بهدوء
عبد الجبار دوسة
17 April, 2022
17 April, 2022
تنبيهات:
• هذا المقال طويل جداً وإن شئت سمّيه ورقة، ومع ذلك أفضل نشره كاملاً لما أرى فيه من أهمية لقراءته متكاملاً في مرة واحدة وليس في أجزاء، حتى لا يؤثر الفاصل الزمني في نشر الأجزاء، على انسياب استيعاب المضمون والمغزى.
• سيقرأ هذا المقال ربما العشرات أو المئات أو بضعة آلاف من الذين سيستهويهم العنوان أو ممن دأبوا شاكرين على قراءة ما أكتب، لكن من المهم للذين ينشطون في العمل السياسي والثوري على المستوى التنظيمي والفردي، التدبّر في المضمون والتفكير والتعامل مع كل النقاط التي يستخلصونها منه بواقعية وعقلانية، وهنا لا اتهم الناس بأنهم يفعلون العكس، ولكن هذا فقط من باب التذكير.
بناءً على تجارب الشعب السوداني في النضال من أجل استعادة الديموقراطية في مواجهة الأنظمة الديكتاتورية، بدءً بجبهة الهيئات في أكتوبر 1964، والجبهة الوطنية في 1970، والتحالف الوطني في 1985، والتجمع الوطني الديموقراطي بعد 1989م، والحركات المسلّحة واتفاقيات السلام العديدة، (جيبوتي، جدة، نيفاشا، القاهرة، أبوجا، أسمرا، الدوحة وأخيراً وليس آخراً جوبا)، ثم تجربة تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير في 2018م، والدروس المستفادة من كل هذه التجارب، وأخذاً بالمعطيات الحالية وعلى رأسها التجربة الحالية من صمود الشعب في ثورة ما بعد انقلاب 25 سبتمبر 2021م، وجملة التراكمات النضالية العديدة والطويلة المكتسبة في مقابل طول فترة الأنظمة الدكتاتورية (52 سنة).
من المهم جداً أن ندرك بأن سببين اثنين هما الأهم من جملة الأسباب الدافعة للانقلابيين لتنفيذ انقلاب 25 سبتمبر والتشبث بالسلطة. السبب الأول هو حماية أنفسهم من أي ملاحقات جنائية في الجرائم التي اُرْتُكِبَت ويُحِسّون بأنهم ضالعون أو متّهمون فيها، وآخرها فض الاعتصام وجرائم ما بعد انقلاب الخامس والعشرين من سبتمبر 2021م، وفي مقابل ذلك، لا يهم أن يجوع الشعب أو يموت بالقتل في التظاهرات أو ينهار الوطن بأكمله ويبقى مجرّد اسم، وإنما يهمهم بقاؤهم في السلطة التي تحميهم، وقدرتهم من خلالها على تأمين معاشهم والحفاظ على امتيازاتهم، السبب الثاني هو الدعم القوي الذي يجدونه من أعوان النظام السابق في حل (لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م، ومحاربة الفساد واسترداد الأموال العامة)، لأن استمرار ونجاح عمل هذه اللجنة في مهمّتها خلال الفترة الانتقالية، يعيد المؤتمر الوطني ورديفه المؤتمر الشعبي، أو إن شئت بمسمّاهما السابق، الجبهة الإسلامية القومية، أو جبهة الميثاق أو الأخوان المسلمين، إلى حجمهم الطبيعي ما قبل التمكين الذي بدأوه بدخولهم السلطة عبر بوابة المصالحة في 1977م، مع نظام مايو بقيادة الرئيس الأسبق جعفر النميري، وحينها سيجدون أنفسهم أعجز من أن ينافسوا على كسب تفويض الشعب في أي انتخابات قائمة على فرص عادلة في التنافس، خاصة بعد تجربة الحكم المريرة التي جرّعوها للشعب. استناداً على كل هذه المسيرة النضالية بتجاربها، تعالوا نقرأ ماذا في المقال.
هذه الحقائق التي سترد، تحتّم أن يكون العمل المناوئ لمناهضة الانقلاب، قائماً على حقيقة أنه سيبقى طويلاً وطويلاً جداً، إذا اعتمد النضال وسيلة واحدة فقط وهي التظاهرات المرتّبة والمجدولة في الخرطوم وربما في بعض المدن القريبة بصيغتها الحالية. لذا هناك ضرورة لوضع خطة واستراتيجية متكاملة لدحر الانقلاب وتقليل المدى الزمني لاستمراره، لأنه الآن يعيد تقوية نفسه بإعادة نظام التمكين، وتعلمون ماذا يعني ذلك. هذا العمل النضالي السياسي المطلوب، هو عمل كبير ويحتاج إلى تجرّد وعزيمة وترتيب صحيح للأولويات من كل التنظيمات السياسية الحزبية ولجان المقاومة في الأحياء والحركات المسلّحة الرافضة للانقلاب ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء العاملين من أجل التغيير، ولفعل ذلك، فهو يحتاج إلى تأسيس غرفة إدارة مركزية في الداخل وأخرى رديفة في الخارج، ونشدد على غرفة الإدارة في الخارج لأن مساحة التحرّك لغرفة الداخل ستكون محدودة بالمطاردة بالرصد والاعتقال، وذلك يعني تعطيل قدرتهم على العمل، إلى جانب أن حجم العمل المطلوب إنجازه بالتوازي خارجياً هو عمل كبير.
هناك جملة أسباب سلبية صاحبت مراحل الثورة منذ الحادي عشر من أبريل 2019م، أدت إلى ما نحن فيه الآن من ضعف للثورة، بينما الدولة والسلطة آلت إلى يد الانقلابيين، هذه الأسباب ليست محل اكتشاف جديد في هذا المقال، كل المهتمين والناشطين والمتابعين، أفراداً ومجموعات ناشطة في الشأن السياسي وتنظيمات سياسية حزبية، يعلمونها وعايشوها طوال الثلاث سنوات الماضية. لكننا نعيدها هنا في سياق يساعد في البحث عن حلول نقول عنها أنها يجب أن تكون سياسية وعقلانية وأيضاً واقعية، أي تقود إلى تحقيق الأهداف المرفوعة بشعار (حرية سلام وعدالة)، وشعار اللاءآت الثلاث، (لا تفاوض...لا شراكة...لا شرعية). وما نعنيه بالعقلانية والواقعية هنا ليس دمغ الذي يجري الآن من نضال بغير ذلك، وإنما مدى قابلية الحل للتنفيذ وقدرتنا عليه. فالعمل الكبير الذي يتم في كل أسبوع من تظاهرات وتضحيات بالأرواح والإعاقة والاعتقال والمعاناة المستمرة زهاء نصف عام منذ الانقلاب، يجب ألا تنتهي نتائجه فقط بالتكرار، لأنه يقود إلى الجمود واجترار للأمنيات بالترديد اعتقاداً بأنها ستحقق فجأة سقوط الانقلاب، فالمسألة تحتاج إلى تطوير نوعية المناهضة ووسائلها وآلياتها، وتصفيح الثورية بالعقلانية السياسية والواقعية على ضوء المعطيات والقدرات المتوافرة لدى الشعب بمختلف تنظيماته (أحزاب، لجان مقاومة، منظمات مجتمع مدني، حركات مسلّحة ضد الانقلاب، ناشطين في مختلف المنابر). وهذا يقتضي الوقوف والتفكير الواقعي للبحث عن أفضل وسائل تحقيق هذه الشعارات. فالانقلاب نفسه يدرك أن تكرار هذه التظاهرات لا تسقطه، لذلك يتعامل معها بنفس الوسائل والآليات، ولكنه في الجانب الآخر ينفّذ في مراحل ترسيخ وتثبيت نفسه وتمكّنه من مفاصل الدولة باطمئنان.
نعم نردد باستمرار عبارة (الشعب أقوى)، لكن هذه القوة ليست فقط الخروج في تظاهرات مجدولة أسبوعياً والعودة في نهاية اليوم، الشعب أقوى، تعني تنظيم وتخطيط واستراتيجيات وتكتيكات وترتيب أولويات ووسائل وآليات تنفيذ ناجعة لعمل متكامل، هي تعني قوة بث وترسيخ وعي وطني في المجتمعات لتماسك الوحدة الوطنية (مختلف شرائح المجتمع) وتوجيهها لدرء اختراقات التنازع المفتعلة التي ينفّذها النظام لإضعاف هذه الوحدة بحيث لا تستخدم في التغيير المنشود، هي تعني عمل سياسي تنظيمي وقيادي فاعل، هي تعني عمل إعلامي منظّم ومدروس ومُوَجّه في مختلف وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، هي تعني عمل دبلوماسي نوعي متواصل ودؤوب عبر القارات والعواصم مع الحكومات ودهاليز المؤسسات والمنظمات الإقليمية والدولية، وقراءة خارطة تقاطعات المصالح الإقليمية والدولية في الساحة السودانية وحجم ونوع أطماعها في الموارد المتوافرة والتي استطاعت هذه الجهات الخارجية بالانغماس فيها واستطعمها عبر وكلاء محليين، وبالتالي يعمل جاهداً للاستمرار فيها والحفاظ على نفوذ الوكلاء المحليين وتمكينهم من مفاصل السلطة، هي تعني قدرة التعامل معها في إطار تحويل اصطفاف هذه القوى الإقليمية والدولية وفقاً لاستخدام مبدأ تأمين نفس المصالح ولكن بمعادلات متوازنة تحفظ المصالح الوطنية. هذا هو مضمون شعار (الشعب أقوى) في سياق عملي والذي يمكن بتطبيقه أن يهزم الانقلاب ويستعيد السلطة. هل تَعَاملنا حتى الآن مع هذا المفهوم بما ينبغي؟ ليس بعد. قد يقول قائل، ما أدراك بأن ذلك الفهم ليس معمولاً به داخل التنظيمات السياسية ولجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني الناشطة في مناهضة الانقلاب؟ الإجابة، لا نقول إنه ليس معمولاً به البتّة، ولكن نقول إنه ليس كافياً لتحقيق الهدف، بدليل استمرار الانقلاب في تنفيذ أهدافه بوتيرة أسرع ومعدلات أكبر، بينما العديد من القيادات السياسية وأعضاء لجنة تفكيك التمكين ولجان المقاومة ما زالوا يقبعون في السجون، وليس هناك عمل قوي ملموس حتى الآن ليجبر الانقلاب حتى على إطلاق سراحهم، وأن الانقلاب الآن يتحول تدريجياً إلى نظام تمكين محسّن ومحصّن بتجارب إضافية.
ثم يأتي السؤال، كيف نستجمع ما نسمّيه (الشعب أقوى)، وكيف ندير هذه القوة لتحقيق الهدف؟ دون أن نعالج الأسباب التي سيتم ذكرها في الفقرات اللاحقة، والتي باستمرار مؤثراتها السلبية على الثورة، سيظل الانقلاب مستمراً في تحقيق أهدافه. لا بد من الإشارة إلى أننا عندما نورد هذه الأسباب، فالغرض ليس محاكمة جهة أو مجموعة أو فرد من الطيف المناهض، وإنما العِبرة بها من خلال النقد البنّاء لعملنا السياسي والثوري السابق، وتهيئة المناخ للبحث عن حلول باتت أكثر إلحاحاً لاستعادة سلطة الشعب وتوطين الديموقراطية، في ظل تمدد الانقلاب بإعادة نظام التمكين، هي إذن مراجعة وليس تراجع. إليكم قائمة تلك الأسباب التي أدت إلى لماذا نجح الانقلاب ولماذا ظللنا تحت سلطته حتى الآن.
1- التفاوض الذي انتهى إلى إشراك المؤسسة العسكرية في السلطة السياسية للفترة الانتقالية، بينما الأصح حينها هو استلام السلطة من المجلس العسكري، قد يقول أحدهم، هل كان ذلك ممكناً، أي هل كان يمكن أن يُسلّم العسكر السلطة؟ كان ذلك ممكناً بالإعلان عن حكومة انتقالية مدنية فورية ودعمها بالعمل السياسي والدبلوماسي اللازمين لثباتها في ظل زخم إقليمي ودولي كانا حاضرين؟ سيكون تشكيلها صعباً في ظل عدم التحضير المبكّر لها، لكن الزخم الثوري حينها كان أكبر داعم لنجاحها ولثباتها واستمراريتها.
2- الثغرات في الوثيقة الدستورية والتي شلّت إلى حد كبير قدرة الحكومة الانتقالية في استخدام سلطاتها بأريحية مما أدى إلى تعطيل أو تطويل تنفيذ العديد من مهام الفترة الانتقالية.
3- آلية ومنهجية إدارة ملف السلام والتي قادت إلى اتفاقية جوبا التي سبق أن أشرنا إلى وجود ملاحظات جوهرية فيها. نعم أوقفت الاتفاقية الحرب بمفهومها الثنائي بين الحكومة والحركات، والتي كانت فعلياً واقفة، ولكن لم تُوقِف الانفلات الأمني الناتج عن افرازات الحرب، والذي ظل يتنامى يوماً بعد آخر، لقد قلنا قبل بدء العملية السلمية أنه لا حاجة بعد سقوط النظام إلى تفاوض، وأن على قيادات الحركات أن تأتي إلى الداخل للانخراط في تحالف قوى الحرية والتغيير والعمل من هناك، على أن يتم لاحقاً معالجة الترتيبات الأمنية في حوار داخلي وإن احتاج إلى عون فني ومادي خارجي، ونعلم أن قادة الحركات كرروا مراراً بأنهم أعضاء أصيلين في التحالف. ثم تحدثنا عن المنهجية وعيوبها خلال العملية التفاوضية والتي خلقت الإشكاليات اللاحقة. ثم جاء القصور في منهجية التنفيذ ليدعم استمرار الفشل، فضلاً عن عدم شمول السلام كل الحركات المسلّحة، فما زالت هناك حركات خارج السلام.
4- المساحة الواسعة التي أتيحت لبعض المحاور الإقليمية والدولية بالتدخل في الشأن الوطني بتقاطعات أطماعها، وتمكين هذه المحاور من الإمساك بخيوط سيادية على مستوى صنع السياسات وأدوار مؤسسات الدولة والأفراد.
5- بعض الممارسات التي انطوت على أخطاء في أداء المجلسين الانتقاليين، السيادي ومجلس الوزراء.
6- عدم استكمال مؤسسات الفترة الانتقالية وفي مقدّمتها المجلس التشريعي والمفوضيات، والمؤسسات العدلية بمجملها وعدم انتقال الثورة إلى مؤسسات الدولة في الولايات.
7- المحاولات المستمرّة لإضعاف لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 واسترداد الأموال العامة، وقد مثّلت اللجنة بعملها الفعّال، الشق الأكثر إيلاماً لأعوان النظام السابق ومساعيهم لإفشال الثورة. وأن حلّ اللجنة بعد الانقلاب، مثل أحد أهم إنجازاتهم في إفشال التغيير المنشود.
8- تربّص أعوان النظام السابق وعملهم الدؤوب في كل المجالات لإفشال الثورة من أن تحقق مراميها، مستغلين في ذلك امتلاكهم لمفاتيح العمل في مختلف المؤسسات.
9- أطماع العديد من قيادات المؤسسات العسكرية في الاستئثار بالسلطة والحفاظ عليها عسكرية وحصرية.
10- مواقف بعض القوى السياسية باتخاذها مواقف مناوئة للحكومة الانتقالية ولمركزية قوى الحرية والتغيير، بما في ذلك الخروج أو تجميد العضوية فيها، (حزب الأمة في مرحلة ما، الحزب الشيوعي)، وقد ساهم ذلك في اتساق هذا التوجّه النقدي الذي يُقصد منه وفقاً لمتّخذيه، التقويم، اتسق مع التوجّه المناوئ للحكومة الانتقالية من دعاة إجهاض الثورة من أعوان النظام السابق، والتقت هذه القوى السياسية المتباينة ورغم اختلاف أهدافها في ناتج واحد للفعلين، وهو إضعاف الحكومة الانتقالية، وفي ذلك خدمة أكبر للمناوئين من خدمة هدف تقويم أخطاء الثورة.
11- عدم انتظام لجان المقاومة في تنسيقية مركزية من وقت مبكّر وعدم وجود ممثلين لمثل تلك التنسيقية في مركزية قوى الحرية والتغيير.
12- تبنّي قطاع ناشط في مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، بعضهم وفق مخطط مدروس وهم نشطاء النظام السابق وبعضهم انساق للتيار ببراءة وآخرين بمفاهيم خاطئة، تبنوا جميعاً خطاب النظام السابق الذي كان يشيطن المنظومة الحزبية ويرى فيها أنها أكبر مهدد لوجوده وفي الاستئثار الحصري للسلطة، علماً بأن المنظومة الحزبية هي عماد أي ديموقراطية. العجز في التفريق بين أخطاء في ممارسات بعض قيادات الأحزاب وضرورة وجود المنظومة الحزبية، هو الآخر ساهم في توسيع الشقّة بين التنظيمات السياسية الحزبية (مركزية الحرية والتغيير) وبعض لجان المقاومة وقطاع من الشارع الثائر، ونتج عن ذلك انكماش بعض قيادات الأحزاب عن التصدّي لأدوارهم الحتمية في مواجهة تحديات المشهد السياسي وتقديم الحلول العملية والواقعية ودعمها بالغطاء السياسي والدبلوماسي دون المساس بثوابت التغيير، فأصبح الشارع الثائر مكشوفاً بغياب الغطاء السياسي. هذا الفعل ساهم بشكل كبير في تشجيع قيادة المؤسسة العسكرية في القيام بالانقلاب اعتقاداً منها بأن الشارع قد يكون أكثر قبولاً لفعلهم، لكن بفشل ذلك الاعتقاد، جاء اتفاق 21 نوفمبر، والذي حمل في باطنه فشله، لتباين النيات بين قادة الانقلاب والدكتور حمدوك حيث كلٍ منهما كان يفكر في ترويض الآخر واستخدامه لأجندته، فلم ينجح الاتفاق في امتصاص الشارع الرافض أو تسجيل أي قبول، لأنه هو الآخر بُنِي على قرارات الانقلاب التي ألغت دور قوى الحرية والتغيير وأراد لها أن تكون تابعاً طائعاً.
13- التسويق دون وعي للفصل بين الأجيال، (الشباب مقابل الكبار)، وهو الآخر خطاب يخدم إضعاف ثورة التغيير. الأصل هو وجود الصالحين والطالحين في كل الأجيال، فكما يقود التظاهرات ونشاط وسائط التواصل الاجتماعي للثورة، الغالب من الشباب، كذلك الذين يتصدون للثوار في التظاهرات بالقتل والتنكيل والتعذيب في المعتقلات وفي سائر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي المضادة، بالإضافة إلى كثير من الذين لا يخرجون أبداً في التظاهرات، غالبهم أيضاً من الشباب. ذلك لأننا الآن في وطن يمثل الشباب للأعمار ما بين 15 – 35 عام، نسبة 60% من سكانه وفقاً للإحصاءات. يجب الانتباه إلى أن خطاب الفصل والتمايز بين الأجيال خطاب مدمّر للثورة ويخدم الأهداف المضادة للتغيير، وليس له مرجعية إيجابية في أي أمّة من الأمم على مدى تاريخ البشرية.
14- عدم امتلاك التنظيمات السياسية الحزبية ومنظمات المجتمع المدني ممثلة في قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة والأحياء، لقاعدة معلومات شاملة ومنقّحة ومؤكّدة للأفراد وفقاً لمعايير المؤهلات والخبرة والإلمام السياسي والبعد عن الانتماء للنظام السابق سواء أيديولوجياً أو بالانتفاع أو التوريط بغرض الابتزاز، للاعتماد عليها في اختيار الأشخاص الموثوقين لتبوء المناصب الدستورية خلال الفترة الانتقالية، بخلاف المجهودات المقدّرة التي كانت وراءها لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 ومحاربة الفساد واسترداد الأموال العامة. وبسبب غياب قاعدة البيانات وبالصيغة المنشودة، حدث الإرباك في العديد من التعيينات سواء في الجهاز التنفيذي أو العدلي وغيرهما.
15- عدم وجود الخطة (ب) للثورة (أي خطة تأمين الثورة) في ظل وجود تهديد بائن ودائم من بعض العسكريين المغامرين والساعين دائماً إلى هيمنة المؤسسة العسكرية للحكم (52 سنة من 66)، وكذلك رغبة أعوان النظام السابق في إفشال الثورة والعودة إلى دولة التمكين، بيد أن الإثنين شيء واحد.
قلنا إن الجميع تقريباً يُدرك هذه الأسباب التي قادت إلى ما نحن فيه من انقلاب عسكري أدخل البلاد في هاوية وجمود في الحلول، وعطّل ذلك الأمل البصيص الذي كان يمضي ولو متعثّراً نحو استكمال فترة انتقالية تقود إلى انتخابات في مناخ ديموقراطي. لقد كتب الكثيرون مثل هذا الذي كتبناه، وفي كل هذه الكتابات هناك قاسم مشترك هو، التحليل والتشخيص للحالة وذكر الأسباب واللوم والمطالبة بالحلول وانتقاد عدم وحدة قوى الثورة، ولكن لا أحد يريد أن يقول من يجب عليه أن يقدّم الحلول أو يقوم بوحدة قوى الثورة، الكل ينأى بنفسه ويكتفى بطرح التساؤلات؟ في هذا المقال، نحلل ونقدم الحلول أيضاً.
الأصل في تحمّل المسؤولية السياسية وتبعات العمل فيها هي التصدّي لتحدياتها، ولا ينبغي أن يُفهم من هذا القول بأن القيادات والتنظيمات السياسية لم تتصد قط للتحديات، لا هناك قدر من ذلك يتم، ولعل الزج بالعديد منهم في المعتقلات تأكيد على ذلك، لكن أركّز هنا على التصدي لتحديات تقديم الحلول دون الخوف من أن الشارع الثائر لن يقبلها. يجب تقديم الحلول والقدرة على الجلوس مع لجان المقاومة وتفنيد الحُجّة بالحُجّة، وأيهما يقنع بواقعية وعقلانية وقدرة تنفيذ الحلول التي يقدّمها، فالهدف واحد للطرفين، والوطن بأكمله في منعرج خطير.
إن تعقيدات الحياة المعيشية لا تصيب قادة الانقلاب في شيء، ولكنها تصيب المواطن العادي، استمرار وقف الأعمال والأنشطة الحياتية وسبل كسب العيش، لا تصيب قادة الانقلاب في شيء، فقد تجاوزوا الاهتمام بذلك، ولكنه يصيب المواطن. أي عقوبات اقتصادية دولية لا تصيب قادة الانقلاب في شيء مؤثّر ولكنها تؤثر مباشرة على المواطن، انهيار الوطن وانزلاقه إلى فوضى أمنية لا يصيب قادة الانقلاب في شيء لطالما هم قادرون على حماية أنفسهم وتأمين حاجياتهم. تذكّروا أن هناك من داخل الحدود ومن خارجها من له مصالح قوية في الحفاظ على الوضع القائم، ولا يتوانى في دعم الانقلاب بالحاجات الأساسية لاستمراره.
الانفلات الأمني الذي يتزايد، يصيب المواطن بشدّة، سيأتي يوم يهاجم فيه المواطن القوي المواطن الضعيف وينتزع منه لقمة العيش، وسيهاجم المواطن الأقوى ذلك المواطن القوي لينتزع منه ما انتزعه من المواطن الضعيف، وتتحول آليات القوة من جيوش متعددة هي الآن تدعم الانقلاب بما فيها القوات المسلّحة والدعم السريع، إلى وحدات متفلته تهاجم المواطن الأقوى لتنتزع منه ما انتزعه من المواطن القوى، وقد تهاجم بعضها بعضاً عندما تتقلّص المصادر ولا تكفي لهم جميعاً، فتقمع الأكثر قوة ما دونها. نحن في دولة انهارت فيها منظومة القيم ومعها انهارت منظومات الخدمة المدنية والعسكرية. فالمواطن اليوم وبرغم ما نقول عن نسبة مسؤوليته الفردية تجاه ما ينبغي عمله للخروج من هذا المأزق الوطني، فإن حاجياته الأساسية المتمثّلة في المعاش، هي التي تمثّل له أولوية، إذن من الذي يتحمّل عبء مواجهة كل هذه التحديات في الإسراع في البحث عن حلول لهذا المشهد القاتم؟ هم بلا شك التنظيمات السياسية الحزبية وقياداتها، ومنظمات المجتمع المدني ولجان المقاومة، والنشطاء الداعمين لإنجاح الثورة.
قد يأتي من يتحدث عن أن الثورة ماضية وقوية وقادرة على تحقيق أهدافها ومراميها، وأن الثورة التي مهرت بدماء الشهداء لا تقبل الحلول الوسطية وأن الدم قصاد الدم ما نقبل الدية، هذه الشعارات التي يعزّها الشعب وهي قمة أمنياته وتطلعاته في أن تتحقق، لكن يجب أن نتوقف للتفكير بعقلانية، وأن الحلول التي نقدّمها ليست وسطية، هي حلول نوعية، وهذا ما نحتاجه في هذا الجمود. منذ 1956، وحتى الآن وخلال مسيرة النضال من أجل الحرية والسلام والعدالة والحكم المدني في ظل ديموقراطية في مواجهة الأنظمة الديكتاتورية، فقدنا ما يقارب من ثلاثة ملايين شهيد، وأضعافهم من المصابين بعضهم بإعاقات دائمة، فضلاً عن التشريد بلا حدود. ليس من بين هؤلاء الشهداء والمصابين من هو أعز من الآخر، من يريد أن يُعز البعض على حساب الآخر فهو يهزم شعار العدالة الذي يرفعه، وهو بذلك يخدم الانقلاب أكثر مما يخدم الثورة. من المهم جداً أن ندرك بأن مسلسل الشهداء مستمر، وفي كل يوم وعلى امتداد الوطن نفقد شهداء ومصابين ومشردين جدد، سواء بالقتل بالسلاح أو القتل بالجوع أو القتل بالمرض، وهي جميعها مرادفات لغياب الدوّلة السوية وغياب الحلول النوعية واستمرار للجمود.
لا بد أن نعترف جميعاً بأن العالم مصدوم بجمود الأفق السياسي، خاصة بعد مشاهدته لصمود شعب امتد لعدة أشهر ضد نظام شمولي دموي، توصّل في نهايته لسلطة انتقالية بعيوبها كانت سنواتها محدودة، تعقبها ديموقراطية هي الأخرى ستحتاج إلى سنوات طويلة لتقف على رجليها. ذلك العالم الذي بدأ في دعم تلك الحكومة الانتقالية، عاد وتوقّف عن الدعم بعد الانقلاب، وظلّ يشاهد ويتابع نفس مشهد الصمود لنفس الشعب التائق للحرية يتكرر رغم الظروف المعيشية الصعبة، لكن ذلك العالم بلا شك يعيش حالة احباط لأنه يشهد التباعد بين المنظومة التي يجب أن تقوم عليها الديموقراطية والعمود الفقري فيها، وهي التنظيمات الحزبية السياسية، وبين الشارع الثائر المتمثل في لجان المقاومة في الأحياء حتى وإن تضمنت بداخلها شباب العديد من الأحزاب. هذا العالم يتابع بقلق انكماش القيادات السياسية عن التصدّي لتقديم الحلول تفادياً لغضب الشارع الثائر عليها، وهذا في حد ذاته يهزم أدوات وسائل استعادة الديموقراطية، ويقلل من أي تحرّك خارجي من شأنه أن يدعم الوصول إلى حلول. اللوحة الطاغية أمام المجتمع الدولي هي شعار (لا تفاوض ولا شراكة ولا شرعية)، لكنه أي هذا العالم الخارجي، لا يرى أي حراك سياسي يُعطي حلولاً نوعية لكيفية تحقيق هذا الشعار على أرض الواقع، وهو يُدرك أن الدولة والسلطة تجسّدها مؤسسات، وأن هذه المؤسسات هي الآن تحت قبضة الانقلاب.
لا بد أن يُدرك الشارع الثائر بأن التظاهرات وحدها لن تستعيد السلطة لحكم مدني، فهي لم تفعل ذلك في 1964 ولا في 1985 ولا في 2018م. في كل هذه الثورات، عندما شعر العسكريون بأن الزخم الثوري يتمدد ويكاد يبلغ تمامه، يبرز بعضهم، يضحون ببعض قياداتهم ويمسكون بزمام الأمور ويعلنون انحيازهم للثورة، التي أصلاً قامت لإنهاء الحكم العسكري. في حقيقة الأمر هو فعل وإن استبطن نيات حسنة من البعض، إلا أنه يوقف الزخم الثوري الذي كان ينبغي أن يكمل دورة الثورة الشعبية وتتويجها بنجاح إقامة سلطة مدنية كاملة الدسم. هناك من العسكريين من كان صادقاً في توجهه لتحقيق رغبة الشعب في التحول، ونتج عن ذلك الفعل الصادق قيام حكومات الفترات الانتقالية القصيرة التي تعلمونها، وتبعتها الحكومات المنتخبة ديموقراطياً بقِصر سنواتها، لكن تعود المؤسسة العسكرية بمنهجها وتجهض الحكم المدني وتعود الساقية، وقد تجد نفس القيادات العسكرية التي انحازت سابقاً للثورة، هي مؤيدة للانقلاب على الحكومة المنتخبة.
من يعوّل على انحياز جديد للمؤسسة العسكرية بغير نفس النهج السابق، يجب أن يعيد فهمة للمشهد السوداني عبر التاريخ، لهذا أكرر بأن التظاهرات لوحدها لن تسقط الانقلاب. فالكلية الحربية التي عمل النظام السابق على القبول فيها بتقديم الانتماء والولاء التنظيمي خلال الثلاثين سنة الماضية، بات الغالب الأعم للقيادات العسكرية الحالية المتخرّجة خلال تلك الفترة، متماهية تماماً مع الانقلاب وأكثرها أعضاء في التنظيم السياسي الذي كان حاكماً، أي أن القيادات العسكرية المهنية البحتة لم تعد موجودة، وإن وُجِدَت فهي محدودة جداً ولا تملك زمام الأمور الذي يعيد المؤسسة العسكرية للالتزام بخطّها المهني، وهذا في حد ذاته واحدة من النقاط التي تحتاج إلى المعالجة فيما إذا نجح هذا الحل الذي نقدّمه. ومن ثم فإن عشم الانحياز حتى بمفهومه السابق ليس وارداً. وما حدث في فض الاعتصام وإغلاق القيادة العامة أبوابها أمام المعتصمين الفارين من القتل، وما يجري الآن من قمع متواصل للمتظاهرين السلميين دليل على ذلك. الاستثناءات القليلة من بعض صغار الضباط الذين وقفوا في لحظات محددة في صف الثوار، ليست محل قياس للترجيح.
بعد كل هذا الحديث الطويل، والذي كما قلت إن أغلبكم يعلمه وإن ما فعلناه هو للتذكير والتنشيط، يقفز السؤال الأهم، ما هي الحلول الممكنة؟ هناك حلول لا يمكن طرحها في الإعلام ووسائط التواصل تحت مفهوم الشفافية، لأن هذه معركة شرسة وطويلة لاستعادة الحكم المدني، وبالتالي هناك حلول يمكن أن تُنفّذ لتنتشر نتائجها تلقائياً لكنها لا تُنشر، وهذه هي مهمة الغرفة المركزية لإدارة الأزمة التي نرى ويرى الكثيرون تأسيسها. ولن يتم ذلك ما لم تجلس قيادات القوى السياسية ولجان المقاومة إلى بعضها، ولا يهم من يبدأ، فالمسؤولية مشتركة.
دعونا نعيد ذكر الحلول التي لن تحقق عودة الحكم المدني كاملاً وتتمثل في الآتي:
- الخضوع للحكم الانقلابي، وهو أمر مستبعد لأنه يعني عودة النظام السابق بكامله واستمرار للدكتاتورية والشمولية التي ضدها تقوم الثورات.
- الشراكة مرة أخرى مع المؤسسة العسكرية؟ هذا أيضاً أمر لم يعد مقبولاً في ظل عدم التزام الجانب العسكري بالتعهدات السابقة والانقلاب دائماً، فضلاً عن انتظار التحقيقات في الاتهامات المتوقع توجيهها لبعض قيادات الانقلاب بالضلوع في جرائم حرب وجريمة فض الاعتصام وما بعدها.
- أن تستيقظ فجأة ضمائر قادة الانقلاب وتستثير النخوة روح الشهامة فيهم فيسلموا السلطة طواعية قائلين لقد أخطأنا ونحن طوع بنان الشعب إن أراد قصاصاً أو عفواً؟ هذه بمثابة معجزة في زمن لا توجد فيه معجزات.
- أن يتخلّى الشعب عن السلمية ويحمل السلاح لانتزاع السلطة بالقوة؟ التجارب العديدة لحمل السلاح سابقاً لم تسجّل ولم تبق أي بارقة نجاح للاقتداء بها، ومن ثم فهو حل بعيد الاحتمال.
- أن ينتظر الناس أن تخرج قيادة عسكرية تنقلب على القيادة الحالية وتنحاز للثورة وتسلّم السلطة كاملة للشعب؟ لم تعد قيادات المؤسسة العسكرية هي تلك القيادات الملتزمة بمنهجها المهني البحت ليخرج من بينها من يفعل ما تم في أكتوبر 1964 وأبريل 1985، على أحسن الفروض الضعيفة جداً، ما سيتم هو تكرار مشهد 6 و11 أبريل 2019م، أو 25 سبتمبر، وهو يعني الشراكة المرفوضة أو الانفراد.
- أن يعوّل الناس على ثورة جياع تقضي على الأخضر واليابس؟ أي جوع سيأتي أكثر مما فيه الناس الآن؟ ومن يدير ثورة الجياع ويحتويها حينما تندلع ليبلغ بها إلى بر الأمان في ظل التجاذب والتشتت الماثل الآن؟ ليس وارداً ثورة جياع ولكن شبح الانفلات الموسّع الذي تديره الجيوش العديدة هو الاحتمال الأقرب يا للأسف، وفي كل ذلك فالمواطن والوطن هما الضحية الكبرى.
حسناً ما هي الحلول المتبقّية والتي يمكنها تحقيق الهدف باستعادة السلطة المدنية؟
- الحالة الوحيدة التي يمكن أن يستعيد فيها الشعب السلطة كاملة من خلال المظاهرات السلمية، هي خروج 80% من الشعب في كل مدينة وقرية، في يوم واحد وزمان واحد، والدخول في كل المؤسسات التي تجسّد السلطة والدولة ووضع اليد عليها، بالإضافة إلى التحفظ على كل القيادات العليا في كل المستويات، توطئة لمحاكمات عادلة وناجزة لاحقة بعد استكمال ترتيبات تثبيت السلطة. بهذا السيناريو فقط يمكن أن تقود المظاهرات إلى عودة كاملة للسلطة المدنية لتبدأ مرحلة بناء الدولة من جديد على أسس سليمة. لكن هذا عمل كبير ويقتضي تحمّل تضحياته وتبعاته الكبيرة والكبيرة جداً جداً لبلوغ السيطرة الكاملة خلال الحراك الجماهيري، لأن الشعب في هذه الحالة يضع نفسه في مواجهات دامية مع قوات مدججة بالسلاح يعمل قادتها على استخدامها لحماية أنفسهم في معركة ليس فيها انفصام إلا بانتصار طرف، رغم حقيقة أن الجنود أنفسهم، أرواح ولحم ودم يخافون الموت كما يخافه أي إنسان. على سبيل المثال، فاندفاع 40 ألف مواطن أعزل على 200 جندي مسلّحين، طبعاً من الأولوية بمكان وتحت كل الأحوال إن يضع العسكريون في الاعتبار أنهم من صلب هذا الشعب الذي يمثل لهم أجداد وحبوبات وآباء وأمهات وأعمام وعمات وخالات وخيلان وإخوان وأخوات وبنات وأبناء وزملاء دراسة وأصدقاء وأبناء أحياء وقبائل، ولا يطلقوا النار عليهم مباشرة، لكن واقع الممارسات حتى الآن يضعف هذه الفرضية إلى حد كبير، فإذا تجرّد الجنود من أي قيمة أخلاقية وأطلقوا النار بكثافة عليهم لحماية أنفسهم أو حماية الأشخاص أو المؤسسات التي يحرسونها، ورغم ذلك ظل المواطنون يتقدمون نحوهم، سيلوذ أغلب الجنود في النهاية بالفرار لإدراكهم بأن نصف المندفعين سيصلون إليهم، وحينها يعمل كل واحد منهم بمبدأ (يا روح ما بعدك روح).
بلوغ هذه الحالة، أي (الثورة الشعبية العارمة والكاسحة) هو عمل كبير لم تتكامل معطياته وعوامله بعد، بل لم يتم حتى التفكير أو البدء فيه أصلاً، وليس من السهل القطع بأنها أي الحالة بمعطياتها ستكتمل قريباً، ذلك أن الحالة تتحدث عن ثبات وعزيمة وربما عشرات الآلاف من الضحايا الفوريين المحتملين في زمن وجيز، بالإضافة إلى أن هناك عوامل مضادة كثيرة تقف أصلاً عوائق أمام اكتمال تلك المعطيات وفي مقدمة هذه العوامل حجم الوعي بأبعاد مثل هذا العمل في أوساط الشعب، فضلاً عن القدرة على تجاوز التشرذم الاجتماعي السوداني الماثل الآن، حتى الآن الشعب السوداني لم يبلغ بعد معنى الشعب الواحد بالمفهوم الذي يساعد على نجاح ذلك النموذج. فما زالت هناك تباينات واضحة ومؤثّرات سالبة في مفهوم الهوية ودور القبيلة في المجتمع الوطني الكبير والمؤثرات الأيديولوجية والطائفية والمناطقية والإثنية والأطماع الذاتية والتباعد بين كل من هو عسكري ومدني، وفوق كل هذا الترتيب الخاطئ حتى لهذه المؤثرات عندما تحتاج المسألة الوطنية إلى وقفة جماعية حقيقية، إذن هناك عوائق كبيرة لإيصال الشعب لتلك المرحلة الحاسمة.
هذا يعني أن كل هذه العوامل السلبية مجتمعة، لن تساعد على قيام (الثورة الشعبية العارمة) بالصيغة التي أشرنا إليها، أو كما حدث في دول كثيرة مثل رومانيا وبولندا وتشيلي والفلبين وغيرها كثير. هذه الحالة تحتاج إلى توفر عوامل تجميع واستخدام ما نعنيه بقوة الشعب بمفهومها الذي تحدثنا عنه في فقرات سابقة. فهو إذن حل صعب التحقيق على الأقل على المدى القريب والمتوسط، حتى مع عودة القوى السياسية الحزبية ومنظمات المجتمع المدني الداعمة للتغيير ولجان مقاومة الأحياء والنشطاء السياسيين في إدراك ما هي أولويتهم في المرحلة الحالية، والعمل من خلال غرفة مركزية للتخطيط لهذا العمل الكبير وإدارته، عامل الوقت في تهيئة الشعب لمثل هذا العمل، له تأثير سلبي كبير في هذا الحل، كما أن نسبة نجاحه أيضاً ضعيفة بالنظر إلى العوائق الجمّة الماثلة، وبهذا التحليل لا ينبغي أن يذهب الناس إلى تفسير هذا الحديث بأنه استسلام أو تثبيط للهمم، هو فقط قراءة عقلانية وواقعية قائمة على الحقائق الماثلة، لتعيننا على أفضل الخيارات.
- إذن لنطرح هذا الحل الآخر، وهي معادلة العفو الكامل عن (قادة انقلاب الخامس والعشرين من سبتمبر 2021م)، بشرط تسليم السلطة للشعب، أي لحكومة مدنية كاملة، وابتعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة نهائياً، وخروج المعفي عنهم عن البلاد إلى منافي اختيارية لا عودة منها، ويتم كل ذلك بضمانات إقليمية ودولية، (الضمانات الإقليمية والدولية التي أعنيها هنا ليست مثل تلك التي اعتدنا عليها، بل هي تحتاج إلى عمل دبلوماسي عريض وعميق عبر العواصم والمؤسسات الإقليمية والدولية قبل وبعد، وفي داخل هذه الضمانات تفاصيل كثيرة لا يسع المجال للخوض فيها في هذا المقال رغم طوله). ليس هناك امتداد لهذا الحل إلى أبعد من ذلك، أي أنه لا يشمل بتاتاً النظام السابق وأعوانه.
بتقديم هذا الحل، يجب ألا يقفز البعض بالنظر إلى الأمر بمنظار الانفعالات العاطفية وترديد العبارات المألوفة بأن الأمر ثورة وأن دماء الشهداء لن تذهب سداً، وأن الثورة ستنتصر باستمراريتها، نعم انتصار الثورة حتمي، لكن باستخدام كل الوسائل. أعلم بأن مجرّد التفكير في العفو قد يسبب لنا حالة من الهيستيريا، لأن السؤال البديهي وراء ذلك هو، كيف يتم العفو عمن يرى الشعب فيهم أنهم من ارتبكوا فيه أفظع الجرائم ويجب أن يحاكموا، ولتبرئهم المحاكمات العادلة إن كانوا أبرياء، الأمر يبدو وكأننا نتجرع علقماً قاتلاً، لكن أقول، يجب ألا نفقد اتّزان التفكير لدينا في موازنة الأمور في لحظة اتخاذ القرارات الحاسمة في اللحظات الفارقة، الشعب هنا يستخدم حقّه لتحقيق هدف أكبر. فقد استعرضنا كل الحلول أعلاه، وقد تكون عند البعض حلولاً أفضل، فمن يملك حلاً أفضل يقدّمه، وذلك ما نبحث عنه، أي البحث عن حلول، ولكن ليس الهروب تحت مظلة الشعارات وتوجيه مجرد اللوم والانتقادات، لا نريد أن تُخدّرنا الشعارات فننام على أنغامها دون أن ننجح في تحقيق أي تقدّم عملي محسوس في اتجاه تحقيق هدف التغيير، ونبقى جامدين رغم الحراك الأسبوعي الذي ندفع فيه بالشهداء أسبوعاً بعد آخر، بينما الانقلاب يعزز في تثبيت أركانه وتحقيق أهدافه.
الشعب الذي يريد أن يحفظ مسيرته في الحياة ويبني أمّة، هو الشعب القادر أن يقيّم المواقف بعقلانية وواقعية ويتعامل معها وليس معاندتها لتزداد معاناته، التنظيمات السياسية التي تريد أن تبني أوطانها برؤى مستقبلية، يتقدم قادتها السياسيون ويتصدون للتحديات بتقديم الحلول العقلانية والواقعية الممكنة التنفيذ، والتي قد تتراءى للبعض أن فيها تنازلات أو تجاوزات لمبادئ وأساسيات، ولكنها في الحقيقة تطويع للسياسة في لحظة محكومة بمعطيات لا يمكن تجاوزها بأقل الخسائر إلا بتبنّي حلول معيّنة لتحقيق طموحات أمّة وإطلاق قدراتها لتلحق بالأمم، وليس تقييدها بالعجز والجمود الفكري والفرجة وترك الأجيال الشابة لتجابه مصيرها القاتم في طريق مسدود. ليس كل الحلول دائماً موائمة لكل المشاكل في كل الأوقات. التاريخ مليء بنماذج كثيرة لقيادات سياسية أنقذت أوطانها وشعوبها باتخاذها قرارات قد تبدو صعبة القبول للشعب لكنها واقعية الإدراك.
عندما وافق نيلسون مانديلا ومعه قيادات المؤتمر الأفريقي على حل الحقيقة والمصالحة، لم تكن ثورتهم في جنوب أفريقيا مهزومة، ولم يكن نظام الفصل العنصري بقيادة دي كليرك هو الآخر منتصراً رغم أنه كان يحكم ويقبض بمفاصل الدولة، لكنهم أدركوا بأن لحظة فارقة تلوح لاختيار الحلول الصعبة، الحلول التي في لحظتها كانت بالنسبة لثوار المؤتمر الأفريقي والشعب الجنوب أفريقي الثائر وفي مقدّمتهم مانديلا نفسه مثل تجرّع السم، إذ كيف يتنازلون عن شهدائهم طوال سنوات النضال الطويلة. في الجانب الآخر كان موافقة د. فردريك كليرك الرئيس الأبيض آنذاك وبالنسبة للشعب الأبيض والذين كانوا سادة الدولة، مثل تجرّع الحنظل، إذ كيف يقبلون بأن يتساووا مع من كانوا يوماً يستعبدونهم، لكنهم اختاروا ذلك الحل، لأنه كان الحل العقلاني الواقعي والممكن تنفيذه لتبقى جنوب أفريقيا مستقرة، وكانت النتيجة هي جنوب أفريقيا اليوم، وهي حفظ دماء الأجيال وتهيئة الدولة المستقرّة لهم ليبدعوا ويبحثوا عن حياة رفاهية يطوّرونها، تُرى، كيف سيكون الحال في جنوب أفريقيا لو ركب الشعب الجنوب أفريقي السود رؤوسهم واستمروا في الثورة بنفس النهج الذي كان مستمراً كراً وفراً؟ وفي مقابلهم ركب الحكام البيض وشعبهم رؤوسهم واستمروا في قمعهم وفصلهم العنصري؟ قد يقول قائل أنها مسألة زمن وينتصر الثوار، هذه القراءة تُسقط معطيات أخرى، وحينها يطول الزمن على حالة لا نصر ولا هزيمة، ونموذج ما جرى في سوريا يجيب على ذلك، بل نموذج الصحراء الغربية أبلغ.
عندما وقّع، الإمام الخميني على وقف الحرب مع العراق، كان ذلك له بمثابة تجرّع السم، لكنه بتلك الخطوة، وصلت إيران إلى ما وصلت إليه اليوم من تطور، حفظ أرواح مئات الآلاف التي كانت يمكن أن تُفقَد باستمرار الحرب التي كان ميزان القوة فيها متوازناً، ومن يستطيع أن يتصوّر حجم الدمار الذي يمكن أن تكون عليه إيران والعراق لو استمرت الحرب بركوب الرأس لأيٍ أو كلا الطرفين بحجة فرضية الجري وراء النصر الكامل. وهنا لست بالطبع من أنصار أو مؤيدي منهج حكم الخميني أو صدام حسين ولكن أركز على اختيار الحل العقلاني الواقعي في اللحظة الفارقة.
الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، ذهب إلى مفاوضات كامب ديفيد ووقّع سلاماً مع إسرائيل بموجبه استرد شبه جزيرة سيناء التي كانت محتّلة منذ حرب الأيام الستة في 1967م، وأوقف حرب الاستنزاف، كان يُدرك ورغم انتصاره في معارك 1973م، أن المعطيات الإقليمية والدولية لن تتيح لنصره أن يكتمل بما يتمناه للحرب، ولكن يمكن أن يحقق قدراً مما يتمناه الشعب المصري دون أن يزيد من معاناته التي قد تستمر بلا نهاية إذا ركب الرأس. بدون ذلك كان يمكن للمعارك أن تستمر، ويستمر الدمار بين الطرفين ولن نرى مصر بحالتها التي نراها اليوم، وكم من الأجيال حينها ستعاني.
عندما وَقّعَ امبراطور اليابان هيروهيتو وثيقة الاستسلام بعد إلقاء أمريكا القنبلتين الذريتين في الحرب العالمية الثانية في مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين وتم تدمير المدينتين ومقتل أكثر من مئاتي ألف ياباني، كثير من اليابانيين اعتبروا ذلك خيانة، لكنها كانت خطوة ضرورية لتعيش الأجيال اليابانية التي نشهد اليوم مستوى رفاهيتها وتطورها ولتبقى اليابان. قد ينبري قائل بأن اليابان هُزِمت، لذلك فعل الامبراطور ما فعله ونحن لم نُهزم بعد، اليابان لم تُهزم بالمفهوم المطلق، لكنها كانت على طريق الهزيمة بفارق السلاح الذري. ثم من قال إننا نقدّم هذا الحل بافتراض أننا هُزمنا أو سنُهْزَم، مثل هذا الحديث هو الذي يورد الناس إلى التهلكة، لأنه ببساطة يعني أن تُكَابِر اليابان وتواصل القتال وتفقد مئة مدينة أخرى وعشرة ملايين ياباني ويتم احتلالها وتدميرها بالكامل، وتبقى تحت الاحتلال إلى يومنا هذا أو يأتي نفس الحل بعد كل تلك الخسائر. وفي حالتنا، أن يستمر الشباب في مظاهراتهم الأسبوعية ويسقط في كل أسبوع شهداء ومصابين وتمتلئ رئات الآلاف بسموم ودخان البمبان لترمي بهم في المستقبل عاجزين صحياً، وعلى مستوى الوطن يزداد فقر الفقراء والمرض والدمار، أي خسائر بلا حدود، وتبقى موازين القوة جامدة، لكن يزداد الانقلاب تمكّناً من مفاصل الدولة. رغم فارق المثالين بين حالتنا والحالة اليابانية إلا أن المضمون واحد.
غزت صربيا كوسوفو، وهي التي قبلها كانت قد ارتكبت مجازر في البوسة والهرسك وفي كرواتيا، تمادى الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش وتصوّر أنه بتبني الحل الواحد وهو القوة التي يمتلكها سيواصل في ارتكاب جرائمه، ذهب الشعب الصربي معه منتشا بانتصاراتهم، طلب المجتمع الدولي منه التوقف والانسحاب لكنه رفض وكان الشعب الصربي معه في الرفض، تدخّل حلف الناتو وبدأ بضربات جوّية على صربيا واعتبر الرئيس الصربي مجرم حرب ومطلوباً للعدالة في الجرائم التي ارتكبها ضد المدنيين في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو، لم يتراجع الرئيس الصربي وكابر، لكن لم يطل الانتظار، فقد وجد الشعب الصربي أنه ولا الجيش الصربي قادران على هزيمة الناتو، وأن الإصرار والتمادي مع ما يعتقده رئيسهم من نصر آتٍ، سيقود إلى تدمير مصانعهم وبنيتهم التحتية ويعيدهم إلى العصر الحجري، اختاروا الحل الذي رأوه عقلانياً وواقعياً في تلك الظروف المحيطة، وسلّموا رئيسهم للعدالة الدولية في سبيل حفظ أرواح الملايين من شعبهم وحفظ وطنهم ومستقبل أجيالهم. قد يختلف الناس في طبيعة الحل كلٌ بمعاييره، لكن يجب أن يتّفقوا بأنه كان الحل المتاح واقعياً ومتماشياً مع تلك اللحظة الفارقة التي لم يحسبوا فيها ما يمكن أن تفعله تأثيرات المعطيات الدولية.
أوردت هذه الأمثلة ولست هنا داعماً لموقف أيٍ من القادة الذين وردت أسماؤهم، أو اعتبارهم قدوة أو حتى تبنّي حلولهم أو توجهاتهم في القضايا المبدئية التي وردت الأمثلة بشأنها أو بتفسيراتهم لما هو مبدئي أو أخلاقي، ولكني أوردتها لتأكيد حقيقة واحدة هي أنه وفي لحظات محددة محكومة بمعطيات ظرفية زمانية ومكانية، يجب أن يتخذ القادة الحقيقيون والساسة المدركون لمالات الأمور ومعطياتها من حولهم، أن يتخذوا الحلول المنطقية والعقلانية والواقعية، وقد لا تكون بالضرورة هي الحلول المثلى ولكنها الممكنة بأقل الخسائر من أجل بقاء وطن واستمرارية حياة الأمّة.
هناك مسؤولية سياسية أخلاقية يجب على الجميع بمختلف تنظيماتهم وأحزابهم التصدّي لها، وأن الهروب أو السكوت لا يجديان ولن ينتجا حلاً، والجميع في سفينة واحدة آيلة للغرق في عرض البحر. إذا نجح هذا الحل فإن دماء الشهداء لم تذهب سداً، تذكّروا، أننا فقدنا قرابة ثلاثة ملايين شهيد، وأنه خير للشعب والوطن أن يتم العفو عن عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليدين، مقابل حفظ دماء ملايين الشباب والتي تسيل يوماً بعد آخر في طول البلاد وعرضها، في وضع ليس أمامه أي أفق إذا تركناه يسير على النحو الذي يسير عليه. استعادة سلطة الشعب بأقل الخسائر وفي أسرع وقت، وكسب احترام المجتمع الدولي مرة أخرى في أننا شعب قادر على إنتاج الثورات وتتويجها بحلول سياسية عقلانية وواقعية، والبدء في بناء دولة الحرية والسلام والعدالة على أسس سليمة هو الهدف.
ما زال هناك عمل كبير في إطار تفكيك الأنظمة والقوانين التي أفسدت البلاد لثلاثين سنة وأكثر، وإعادة بناء مؤسسات الدولة وإعادة القيم، ما زال لدينا الملايين من النازحين واللاجئين الذين ينتظرون الأمان والاستقرار للعودة إلى أماكنهم الأصلية، وما زال الجميع ينتظر تطبيق العدالة واستعادة الأموال العامة والبدء في استغلال موارد الوطن لصالح الشعب، كل ذلك فقط ممكن باستعادة السلطة. نحن في أمس الحاجة إلى الاستفادة من تجاربنا ومعالجة أخطائنا السابقة في بناء دولة الحرية والسلام والعدالة، ذلك لن يتحقق دون أن تعود السلطة إلى الشعب، ولن تعود السلطة إلى الشعب إذا ظل يقود معركته بوسائل ضعيفة وغير مكافئة لما يملكه الطرف الآخر، والوسائل المكافئة لا تعني السلاح مقابل السلاح، ولكن تعني فاعلية الوسيلة في مقابل الوسيلة في الطرف الآخر، وهناك من الوسائل الكثير ما يعجّ بها قاموس السياسة. هذا الشعب المكلوم يستحق أن يستريح بعض الوقت ويكفيه ما عاناه خلال عقود.
بالطبع ونحن نقدّم هذا الحل، نتفّهم حجم الضغط على مشاعر أولياء الدم المباشرين، تذكّروا ثلاثة ملايين شهيد، وولاية الدم لا تسقط بالتقادم، أي أن نتمسّك بشهداء جدد وننسى من قبلهم، الأصل أن نضيفهم إلى قوائم من قبلهم. بلا شك كل الشعب السوداني أولياء دم، لكن أعني حجم الضغط النفسي على أولياء الدم بالمفهوم الشرعي والجنائي المباشرين للملايين الثلاثة من الشهداء الذين فقدناهم، والذين بأي حال لن يعودوا أحياءً ليعيشوا بيننا، ولكن ذكراهم هي التي تشاركنا حياتنا، لا نريد أن نجعل من استشهادهم رغم سمّوه هو الأصل الذي نعيش فيه، بل نجعل منه الدافع لحفظ أرواح الشباب لاستمرار الحياة، فاستمرارها هو الأصل. بتقديم هذا الحل لا نقلل من شأن تضحيات من أحبّوهم وفقدوهم، بل أنهم بقبولهم، يقدّمون للوطن دماء أحبائهم المباشرين من أجل صون دماء أجيال المستقبل وصون الوطن بأكمله، وبقدر ما قدّم الشهداء حينها أرواحهم بحجم الوطن، جاء الدور لنا جميعاً للتفكير بحجم الوطن لإنقاذ أرواح الشباب والوطن معاً، وليس البقاء أَسْرَى في سجن انسداد الأفق خوفاً من طرح الحلول العقلانية العملية والواقعية التي لها قدر معتبر من إمكانية التنفيذ لأن ذلك قد يُغضب الشارع الثائر، والحقيقة أن الشارع الثائر نفسه يردد بانتظام ويبحث عن أين الدور والعمل السياسي الذي يُنتج حلولاً.
إن رأس الرمح في العفو هم أولياء الدم المباشرين، وليس سهلاً من الناحية العملية، الالتقاء بأولياء الدم المباشرين لثلاثة ملايين شهيد، ليُطلَبَ منهم إقرار العفو الشخصي على نحو عملي لاستحالة مثل هذا العمل، ولكن يمكن أن يكون هناك إدراك جمعي بأن ولاية الدم مخوّلة ضمنياً للشعب بأكمله، وهنا لا بد من جهة ممثّلة لتتخذ هذا القرار نيابة عن الشعب، وقلنا إنه في حال إنشاء الغرفة المركزية لإدارة الأزمة والتي أشرنا إليها، يكمن الحل، وهي بدورها تقوم بذلك. بيد أننا ورغم طرح هذا الحل، لا يجب أن نسقط فرضية بأن قيادة الانقلاب ربما تركب رأسها وتعتقد بأن ذلك ضعفاً، وأنها بالتالي قادرة على البقاء فوق الرقاب. فإذا ما فعلت ذلك، فالتعلم أنه لن تعزو الشعب الحلول الأخرى أيضاً والتي قد تكون حينها أكثر إيلاماً.
عبد الجبار دوسة
jabdosa@yahoo.com