الهروب إلى انتحال هوية أخرى، في جغرافيا مغايرة، دراما الاختيار/3 يفضح عمق إحساس النظم الانقلابية بأزمة الشرعية
مـحمد أحمد الجـــاك
11 April, 2022
11 April, 2022
بـــهدوووء_
في مقال له بُعيد ثورة يناير، يروي الناقد الفني طارق الشناوي ما حكاه المخرج خالد يوسف، من رفض الرقابة على المصنفات الفنية في البداية التصريح بفيلم جواز بقرار جمهوري عام 2001، حيث كان من المفترض أن يحضر الرئيس ضمن أحداث الفيلم فرحاً شعبياً فوق سطح إحدى العمارات، وعندما تقدم للجنة التظلمات قالوا له إن الوحيد الذي يملك الموافقة هو الرئيس، وبالرغم من أن الفيلم ينحاز لشخص مبارك، فهو يظهره الرئيس المتعاطف مع أفراد شعبه الفقراء، ولهذا يُلبي الدعوة الموجَّهة له من العريس "هاني رمزي"، وخطيبته "حنان ترك"، إلا أن مؤسسات الدولة الرسمية رفضت الفيلم، لمعرفتها برغبة مبارك الدائمة بإحاطة شخصيته بقدر كبير من التوقير، ولولا أن المخرج استعان بالفنانة يسرا، التي كانت قريبة إلى السلطة، ووجَّهت الدعوة إلى جمال مبارك، الذي تحمّس للفيلم، وعرض الأمر على زكريا عزمي، حينها وافق مبارك، وعرف الفيلم طريقه إلى دور العرض، وظهر في نهايته لقطة لمدة ثوانٍ قليلة للرئيس المخلوع.
يستكمل الناقد الفني طارق الشناوي، باستعراض كواليس أكثر الأفلام التي تعرضت مباشرة للرئيس مبارك، وهو طباخ الرئيس، حيث كانت التعليمات الصارمة للفنان خالد زكي بألّا يقلد الرئيس المخلوع، فقد كانت رغبته الدائمة ألا يقلده فنان. لم تعرف السينما طريقها إذن للرؤساء السابقين إلا من خلال أفلام (ناصر 56) و(أيام السادات)، اللذين تم تصويرهما وإنتاجهما عقب وفاتهما بزمن، حتى حينما وجه السادات الدراما لصنع أفلام تنتقد سابقه جمال عبد الناصر، مثل(الكرنك) و(إحنا بتوع الأتوبيس)، اكتفت تلك الأعمال بتوجيه سهام النقد للعهد الناصري، وكشف رموز الفساد به، دون الاقتراب من شخص الرئيس. وبحسب رواية محمد حسنين هيكل القاعدة تلك معمولاً بها حتى عامنا هذا، ليأتي الاستثناء الوحيد وغير المسبوق بتاريخ الدراما المصرية، بتجسيد فني لشخص أحد الرؤساء في حياته، وبتوجيه منه، بمسلسل يرصد تفاصيل دقيقة لحياة هذا الرئيس، الشخصية منها والعامة، ويقدم فصولاً كاملة عن علاقته بالمقربين منه ورجال السياسة والحكم.
الاختيار (3) جاء كمحاولة بائسة من صُنّاعه، ومَن وجَّهوهم لرسم صورة أسطورية لقائد الانقلاب العسكري السيسي، إلا أن ملامحها أتت بشكل ساذج وغير منطقي، حتى بدت بعض المشاهد فيه بصورة كرتونية أبعد ما تكون عن الواقع، خاصة تلك المشاهد التي جمعته بوالدته، وأحاطت بالأخيرة ما يشبه الهالة النورانية.ورغم أن العمل أُنتج خصيصاً لتمجيد السيسي، وتشويه الرئيس الذي انقلب عليه، الراحل محمد مرسي، ورجال حكمه، من خلال تصوير الأخير بمظهر الرئيس الضعيف، وتقديم مساعديه بشكل شيطاني، في مقابل تصوير السيسي كبطل جسور، الذي أنقذ مصر بانقلابه على الحكم، وبعيداً عن التزوير الفاضح للتاريخ القريب، الذي لم يغِب بعد عن ذاكرة من حضروه، وكشفته العديد من المواقع الإخبارية، ورصدته تقارير عدة، بل وعبّر عنه الكثيرون في تدويناتهم عبر مواقع التواصل. إلا أن المبالغة في تعظيم السيسي، والاقتراب الشديد من شخص حاكمٍ مازال في السلطة، وإحاطته بدائرة من التقديس، أبعد العمل تماماً عن أهدافه التي وُضع من أجلها.
ففي الوقت الذي يتعمد فيه المسلسل الاستغراق بتقليد الرئيس، وتجسيده الدقيق على الشاشة، من خلال حركاته وتعبيرات وجهه وطريقته في الكلام، تم اختيار ممثل هو الفنان ياسر جلال، بعيد كل البعد عن الصفات الجسدية للسيسي، ليُفاجَأ المشاهدون بصورة كاريكاتيرية لبطل أسطوري، له طول فارع وبنية قوية، يُرقق صوته، ويُضيق عينه، ويملأ حديثه بالنحنحة والهمهمات.
فخرج المسلسل كما لو أنه كوميديا شديدة الهزلية، خلقت حالة مريرة من الابتذال، لم يسبق أن صنعها من قبل عمل فني جاد، واجتاحت مواقع التواصل الصور الساخرة والعبارات الضاحكة التي تتناول المسلسل بمزيد من الاستهزاء. ليُكتب لـ(الاختيار 3) أن يدخل التاريخ كأول عمل فني يكسر ذاك الحاجز الذي صنعه حكام مصر بينهم وبين الدراما، وأعجب الأعمال الدرامية على الإطلاق، حاكم ينفق أموالاً طائلة على عملٍ يمجد ذاته، فيعطي لمعارضيه سكيناً حاداً ليذبحوه به سخريةً وإهانات.
منذ عرضه خلال اليوم الأول من رمضان لاحظت انتشار موجة سخرية منه، والحقيقة أن إصرار المخابرات على إنتاج المسلسل عن أحداث انقلاب يوليو 2013 وبأجزاء متتالية،يفضح عمق إحساس النظام بأزمة الشرعية، وانحسار تصديق الناس لرواية العسكر المزورة. الأمر يشبه، على وجه من الوجوه، فكرة الهروب عبر الهوية، التي تشكلت بفعل الجغرافيا والتاريخ الحقيقيين، إلى انتحال هوية أخرى، في جغرافيا مغايرة، ويجسّد ذلك هوسه الشديد بإنشاء جمهورية جديدة، ذات عاصمة جديدة، تخاصم القديم كله وتقاطعه، وتعزل نفسها بعيدًا عن الناس الأصليين، وتقيم جدرانًا وحصونًا ومصدّات تمنع وصولهم إليها وامتزاجهم بها.
هكذا تأتي فلسفة دراما الاختيار تجسيدًا لتلك الرغبة في الاختباء من الواقع، والهروب إلى مستقبل/ تاريخ ليس في وسع أحد الاقتراب منه، لتصبح هنا امتدادًا أو انعكاسًا لفكرة اختراع جمهورية جديدة بعاصمة جديدة، بشعب جديد، يتوّهم أن يستطيع صناعته على عينه، وتشكيله وتربيته بالطريقة التي يحدّدها. كل هذه الأسلحة التي استخدموها في العبور بالمسلسل فوق جثة التاريخ الحقيقي، قد انفجرت في وجوه أصحابها، ووضعتهم في حالة دفاعية مضحكة، بعد أن ظنوا أنهم أعدوا العدّة لاجتياح واكتساح كاملين. والوضع على هذا النحو، صرت أشعر أن التعامل بجدية مع كوميديا الكذب في مسلسل الاختيار، هو بحد ذاته شكل من أشكال العبث لا يقل مسخرًة عن المسلسل.
لا جديد في مصر المحروسة، مع قدوم شهر رمضان المبارك، فقد تأكد خروجها من مجال الدراما التلفزيونية كلية، بعد أن استقر وعي أهل الحكم على دراما تجاوزتها البشرية، وإن كانت من النوع الأكثر رداءة مما عرفته في زمن طفولة الدراما
فالدراما المعلن عنها، في هذا العام، هي على المنوال نفسه الذي جرى في السنوات الأخيرة، منذ أن صار الحاكم هو مؤلف الدراما الأول، مع أنه لم يثبت أن لديه ميولاً درامية، كما لم يثبت أنه كان مشاهداً للمسلسلات التلفزيونية، نظراً لطبيعة ثقافته، وإذا كان قد أعلن في ذات يوم أنه قرأ لـ (هيكل) ولـ (موسى صبري)، قبل أن يقول إنه قرأ جميع المقالات لجميع الكتاب، فإنه لم يذكر أنه شاهد مسلسلاً، وإن كان ما علق في ذهنه هو فيلم (الإرهاب والكباب)، ورآه يعرض بالدولة، ويدعو للخروج عليها، ففاجأ الناس بما قال!
المسلسلات الهابطة لا تزداد إلا في رمضان ، المشاهد المخلة لا تتكثف إلا في رمضان ، البرامج والتصريحات والكتابات التي تسخر من مظاهر تدين المسلمين أو تحرض على منعها لا تكثر إلا في رمضان ، لا أفهم ما هي عقدة رمضان مع هذه الفئران المختبئة في الإعلام والفن والثقافة في بلاد المسلمين ؟!
الخلاصة ،عندما يكون التاريخ قريبا ، وحاضرا بكل تلك الغزارة والوضوح ، يصعب أن تغير روايته ، أو تمحو آثاره في ذاكرة الناس ووعي الناس.
mido34067@gmail.com