريض، والتقت مع صفوف المحتجين، ولعبت دورا مهما مع قيادات حزبية نسوية. وذكرت منظمة العفو الدولية "اتسم رد الحكومة بالاستخدام المفرط للقوة والاحتجاز التعسفي والتعذيب وصنوف المعاملة السيئة، قتل ما لا يقل عن 185 شخصاً". وذكرت تقارير أخرى أن عددهم تجاوز 300 بينهم نساء. وجاءت الانتفاضة بعد انفصال الجنوب، في ظل ظروف اقتصادية قاسية، وتجدّد الصراع المسلح في دارفور وكردفان، وما نتج عنه من تهجير واسع في شمال كردفان وجنوبها (خصوصا جبال النوبة وأبيي). وخلال الانتفاضة، ألقي القبض على مئاتٍ من النساء، وسجلت حالات قتل واغتصاب، واستهدفت قيادات نسائية بطرق أخرى. على سبيل المثال، ألقي القبض على أميرة عثمان (مجموعة "لا لقهر النساء") بموجب قانون النظام العام، واتهمت بارتداء ملابس فاضحة. وجرت حوادث أخرى بالكيفية نفسها وظفت فيها البنية التشريعية.
تضمنت تسجيلات فض الاعتصام أمام القيادة العامة في الخرطوم، وشهادات للناجين، أعمال عنف لفظي وبدني، غير شهادات عن الاغتصاب والتحرّش
بدأ العام 2018 بمظاهرات يناير التي اعتقلت على خلفيتها 60 مدافعة عن حقوق الإنسان، أفرج عنهن في 8 مارس/ آذار 2019، حسب تقرير لتحالف المدافعات. تعرّضت المعتقلات للتعذيب وأشكال متنوعة من العنف. هدّدت، حسب تقرير التحالف، "عوقبت ويني عمر بالإعدام بعد أن اتهمتها الشرطة بإدارة بيت للدعارة بينما كانت مع زملائها في اجتماع عمل. وحُولت إلى المحاكمة، ولفقت لها تهمة التخابر والتجسس". وخلال احتجاجات ديسمبر، اعتقلت قيادات نسائية حزبية، منهن مريم صادق المهدي (وزيرة الخارجية فيما بعد) وسارة نقد من حزب الأمة، وأسماء محمود طه من الحزب الجمهوري، مع مئات من المشاركات في الاحتجاج من الحزب الشيوعي والحركات الشبابية والطلابية والنسوية.
ويعد فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، 3 يونيو/ حزيران 2019، من المحطات الرئيسية الأكثر عنفا ودموية ضد النساء، واشتركت في الفض قوات الشرطة والجيش والدعم السريع، حسب بيان رسمي للجيش، وخلف، حسب تقارير لجنة أطباء السودان، مقتل 118 شخصا وجرح 700 وسجلت 70 حالة اغتصاب للنساء، غير حالات اغتصاب للرجال (غالبا لا يبلّغ عنها ولا يوثق معظمها). وتضمنت تسجيلات فض الاعتصام، وشهادات للناجين، أعمال عنف لفظي وبدني، غير شهادات عن الاغتصاب والتحرّش، كان يظهر الجنود وهم يعتدون على النساء ويجبرونهن على الهتاف بشعار عسكرية بدل شعار مدنية، كما ظهرت عمليات قص لشعر المتظاهرين وصحافيين، وهي ممارسة كانت سائدة قديما بغرض الإذلال والقهر. واستخدم خلال فض الاعتصام، كما جرى الكشف عن إلقاء بعض الضحايا في نهر النيل بغرض إخفائهم، وضمنهم فتيات ونساء تعرّض بعضهن للاغتصاب، حسب شهادة ناهد جبر الله. طفت الجثث بعدها بأيام، وحسب منظمات وشهادات عدة.
وتعد هذه الواقعة الأولى من العنف متعدّد الأشكال ضد متظاهرات بهذه الكيفية، ولم تكتف قوات الأمن بذلك، بل طاردت محتجين يتلقون العلاج داخل المستشفيات، وتعرّضت المشاركات في الاعتصام للتهديد بالاغتصاب، في حال رفضن أوامر قوات الدعم السريع خلال الفض. وفي شهادتها قالت رئيسة مركز الأحفاد للإرشاد وعلاج الصدمة النفسية، سليمة شريف، إن المركز عالج 15 امرأة تعرّضن للاغتصاب. وذكرت أن نساء عديدات تعرّضن للضرب على أعضائهن التناسلية، واحتجز آلاف المحتجين بينهم نساء، باعتراف المجلس العسكري الذي سبق الفض باجتماع موسع للأجهزة الأمنية والعدلية، حسب بيان رسمي نشر يوم 13 يونيو.
مورس العنف ضد النساء بوصفه إحدى استراتيجيات السلطة، وتعبيرا عن ضعف أجهزتها لا قوتها
لم تهزم الثورة حينها، ونفذ الشعب السوداني عصيانا مدنيا شاملا، بالغ القوة، بينما كان العنف تكتيكا لإجبار المحتجين وقوى الثورة القبول على مشاركة المكوّن العسكري في الحكم. وبعد إعلان الوثيقة الدستورية، خفت وتيرة العنف مع الحكومة المدنية وألغت بعض القوانين التي كانت تستهدف النساء، لكن أنواعا أخرى من العنف ظهرت، حسب شهادات تضمنتها دراسة حديثة لمنظمة الأمم المتحدة، كانت ترفض الشرطة التدخل في حالات التحرّش في الشوارع، وترد على المبلغات "هذا هو الحكم المدني الذي تريدون" ("أصوات من السودان:، ص 28). وخلال فترة حكومة عبدالله حمدوك، اندلعت أعمال عنف طاولت النساء في دارفور وكردفان وشرق السودان. ومع ضعف قوى الثورة، رأى تحالف يقوده الجيش، تكوّن من رديف نظام البشير وحركات مسلحة وقوى تقليدية إمكانية اختطاف السلطة، فكان انقلاب أكتوبر الذي فتح المجال مرّة أخرى للعنف الشامل طاول النساء.
العنف بعد انقلاب أكتوبر
تصاعدت في السودان وتيرة العنف ضد النساء بعد الانقلاب الذي أعاد استخدام البنية التشريعية التسلطية وفرض حالة الطوارئ، وفعل سلطات أجهزة الأمن والمخابرات في القبض والتحقيق والتفتيش بموجب قانون الأمن الوطني الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2009. وعلى الرغم من ذلك، واجه المحتجون، وبمشاركة نسائية كبيرة، الانقلاب خلال أربعة أشهر مضت، منذ أعلنت قوى الثورة التعبئة العامة، واستمرار الفاعليات.
مورس العنف ضد النساء بوصفه من استراتيجيات السلطة، وتعبيرا عن ضعف أجهزتها لا قوتها، وارتباكا أمام رفض قطاعات واسعة له، وفي مقدمتهم النساء، كان العنف وما يزال إحدى أدوات فرض الواقع أمام افتقاد الشرعية، القوة المتغلبة حلا أمام الرفض القائم أو المحتمل حدوثه. وحسب التحالف الإقليمي للمدافعات عن حقوق الإنسان، شهدت الفترة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 وحتى يناير/ كانون الثاني 2022، أربع وقائع عنف بارزة، شملت فض اعتصام المعلمات يوم 8 نوفمبر، وحالات إجهاض وكسور في صفوف المحتجين في اليوم التالي، واعتداء وحشيا جنسيا يوم 20 ديسمبر، وحوادث قبض واعتداء في 30 ديسمبر و22 يناير.
وشهدت مظاهرة 19 ديسمبر 2021 وقائع عنف جنسي، رصدت 13 حالة، ووثقت وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل (تابعة لوزارة التنمية الاجتماعية) تسع حالات إحداها لطفلة في العاشرة، بينما هناك تقارير عن وقوع عشرات الانتهاكات جرت في محيط القصر الرئاسي. وأعلنت لجان الأحياء تعرّض عشرات الفتيات للتحرّش والاعتداءات الجسدية والجنسية في أثناء اعتقالهن، وكذلك في أقسام الشرطة، ومراكز الاحتجاز، بينما أعلنت لجنة الأطباء عن قتل اثنين وإصابة أكثر من 300 شخص بجروح الأحد 19 ديسمبر 2021.
العنف السياسي ضد النساء ذو طابع مؤسسي، مارسته الأجهزة الرسمية النظامية، الجيش والشرطة والأمن الشعبي وقوات الدعم السريع ومرتزقة استعان بهم النظام
وفي رد فعل على وقائع انتهاكات الأحد، خرجت عدة مظاهرات بدعوات من منظمات نسوية وأحزاب سياسية، سيما مكاتب المرأة والشباب، ولجان المقاومة، تندّد بالانتهاكات، وتؤكد استمرار الفاعليات الرافضة للانقلاب، وشهدت مشاركة واسعة من النساء والرجال وأمهات الشهداء وآبائهم، كما نظمت مظاهرات ووفود ورسائل احتجاجية عند مقر الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بجانب مظاهرات في مناطق منها كسلا وكوستى وكادقلي ودمزين، وأعلنت هيئة محامي دارفور عن تلقيها 30 بلاغاً حول حوادث شملت الاغتصاب والاعتقال والاعتداء بعد موكب 25 ديسمبر2021 بينها 13 حالة اغتصاب مؤكدة. ولم تقتصر الانتهاكات على العاصمة، حيث شهدت عدة ولايات حوادث مشابهة، خلال حملات قبض واحتجاز، ومنها ما كان قبيل الفاعليات الاحتجاجية لإضعافها، والتي وصلت إلى 30 مظاهرة (مليونية)، منها مظاهرات 8 مارس/ آذار الحالي، والتي تعد من المظاهرات النسوية الأكبر في الوطن العربي، على الرغم مما واجهها من تحدّيات، منها تهديدات القوى الأمنية وعنفها.
سمات العنف ضد السودانيات
إجمالا، يمكن القول إن للعنف السياسي ضد السودانيات، وعلى مدار تاريخي، وخصوصا من 2011 وحتى انقلاب 25 أكتوبر، سمات تميزه عن العنف السياسي في أتون الثورات العربية، وإن كان هناك مشتركات لا يمكن نفيها، ومن تلك الخصائص والسمات.
أولا: كان العنف معادلا للهيمنة السياسية، وليس قائما وحسب على النوع الاجتماعي، أو ترجمة للعامل البيولوجي. ولم يقتصر على الموقف السياسي، وإنْ كان يرتبط به، فهو يتخذ من من كل أشكال التمييز، ومنها القبلي والجهوي والديني، مصادر مغذّية له ومرتكزات لممارسته.
ثانيا: العنف السياسي ضد النساء ذو طابع مؤسسي، مارسته الأجهزة الرسمية النظامية، الجيش والشرطة والأمن الشعبي وقوات الدعم السريع ومرتزقة استعان بهم النظام، كما مارسته الحركات المسلحة، وكان قائما في ظل الصراعات القبلية، وكانت النساء والأطفال ضحايا له بشكل دائم.
يمثل العنف السياسي أحد آليات الاستبعاد والتهميش، ويتضمن عمليات التشويه والاغتيال المعنوي
ثالثا: ارتبط العنف بعنصر الفاعلية ووجود النساء، سواء في المجال الاجتماعي، أو الاقتصادي أو السياسي. ويظهر ذلك من فض الاحتفالات الاجتماعية أو مطاردة النساء في الأسواق، غير ملاحقة النساء في الأنشطة السياسية والحقوقية.
رابعا: يمثل العنف السياسي إحدى آليات الاستبعاد والتهميش، ويتضمن عمليات التشويه والاغتيال المعنوي، وينال السمعة، ويتضمن عنفا في الخطاب، بجانب العنف المادي، ويرتكز على جملة من الأسباب.
خامسا: تتصف أسباب العنف بعنصر التكاملية والتساند بين السياقات السياسية والاقتصادية، فكلما كان النظام في أزمة ويفتقر للشرعية ازدادت فرص العنف ضد النساء باسم الدور والوظيفة والتقسيم التقليدي للعمل والدور الاجتماعي داخل المجتمع، واعتبار أن المجال العام، بما فيه النشاط السياسي والاقتصادي، مقصور على رجال ضمن تحالفات السلطة، وهو ما يدلّ على تدني نظرة النظم السياسية، بما فيها الثورات المضادّة للنساء، مهما ادّعت غير ذلك، فهي لا تقبل النساء في غير دور المؤيدات لها والخاضعات للتراتبية الاجتماعية والسياسية.
سادسا: يرتكز العنف السياسي في السودان على ميراثٍ ثقيل، له جذور تاريخية، تستند إلى بنية تشريعية ونظم حكم سلطوية، وعلى تقاليد محافظة، وذلك كله يشكل قاعدة للاستبداد والعنف ضد النساء، والثورة بحكم رغبتها في إيجاد نظام جديد وإقرار الديمقراطية، والصراع السلمي للتنوع والاختلاف، تشكّل تهديدا لقوى اجتماعية، تتغاضى عن مظاهر العنف وأحيانا تبرّره.
شهد السودان انتهاكاتٍ واسعةً، طاولت النساء في المجال العام، وتنوّعت في أشكالها، منها العنف السياسي، والذي ارتبط وتصاعد تاريخيا مع عاملين: وجود حراك احتجاجي مدني ضد النظام، وتصاعد المواجهات بين النظام والحركات المسلحة. وارتبط العنف سياسيا بأزمة النظام وضعف الدولة، لا قوتها، واشتبك اجتماعيا وثقافيا بجملة من الأسباب في ظل سياق عام ينتهك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتتناول هذه المطالعة مفهوم العنف السياسي، وأبرز محطاته وأشكاله، مع تحليل لتعدد مرتكزاته وخصائصه وتقاطعهما، وهو يتجاوز ثنائية العنف المبني على النوع الاجتماعي، والموقف السياسي، إلى عنف مستند إلى التمييز الجهوي والعرقي والثقافي (الديني). وتتخذ المطالعة حالات عنف مارستها السلطة في فترات تاريخية ومناطق مختلفة، بما فيها مرحلة ما قبل ثورة ديسمبر (2018)، وما تلى انقلاب 25 أكتوبر (2021)، نماذج للتحليل تحمل مؤشراتٍ ودلائل، وتتقارب مع غيرها من حالات عنف شهدتها المنطقة العربية، خصوصا التي مرّت بمرحلة حراكٍ احتجاجي، واندلعت فيها ثورات وانتفاضات.
ويقصد بالعنف السياسي كل أشكال الإيذاء في الفضاء العام وخلال المشاركة السياسية، ويتضمن العنفين، النفسي والبدني، وكل أشكال إساءة المعاملة، بما فيها عنف اللغة والتحريض، والاحتجاز والاعتقال والاعتداء (أشكال التعذيب) وكل صور التمييز في المجال السياسي المبني على النوع والانتماء الجهوي والطبقي والثقافي والموقف السياسي، بما فيه الإقصاء والحرمان من المشاركة السياسية.
وعلى الرغم من أن العنف مبنى على النوع، إلا أن بنيته ترتكز على الموقفين، السياسي والأيديولوجي، وترتبط بالإقليم والجهة والعرق والثقافة، وتتجلى كلما غابت السياسة، وضعفت الدولة والنظام، وتجاور معها فشلٌ أو إهمالٌ في قبول التنوع وإدارته بشكل سلمي. وكلما افتقر النظام إلى الشرعية والقبول كانت درجة ممارسته العنف مرشّحة للتمدد. تصف حنه أرندت السياسة بأنها التعايش بين مختلف الناس على ضوء المشترك بينهم داخل فوضى مطلقة للفروق. وبموجب ذلك، العنف مضادٌّ للسياسية، لأنه يستمد مرتكزاته من إخفاقٍ في العيش في ظل التنوع وقبول الفروق.
والعنف في السودان ضد النساء خصوصا متبوعٌ بالمقدس، ومبرّر من خلاله. واستند إلى ما سميت قوانين الشريعة لتمريره وتبريره أيضا، وطبّق بالتشريع القانوني، خصوصا الثلاثة: القانون الجنائي وقانون أمن الدولة والنظام العام. ومورس العنف ضد النساء في مسارين: المواجهة مع الحركات المسلحة (خصوصا في ولايات دارفور)، والتصدّي لأي نشاط في المراكز والحواضر السياسية. وشهدت المواجهة العسكرية أعمالا مفزعة، صنّفت جرائم حرب، وبرّرت بالحفاظ على الدولة والهوية، ومواجهة المتمرّدين. وفي المركز السياسي، كان قمع النساء تحت شعارات الحفاظ على الأخلاق وقيم الأسرة والنظام الاجتماعي السائدة، تجلد النساء وتسجن وتنتهك باتهامات منها ارتداء زي فاضح، أو الاجتماع بالرجال في الأسواق.
كما ارتبطت بنية العنف بمفاهيم الأنثروبولوجيا السياسية، ومنها القرابة والانتماء الإقليمي، والتدرّج والتراتبية الاجتماعية، وهدفت إلى الحفاظ على تركيبة النظام السياسي، المغلقة والتقليدية، ومنع غير المنتمين له، للوصول والنشاط في الحيز السياسي. ويستمد العنف السياسي من عوامل عدة، منها تاريخ الدولة، وانتقالها من تكويناتٍ قبليةٍ إلى الدولة الحديثة، والتداخل بينها وبين البنى التقليدية. ومنذ الاستقلال ومرورا بسلسلة من الانقلابات العسكرية، ومع بداية مشكلة الجنوب في الخمسينيات، مثل السكان خارج المركز السياسي (الإقليم) عدوا يُراد ضبطه. وبالمقاربة مع إيفانز بريتشارد، في دراسته قبيلة النوير في السودان، شكلت مسألة معيار الإقليم والتنظيم المكاني إطارا للتنظيم السياسي. ومن خارج الإقليم، يعد تهديدا خارجيا، وهذا يفسّر جزءا من منطلقات العنف والحروب في السودان، والذي جعل معيار الانتماء الجهوي، وعامل القرابة الحقيقية أو المتخيلة، أساسا للتمييز ومبرّرا لممارسة العدوانية. وقد أضاف "نظام الإنقاذ"، برئاسة عمر البشير، بجانب التمييز النوعي ضد النساء تمييزا دينيا وثقافيا، فكان الأكثر عنفا ضد المرأة فى تاريخ السودان ما بعد الاستقلال، عبر ترسّخ عوامل العنف على كل من المستويات: السياسي والثقافي والاجتماعي، بالإضافة إلى عنف اقتصادي تحمّلت النساء تبعاته بشكل كبير، وانعكست على مؤشرات العمل والفقر.
محطات العنف ومراحله
أما مراحل العنف فيمكن إجمالها في أربع مراحل أساسية، ازدادت فيها حدّة العنف. ارتبطت الأولى بموجهات النظام مع الحركات المسلحة من 2000-2006، والثانية تزامنت مع الانتفاضات والثورات العربية، والثالثة خلال انتفاضة سبتمبر 2013. أما الرابعة فقد بدأت مع ثورة ديسمبر 2018، وأبرز مشهدين فضُّ الاعتصام امام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، وجولات العنف بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي قاده رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بتحالف اجتماعي وسياسي شمل رديف النظام وحركات مسلحة، وأعاد من خلاله إنتاج العنف، مستندا إلى ثلاثة عوامل رئيسية: القوة العسكرية، والبنية التشريعية التسلطية، وضعف قوى الثورة. وقاصدا جملة من الأهداف: أولا، تثبيت سلطته وفرض شرعية التغلب بالقوة. ثانيا، إضعاف قوى الثورة والانتقام منها وفي مقدمتها النساء. ثالثا، الحفاظ على مكاسب اقتصادية لقوى اجتماعية تقليدية، ومصالح اقتصادية لقطاعات رأسمالية وعسكرية. ويتقاطع ذلك مع تجارب الثورة المضادة في الوطن العربي في ثلاثية أهدافها وتحالفاتها وتكتيكاتها، ودفعت النساء ثمن عودة الثورة المضادّة إلى الحكم، حيث كانت هدفا لها، ومورست ضدها أشكال متنوعة من العنفين، المادي والرمزي، كالتحرّش والاغتصاب والاحتجاز وتشويه السمعة.
العنف في ظل الصراع السياسي
وقد ظهر العنف بقوة خلال الصراعات السياسية، بما فيها الفترات الانتقالية بعد الانتفاضات والثورات. والسودان، أحد النماذج للعنف الذي تقوده القوات النظامية بجانب قوات الدعم السريع، وتشارك فيه أطراف السلطة، بتنوّعها، وهناك عنف مورس خلال فترات الحراك، وما زال مستمرا، ومرتكزا على التطورات السياسية الراهنة في ظل الصراع على السلطة، وإنْ كان العنف، بشكل عام، يعد أحد مؤشّرات (وسمات) الأزمة الشاملة التي تمر بها المجتمعات، وتتشابك فيها الأسباب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ويتفاقم العنف مع غياب أطر وصيغ سلمية لإدارة الصراع الاجتماعي والسياسي والتنوع الثقافي.
وقد مثّل العنف ظاهرة، سلوكا متكرّرا ضمن تاريخ الانقلابات العسكرية في السودان. وكثف "نظام الإنقاذ" استخدامه مستهدفا النساء، وخلف ممارسات قهرية، منها اعتداءات وتنكيل، مستندة إلى بنية تشريعية تقنّن القهر، وتحارب مشاركة النساء سياسيا وتضبطهم اجتماعيا، مدعومة بسياق ديني محافظ، يجعل وجود المرأة مقتصرا على المجال الخاص. وقد استكمل عمر البشير ما قد بدأ في عهد جعفر النميري، من تحالف الجيش مع الإسلامين، وما نجم عنه من تغيراتٍ في بنية التشريع، ضمن أجندة إسلامية تجذب الإسلاميين والصوفيين ضمن تحالفٍ اجتماعي لمواجهة أزمات النظام، ومنها قوانين سبتمبر 1983، والتي فاجأ بها الجميع، بمن فيهم الإخوان المسلمون، على حد تعبير روبرت كولينز، في كتابه "تاريخ السودان الحديث"، (ترجمة مصطفى الجمال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015 ص 175). كان النميري يستعرض ورعه المستجد، بسكب زجاجات الخمر في النيل، وتطبيق الجلد وبتر الأطراف أمام الحشود. يروى كولينز عن تلك المشاهد، ومنها أن الترابي الذي كان يشغل منصب المدّعي العام سقط مغشيا عليه بعد مشاهدة أول عملية بتر، ثم سار الأمر بشكل اعتيادي، بل وكسب النميري الذي لقّب بالإمام مؤيدين جددا. وظلت الجرائم، على بشاعتها، أمرا اعتياديا، وانْ كانت تسبب تراكمات من الغضب، بجانب أزمات أخرى اقتصادية عجز عن تفكيكها، وجنون البقاء في السلطة وضريبتها من عنف. وحسب صحف الخرطوم التي أوردها كولينز، صدرت أحكام بـ19 ألف جلدة في شهر واحد. لذلك لم يكن مستغربا أن يستكمل البشير الطريق مع انقلابه في العام 1989، ويستخدم القوانين نفسها، ويضيف إليها للتحكّم السياسي والضبط الاجتماعي والمترابطين في سياق واحد. وقد استخدمت العقوبات البدنية في السودان، حسب كتابات تاريخية منذ حكم المهدية، لتعزيز الأخلاق! وطبق الجلد تاريخيا في السودان من الاستعمار البريطاني، واستخدمته الإدارات الأهلية، حسب تقرير للمرصد السوداني لحقوق الإنسان (لا للجلد – ص7).
مثّل القانون الجنائي لعام 1991 سيفا مسلطا على الرقاب، واداة جلد للنساء في الميادين، بموجب المادة 152 المتعلقة بالأفعال الفاضحة والمخلة بالآداب العامة، ويدخل في إطارها كل من يتزيا بزي فاضح أو مخلّ بالآداب العامة، والذى اعتبر "البنطلون" واحدا منه، وطبق على غير المسلمين في إطار الترويج داخليا لنموذج الدولة التي تحكمها الشريعة، وخارجيا كانت الحكومة دائما تنفي أن القانون مخصّص للنساء، أو يستهدفهن. وكان آخر نفي لحكومة الخرطوم خلال استعراض ملاحظات لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة والرد عليها عام 2017. وتضمّن القانون أيضا عقوباتٍ بتهم التحريض على الدولة، وإثارة الشعور بالتذمّر، والدعوة إلى معارضة السلطة وإثارة الكراهية بين الطوائف، ونشر الأخبار الكاذبة (تهمة رائجة للسجن في مصر) والإخلال بالسلام العام. ومن فرط رهافته، أدرج نظام البشير في القانون عقوبة "إساءة معاملة الحيوان"، بينما يشرعن القانون، ولأسباب واهية، جلد النساء في الشوارع. واستخدمت نصوص القانون بما فيها عقوبات الزي والإغواء وغيرها أدوات للتنكيل. وقد روى وزير خارجية السودان سابقا، منصور خالد، أن نظام البشير جلد نساء مسنّات من خيرة نساء البلد، حين ذهبن لمقابلة مسؤول حقوقي أممي. وشمل الجلد طالبات في مدارس وجامعات، وليس المنخرطات وحسب في المجال العام وفضاء السياسة والحركتين، الحقوقية والنسوية.
وفرض قانون النظام العام الصادر بقرار 41 لعام 1996 تعقيداتٍ تمثل حصارا وأدوات قمع يسهل استخدامها لأبسط الأسباب، اشتملت تحديد أماكن وجود النساء، وأوقات فتح المحال، وتنظيم صفوف منفصلة للرجال والنساء (المادة 20)، وتضمّن القانون عقوبة الجلد للمخالفين (المادة 26)، واستخدمت بشكل واسع ضد النساء، خصوصا عاملات السوق والمحال التجارية وبائعات الشاي والعاملات في مهن هامشية، وسهل تنفيذ العقوبات ما يمنحه القانون للشرطة من سلطاتٍ تقديرية، سمح بالانتهاكات، كما استخدمت ضد طالبات المدارس والجامعات. وألغي بعد الثورة، نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، ضمن قوانين أخرى ألغيت أو عدّلت. بعد الانقلاب، تحاول قوات الشرطة ممارسته بشكل ضمني، ولذا لم يكن مستغربا أن النساء، والمنظمات المهتمة بقضايا المرأة والنساء في المجال السياسي، جزءٌ أساسي لمقاومة نظام البشير.
أرض محروقة ونساء مغتصبات
اتخذ العنف في السودان عدة أشكال، وارتكز على بنية تشريعية، أسسها انقلاب البشير في 1989، بالإضافة إلى نمط حكم سلطوي، ذي بنية عسكرية بالأساس، دعمت بالتحالف مع حزب المؤتمر الشعبي. ومع ميل إلى التمييز متنوّع، شمل تمييزا دينيا وجهويا ونوعيا وعرقيا وقبليا، ونال من الحقوق والحريات، فشرّد ملايين الأشخاص في مناطق الحرب، وأبعد عن الوظائف العامة المعارضين. وتشريعيا، قنن العنف ضد النساء في سلسلة تشريعاتٍ استهدفت إحكام القبضة على المجتمع، وضبطه اجتماعيا، طريقا إلى الضبط السياسي. واستخدم العنف ضد سكان الهامش في الشرق والغرب والجنوب، كإحدى أدوات إثبات الهيمنة. ومثالا دالا، شهدت مناطق الحرب في دارفور فظائع صنفت جرائم حرب، حسب لجنة التحقيق الدولية التي أنشئت بموجب قرار مجلس الأمن 1564. وتدل وقائع العنف في الفترة 2002-2005 أنها ممنهجة، ومنها عمليات القتل والاغتصاب، والتي لفتت أنظار العالم. حسب تقارير عدة، منها تقارير منظمة العفو الدولية (منعت من العمل في السودان)، كانت هجمات مليشيات الجنجويد المدعومة من الحكومة تعقب الغارات الجوية الحكومية، وتتضمّن عمليات سرقة واغتصاب، واشتمل تقرير "العفو الدولية" لعام 2004 على شهاداتٍ مفزعة، بينما أفادت منظمة "أطباء بلا حدود" في 2005 عن معالجة 500 امرأة من آثار الاغتصاب. وتكرّر الأمر في دارفور في ديسمبر/كانون الأول 2011 (ركزت على قبيلة الزغاوة حسب تقرير هيومن رايتس ووتش).
وحسب "العفو الدولية"، اغتصبت في أكتوبر/ تشرين الأول 2014 أكثر من 221 امرأة في قرية واحدة (تابت)، بينما من يناير/ كانون الثاني إلى أغسطس/ آب 2016، اتخذت وقائع العنف شكل اعتداء جماعي، واستخدمت الأسلحة الكيميائية في 32 قرية في جبل مرّة (موطن تاريخي لقبائل الفور)، وسجّل هجوم آخر في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه (تقرير "أرض محروقة وهواء مسموم"). ولخّصت "العفو الدولية" الوضع حينها بالقول "الأرض المحروقة والاغتصاب الجماعي والقتل والقنابل، هذه هي جرائم الحرب نفسها التي ارتكبت في دارفور في 2004، عندما استيقظ العالم على ما كان يحدًث. دخلت المنطقة دوامة عنف ولم يتغير فيها شيء سوى أن العالم قد توقف عن مراقبتها". وشملت الانتهاكات "القتل غير المشروع للرجال والنساء والأطفال، واختطاف النساء واغتصابهن، وتدمير قرى بأكملها". ومع انفجار مشكلة النزوح ومعسكرات اللجوء (تقدر الأمم المتحدة إجمالي عدد النازحين بالسودان بتسعة ملايين)، أصبح تهديد النساء والأطفال أكثر، وارتفعت وتيرة العنف والانتهاكات مع فقدان حماية اجتماعية كانت نسبيا قائمة في محل الميلاد وسط محيط اجتماعي وعلاقات قرابية ومارست الجماعات المسلحة المعارضة العديد من الجرائم، لتكون النساء ضحية للعنف المتبادل على أساس قبلي في إطار الصراع على الموارد (تجدّدت بعض أحداثها بعد ثورة ديسمبر) وضحية للحرب من مليشيات مسلحة كانت تقاتل الحكومة، ويقاتل بعضها بعضا في بعض الأوقات.
دراسة حول حالات للعنف
نالت عدة وقائع اهتماما واسعا، لحالات انتهاك طالت النساء، منها واقعة تكرّر اعتقال وتعذيب حواء عبد الله (حواء جنقو)، والتي عملت ضمن فرقة الإغاثة الدولية "يوناميد" في دار فور (حصلت على جائزة الخارجية الأميركية أشجع نساء العالم في مارس/ آذار 2012) بالإضافة الى واقعة الحكم على لبنى حسن بالجلد لارتدائها بنطالا، وهي صحافية في فريق الأمم المتحدة، وبعد الحكم عليها بالجلد مع حالات أخرى انتشرت تسجيلات العقوبة فيها، تأسّست حركة "لا لقهر النساء" في العام 2009، والتي تعرضت أعضاؤها لمضايقات عدة ما زالت مستمرة، منها وقائع القبض المتكرّر عليهن، ومنها حالة أميرة عثمان، المتهمة بعد الانقلاب بحيازة سلاح.
مورس في المظاهرات السودانية التي تلت الانتفاضات العربية، والتي بدأت في 30 يناير/كانون الثاني 2011، عنف مكثف ضد النساء، وتضمن وقائع اعتقال وتحرّش، وحالات اغتصاب، منها حالة صفية إسحاق، عضو حركة قرفنا والتي لاقت شهاداتها المصورة، حول الاعتداءات صدى واسعا، روت ما جرى لها من انتهاك واغتصاب، سألها المحقق قبل واقعة الاغتصاب، إذ ما كانت مارست الجنس من قبل أم لا (كشف عذرية تمارسه أجهزة الأمن)، وقد أحدثت الشهادة، بعد هرب صاحبتها من السودان، حالة اهتمام إعلامي، وحركة تضامن واسعة شملت تظاهرات احتجاجية. وعلى أثرها سجنت نخب وناشطات نسويات من المتضامنات معها. وشكّلت الواقعة بابا لكسر الصمت بشأن العنف الجنسي وانتهاكات السلطة في المركز السياسي، خارج أقاليم الحرب، والتي غالبا لا يبلغ عنها، تجنبا لمزيد من الانتقام، أو محاولة لتجاوز الوصم الاجتماعي. وفي السياق، كتبت سمر الميرغني شهادتها عن الانتهاكات التي لحقت بها خلال انتفاضة سبتمبر 2013 (وثقتها منظمة العفو الدولية في تقرير عام 2014 ص 30). وبعد ثورة ديسمبر، ظهرت شهادات أخرى عن العنف السياسي ضد النساء، وروت والدة سمر وقائع العنف ضد ابنتها في مؤتمر بثته قناة الجزيرة، وهي تطالب بمقاومة نظام البشير. وقبض على دعاء طارق، حين سجلت شهادتها عن الانتهاكات التي طاولت المعتصمين أمام القيادة العامة.
ومن بين حالات العنف الممنهج، التي طاولت صحافيات، وناشطات، خلال 2012، القبض على جليلة كوكو، وهي معلمة أسّست مدرسة للنازحين، واتهمت بالخيانة بعد نشرها فيديوهات عن فظائع الحرب في موطنها، جبال النوبة بكردفان. وبالإضافة إلى ذلك، تنتمي جليلة للحركة الشعبية لتحرير السودان شمال. كما تعرّضت الصحافية سمية هندوسة للاعتداء والتعذيب في مايو/ أيار من العام نفسه (2012). وخلال التحقيق، قال الضابط لسمية، بعد أن أجبروها على خلع حجابها، "شعرك ليس من أولاد دارفور"، ثم حلق شعرها. بينما حين كشف المحقق عن شعر صفية إسحاق، قال "أنتِ كما الشيوعيات قصيرة الشعر". وعادت عمليات قصّ شعر المحتجين في اعتصام القيادة العامة وبعد الانقلاب.
يوظف الدين لدعم السلطوية والعنف ضد النساء عبر تشريعات تضبط المجال العام، وتشكل استبعادا مقصودا على أساس النوع
وفي يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2012، وحسب تقارير عديدة، قبضت السلطات على 500 معتقلة تعرضن للتنكيل والإيذاء، وتدهورت أحوالهن الصحية. وربما كانت حركة الاحتجاج وَالنَّشَاط السياسي الذي تبلور بالتزامن مع الانتفاضات العربية عاملا في تشديد القبضة على القيادات ذوات الأثر، وبالتزامن مع تحالفات سياسية في الخرطوم، جرى تركيز العنف على نساء دارفور خصوصا، أو من يشتبه في دعمهن سياسيا أو إنسانيا، خصوصا بعد تشكّل تحالفات بين قوى المعارضة المسلحة في المنطقة (الجبهة الثورية).
وتمثل الحالات السابقة وغيرها من حالات جرى رصدها نماذج تفسيريه، يمكن من خلالها فهم تقاطع مكونات العنف ضد النساء وأنواعها، وهي تستند إلى ميراث استبدادي، متنوّع الجذور، يتخذ من الضبط الاجتماعي أدواتٍ للقهر السياسي، كما يوظف الدين لدعم السلطوية والعنف ضد النساء عبر تشريعات تضبط المجال العام، وتشكل استبعادا مقصودا على أساس النوع، وتدعمه ثقافة الاستعلاء والتمييز. بينما تشمل أشكال العنف المبنى على النوع مرتكزات أخرى، منها الهوية الدينية والانتماء الجهوي والقبلي والأيديولوجي، في خليط لافت، يعبر عن خصائص العنف ضد السودانيات، والذي يتمايز عن العنف السياسي في دول الانتفاضات والثورات العربية.
يلحظ انتشار العنف بشكل مكثف جغرافيا في بؤرتين: الأولى مناطق الحرب والثانية المركز والحواضر السياسية. وفي مقدمة مناطق الحرب التي شهدت وقائع عنف ضد النساء صنفت كجرائم حرب، منطقتا دارفور غرب السودان، وكردفان، وسط السودان، كانت دارفور (خمس ولايات) مسرحا للجماعات والصراعات المسلحة منذ جعفر النميري، واشتبكت سياسيا مع النظامين، الليبي والتشادي، فضلا عن عنفٍ خلفه الصراع على الموارد بين القبائل المختلفة، ضمت إقليم كردفان (ثلاث ولايات). وشهدت المنطقتان مواجهات بين "نظام الإنقاذ" والحركات المسلحة، وأنتجت عنفا مكثفا بجانب صراعات قبلية كانت النساء ضحايا لها، وصلت وقائع العنف إلى حدود الأسر والاغتصاب والعبودية. أما البؤرة الثانية فتتمثل في المراكز السياسية النشطة، وفي قلبها الخرطوم، وتركز العنف فيها على النساء المنخرطات في الحركة السياسية وحركة حقوق الإنسان، ومنها الحركات النسوية، خصوصا وأنه كانت لهن جذور أو صلات بمناطق الحرب أو عضوات في أحزاب وحركات سياسية معارضة أو صحافيات. ومثال على ذلك ما تعرّضت له نساء وشابات في "حركة قرفنا" أو حزب الأمة والحزب الشيوعي، بالإضافة إلى عنف متعدّد الأبعاد في صيغه التميزية، الطبقية والثقافية والقبلية، استهدف النساء وتركز في الأسواق والأنشطة الاقتصادية، خصوصا المشتغلات في أعمال هامشية، كما ستّات الشاي، ونسبة منهن من النازحات، هربن من الحرب، للبحث عن عمل ومساحة آمنة، بعيدا عن المواجهات العسكرية، فواجهتهن شرطة النظام العام.
تقاطعات ومرتكزات
يظهر في وقائع العنف ضد النساء تقاطع ما بين النسق السياسي والقرابة والانتماء إلى إقليم محدّد، وهي القضية التي شغلت علماء الأنثروبولوجيا. وكان السودان أحد الحقول الهامة لدراسة النظم السياسية الأفريقية، ومدى تأثير علاقات القرابة والإطار المكاني (الإقليم) على النسق والخطاب السياسيين، وفيما سبق علاقة العنف بتلك المعطيات، وهو ما يمكن ملاحظته من خطاب المحققين مع النساء أو بعض خطابات السلطة التي تتصف بالتميز والعنف والتمييز على أساس الإقليم والقرابة والثقافة والنوع إطارا لممارسة العنف السياسي في السودان، وربما مناطق في القارّة الأفريقية.
وتشترك حوادث العنف ضد النساء عموما في الوطن العربي، من حيث أشكالها وأهدافها ومضامينها، لكن مرتكزات العنف سودانيا تتّسم بتعدّد المصادر، ولا تقتصر على العنف المبني على أساس المرتكزيْن السائدين عربيا، النوع والموقف السياسي، فالعنف ضد النساء سودانيا يتجسّد في خليط من مواقف ثقافية ودينية، وتوظيف لأدوات الضبط الاجتماعي والتمايز الجهوي والقبلي أحيانا، ويجمع ما بين ما هو نفسي وبدني وجنسي وقبلي وثقافي في إطار واحد.
لا تكتفى السلطة السودانية بارتكاب العنف بل تهدد "الناجيات" في أحيان كثيرة من معاقبتهن قانونيا باستخدام آليات التشريع، واتهامهم بالدعارة إذا ما تحدثوا أو تقدموا ببلاغات
كما يوظف العنف السياسي ضد النساء بوصفه أداة للضغط الاجتماعي على أسر المعنفات والمحيط الاجتماعي من الأقارب والمنطقة والإقليم وإخافتهن من الحركة في الفضاء العام وتعطيل مقاومتهن للنظام، لا تعاني النساء وحسب من الصدمات النفسية للاعتقال والجلد والعنف الجسدي والجنسي، لكن تعانين اجتماعيا عبر الوصم الاجتماعي، ويستخدم العنف أيضا لضبط التعبير السياسي لدى النخب. حدث ذلك كثيرا وفي نظم متعدّدة. يمكن أن نورد حالة القبض على بنات الصادق المهدي (مريم ورباح وزينب) في يونيو/ حزيران 2014 مثالا، أو حالات تهديد ذوي الناشطين سياسيا، وخصوصا من النساء، ولا تكتفى السلطة السودانية بارتكاب العنف بل تهدد (الناجيات) في أحيان كثيرة من معاقبتهن قانونيا باستخدام آليات التشريع، واتهامهن بالدعارة إذا ما تحدثن أو تقدمن ببلاغات، ولم يخل الخطاب الرسمي من العنف. وقف البشير يتحدّث، في أحد خطاباته، عن حالة جلد لإحدى النساء، اتخذت مساحة من التعاطف الشعبي، متهما إياها بالزنى، وكان يجري تطبيق حد الرجم على المغتصبة إذ تقدمت ببلاغ، ولم تتمكّن من إثبات ادعائها، ما يعنى أن من تتعرّض للعنف الجنسي من أجهزة الأمن ربما ستكون ضحية مرتين!
من انتفاضة سبتمبر إلى انقلاب 25 أكتوبر
شهد العام 2013 انتهاكات واسعة ضد النساء، خصوصا مع انتفاضة سبتمبر، والتي بدأت بالاحتجاجات ضد رفع الأسعار، كما ثورة ديسمبر 2018، وكانت مشاركة النساء والطالبات فيهما واسعة ولافتة، بل وأحيانا مبادرة، خصوصا في الجامعات والمدارس الثانوية والأسواق، وكانت العاملات واللواتي تجرّعن صنوف المعاناة حاضرات في الاحتجاج، ترى عاملة في السوق تخطب بحماس، وتمتلك قدرات خطابية وبرهانا وقدرة على التحريض، والتقت مع صفوف المحتجين، ولعبت دورا مهما مع قيادات حزبية نسوية. وذكرت منظمة العفو الدولية "اتسم رد الحكومة بالاستخدام المفرط للقوة والاحتجاز التعسفي والتعذيب وصنوف المعاملة السيئة، قتل ما لا يقل عن 185 شخصاً". وذكرت تقارير أخرى أن عددهم تجاوز 300 بينهم نساء. وجاءت الانتفاضة بعد انفصال الجنوب، في ظل ظروف اقتصادية قاسية، وتجدّد الصراع المسلح في دارفور وكردفان، وما نتج عنه من تهجير واسع في شمال كردفان وجنوبها (خصوصا جبال النوبة وأبيي). وخلال الانتفاضة، ألقي القبض على مئاتٍ من النساء، وسجلت حالات قتل واغتصاب، واستهدفت قيادات نسائية بطرق أخرى. على سبيل المثال، ألقي القبض على أميرة عثمان (مجموعة "لا لقهر النساء") بموجب قانون النظام العام، واتهمت بارتداء ملابس فاضحة. وجرت حوادث أخرى بالكيفية نفسها وظفت فيها البنية التشريعية.
تضمنت تسجيلات فض الاعتصام أمام القيادة العامة في الخرطوم، وشهادات للناجين، أعمال عنف لفظي وبدني، غير شهادات عن الاغتصاب والتحرّش
بدأ العام 2018 بمظاهرات يناير التي اعتقلت على خلفيتها 60 مدافعة عن حقوق الإنسان، أفرج عنهن في 8 مارس/ آذار 2019، حسب تقرير لتحالف المدافعات. تعرّضت المعتقلات للتعذيب وأشكال متنوعة من العنف. هدّدت، حسب تقرير التحالف، "عوقبت ويني عمر بالإعدام بعد أن اتهمتها الشرطة بإدارة بيت للدعارة بينما كانت مع زملائها في اجتماع عمل. وحُولت إلى المحاكمة، ولفقت لها تهمة التخابر والتجسس". وخلال احتجاجات ديسمبر، اعتقلت قيادات نسائية حزبية، منهن مريم صادق المهدي (وزيرة الخارجية فيما بعد) وسارة نقد من حزب الأمة، وأسماء محمود طه من الحزب الجمهوري، مع مئات من المشاركات في الاحتجاج من الحزب الشيوعي والحركات الشبابية والطلابية والنسوية.
ويعد فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، 3 يونيو/ حزيران 2019، من المحطات الرئيسية الأكثر عنفا ودموية ضد النساء، واشتركت في الفض قوات الشرطة والجيش والدعم السريع، حسب بيان رسمي للجيش، وخلف، حسب تقارير لجنة أطباء السودان، مقتل 118 شخصا وجرح 700 وسجلت 70 حالة اغتصاب للنساء، غير حالات اغتصاب للرجال (غالبا لا يبلّغ عنها ولا يوثق معظمها). وتضمنت تسجيلات فض الاعتصام، وشهادات للناجين، أعمال عنف لفظي وبدني، غير شهادات عن الاغتصاب والتحرّش، كان يظهر الجنود وهم يعتدون على النساء ويجبرونهن على الهتاف بشعار عسكرية بدل شعار مدنية، كما ظهرت عمليات قص لشعر المتظاهرين وصحافيين، وهي ممارسة كانت سائدة قديما بغرض الإذلال والقهر. واستخدم خلال فض الاعتصام، كما جرى الكشف عن إلقاء بعض الضحايا في نهر النيل بغرض إخفائهم، وضمنهم فتيات ونساء تعرّض بعضهن للاغتصاب، حسب شهادة ناهد جبر الله. طفت الجثث بعدها بأيام، وحسب منظمات وشهادات عدة.
وتعد هذه الواقعة الأولى من العنف متعدّد الأشكال ضد متظاهرات بهذه الكيفية، ولم تكتف قوات الأمن بذلك، بل طاردت محتجين يتلقون العلاج داخل المستشفيات، وتعرّضت المشاركات في الاعتصام للتهديد بالاغتصاب، في حال رفضن أوامر قوات الدعم السريع خلال الفض. وفي شهادتها قالت رئيسة مركز الأحفاد للإرشاد وعلاج الصدمة النفسية، سليمة شريف، إن المركز عالج 15 امرأة تعرّضن للاغتصاب. وذكرت أن نساء عديدات تعرّضن للضرب على أعضائهن التناسلية، واحتجز آلاف المحتجين بينهم نساء، باعتراف المجلس العسكري الذي سبق الفض باجتماع موسع للأجهزة الأمنية والعدلية، حسب بيان رسمي نشر يوم 13 يونيو.
مورس العنف ضد النساء بوصفه إحدى استراتيجيات السلطة، وتعبيرا عن ضعف أجهزتها لا قوتها
لم تهزم الثورة حينها، ونفذ الشعب السوداني عصيانا مدنيا شاملا، بالغ القوة، بينما كان العنف تكتيكا لإجبار المحتجين وقوى الثورة القبول على مشاركة المكوّن العسكري في الحكم. وبعد إعلان الوثيقة الدستورية، خفت وتيرة العنف مع الحكومة المدنية وألغت بعض القوانين التي كانت تستهدف النساء، لكن أنواعا أخرى من العنف ظهرت، حسب شهادات تضمنتها دراسة حديثة لمنظمة الأمم المتحدة، كانت ترفض الشرطة التدخل في حالات التحرّش في الشوارع، وترد على المبلغات "هذا هو الحكم المدني الذي تريدون" ("أصوات من السودان:، ص 28). وخلال فترة حكومة عبدالله حمدوك، اندلعت أعمال عنف طاولت النساء في دارفور وكردفان وشرق السودان. ومع ضعف قوى الثورة، رأى تحالف يقوده الجيش، تكوّن من رديف نظام البشير وحركات مسلحة وقوى تقليدية إمكانية اختطاف السلطة، فكان انقلاب أكتوبر الذي فتح المجال مرّة أخرى للعنف الشامل طاول النساء.
العنف بعد انقلاب أكتوبر
تصاعدت في السودان وتيرة العنف ضد النساء بعد الانقلاب الذي أعاد استخدام البنية التشريعية التسلطية وفرض حالة الطوارئ، وفعل سلطات أجهزة الأمن والمخابرات في القبض والتحقيق والتفتيش بموجب قانون الأمن الوطني الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2009. وعلى الرغم من ذلك، واجه المحتجون، وبمشاركة نسائية كبيرة، الانقلاب خلال أربعة أشهر مضت، منذ أعلنت قوى الثورة التعبئة العامة، واستمرار الفاعليات.
مورس العنف ضد النساء بوصفه من استراتيجيات السلطة، وتعبيرا عن ضعف أجهزتها لا قوتها، وارتباكا أمام رفض قطاعات واسعة له، وفي مقدمتهم النساء، كان العنف وما يزال إحدى أدوات فرض الواقع أمام افتقاد الشرعية، القوة المتغلبة حلا أمام الرفض القائم أو المحتمل حدوثه. وحسب التحالف الإقليمي للمدافعات عن حقوق الإنسان، شهدت الفترة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 وحتى يناير/ كانون الثاني 2022، أربع وقائع عنف بارزة، شملت فض اعتصام المعلمات يوم 8 نوفمبر، وحالات إجهاض وكسور في صفوف المحتجين في اليوم التالي، واعتداء وحشيا جنسيا يوم 20 ديسمبر، وحوادث قبض واعتداء في 30 ديسمبر و22 يناير.
وشهدت مظاهرة 19 ديسمبر 2021 وقائع عنف جنسي، رصدت 13 حالة، ووثقت وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل (تابعة لوزارة التنمية الاجتماعية) تسع حالات إحداها لطفلة في العاشرة، بينما هناك تقارير عن وقوع عشرات الانتهاكات جرت في محيط القصر الرئاسي. وأعلنت لجان الأحياء تعرّض عشرات الفتيات للتحرّش والاعتداءات الجسدية والجنسية في أثناء اعتقالهن، وكذلك في أقسام الشرطة، ومراكز الاحتجاز، بينما أعلنت لجنة الأطباء عن قتل اثنين وإصابة أكثر من 300 شخص بجروح الأحد 19 ديسمبر 2021.
العنف السياسي ضد النساء ذو طابع مؤسسي، مارسته الأجهزة الرسمية النظامية، الجيش والشرطة والأمن الشعبي وقوات الدعم السريع ومرتزقة استعان بهم النظام
وفي رد فعل على وقائع انتهاكات الأحد، خرجت عدة مظاهرات بدعوات من منظمات نسوية وأحزاب سياسية، سيما مكاتب المرأة والشباب، ولجان المقاومة، تندّد بالانتهاكات، وتؤكد استمرار الفاعليات الرافضة للانقلاب، وشهدت مشاركة واسعة من النساء والرجال وأمهات الشهداء وآبائهم، كما نظمت مظاهرات ووفود ورسائل احتجاجية عند مقر الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بجانب مظاهرات في مناطق منها كسلا وكوستى وكادقلي ودمزين، وأعلنت هيئة محامي دارفور عن تلقيها 30 بلاغاً حول حوادث شملت الاغتصاب والاعتقال والاعتداء بعد موكب 25 ديسمبر2021 بينها 13 حالة اغتصاب مؤكدة. ولم تقتصر الانتهاكات على العاصمة، حيث شهدت عدة ولايات حوادث مشابهة، خلال حملات قبض واحتجاز، ومنها ما كان قبيل الفاعليات الاحتجاجية لإضعافها، والتي وصلت إلى 30 مظاهرة (مليونية)، منها مظاهرات 8 مارس/ آذار الحالي، والتي تعد من المظاهرات النسوية الأكبر في الوطن العربي، على الرغم مما واجهها من تحدّيات، منها تهديدات القوى الأمنية وعنفها.
سمات العنف ضد السودانيات
إجمالا، يمكن القول إن للعنف السياسي ضد السودانيات، وعلى مدار تاريخي، وخصوصا من 2011 وحتى انقلاب 25 أكتوبر، سمات تميزه عن العنف السياسي في أتون الثورات العربية، وإن كان هناك مشتركات لا يمكن نفيها، ومن تلك الخصائص والسمات.
أولا: كان العنف معادلا للهيمنة السياسية، وليس قائما وحسب على النوع الاجتماعي، أو ترجمة للعامل البيولوجي. ولم يقتصر على الموقف السياسي، وإنْ كان يرتبط به، فهو يتخذ من من كل أشكال التمييز، ومنها القبلي والجهوي والديني، مصادر مغذّية له ومرتكزات لممارسته.
ثانيا: العنف السياسي ضد النساء ذو طابع مؤسسي، مارسته الأجهزة الرسمية النظامية، الجيش والشرطة والأمن الشعبي وقوات الدعم السريع ومرتزقة استعان بهم النظام، كما مارسته الحركات المسلحة، وكان قائما في ظل الصراعات القبلية، وكانت النساء والأطفال ضحايا له بشكل دائم.
يمثل العنف السياسي أحد آليات الاستبعاد والتهميش، ويتضمن عمليات التشويه والاغتيال المعنوي
ثالثا: ارتبط العنف بعنصر الفاعلية ووجود النساء، سواء في المجال الاجتماعي، أو الاقتصادي أو السياسي. ويظهر ذلك من فض الاحتفالات الاجتماعية أو مطاردة النساء في الأسواق، غير ملاحقة النساء في الأنشطة السياسية والحقوقية.
رابعا: يمثل العنف السياسي إحدى آليات الاستبعاد والتهميش، ويتضمن عمليات التشويه والاغتيال المعنوي، وينال السمعة، ويتضمن عنفا في الخطاب، بجانب العنف المادي، ويرتكز على جملة من الأسباب.
خامسا: تتصف أسباب العنف بعنصر التكاملية والتساند بين السياقات السياسية والاقتصادية، فكلما كان النظام في أزمة ويفتقر للشرعية ازدادت فرص العنف ضد النساء باسم الدور والوظيفة والتقسيم التقليدي للعمل والدور الاجتماعي داخل المجتمع، واعتبار أن المجال العام، بما فيه النشاط السياسي والاقتصادي، مقصور على رجال ضمن تحالفات السلطة، وهو ما يدلّ على تدني نظرة النظم السياسية، بما فيها الثورات المضادّة للنساء، مهما ادّعت غير ذلك، فهي لا تقبل النساء في غير دور المؤيدات لها والخاضعات للتراتبية الاجتماعية والسياسية.
سادسا: يرتكز العنف السياسي في السودان على ميراثٍ ثقيل، له جذور تاريخية، تستند إلى بنية تشريعية ونظم حكم سلطوية، وعلى تقاليد محافظة، وذلك كله يشكل قاعدة للاستبداد والعنف ضد النساء، والثورة بحكم رغبتها في إيجاد نظام جديد وإقرار الديمقراطية، والصراع السلمي للتنوع والاختلاف، تشكّل تهديدا لقوى اجتماعية، تتغاضى عن مظاهر العنف وأحيانا تبرّره.